Friday, December 30, 2011

عام الكلمات الجديدة


أولها كلمة ثورة.
في الأيام الأولى من يناير 2011، وبعد أن شعرت بجدية الشباب الذي يتواعد عبر الفيسبوك على الخروج إلى الشارع وعمل ثورة، بحثت عن معنى الكلمة في موسوعة الإنترنت "وكيبيديا"، وابتسمت.

يوم 25 يناير، عندما نشرت على صفحتي بالفيسبوك فيديو لأول شهيد ، وكان من السويس، وصفتُه بـ "القتيل" ثم عدتُ بعد دقيقة لأكتب تعليقاً أعتذر فيه للفقيد ولأهله، مصححاً الوصف إلى "شهيد"، وفور كتابتي ظهر أمامي تعليق كتبته صديقة تعيش خارج مصر "وآه من قتل شهيد بأيدي أبناء بلده!"، كانت كلماتها بمثابة تصحيح يستكمل تصحيحي، ليترسخ وجع كلمة "شهيد" بألم انتهاك حرمة الدم على يد أبناء بلدي! هكذا تعلمت رؤية الدم المصري هذا العام، أنا ابن الجيل الذي لم يشهد حروباً ولم يعرف عنها غير ما كان يذيعه التلفزيون المصري وقت الاحتفال السنوي بالسادس من أكتوبر، هكذا عرفتُ وشاهدتُ الدم المصري يسفحه مصريون لايريدون التنازل عن السلطة، ولا يريدون من السلطة إلا التسلط على أبناء بلدهم وإخضاعهم.

يوم موقعة الجمل خفتُ من الجهل الذي يمتطي الدواب، وحزنتُ في فرحي أن يستغيث الوطنيون من أبناء بلدي بضمير العالم من عدوان حكام البلد. أليس هو نفس العالم الذي نتهمه بمعاداتنا وبالاستعلاء علينا؟ هل وصلنا إلى هذا الدرك فعلًا أن نلتمس العدل من نفس هذا العالم؟

يوم التنحي، فرحتُ كثيراً كثيراً، ولم آخذ حذراً من الإفراط في الفرح، فقد قلتُ لنفسي مهما حدث، ستظل هزيمة الديكتاتورية نكراء، ولن تمحوها السنون، فمثل هذه الهزائم التي يحاول المهزومين فيها إنكارها ومحو آثارها تزداد لمعاناً مع مضي السنين. ثمة بريق لمثل هذا الحدث يراه في المستقبل بوضوح من عايشوه هذا العام صغارا، خاصة من هم تحت الخامسة والعشرين، إني أكاد أرى ابتسامة من يقرأ هذا الكلام منهم، ها هي تتسع.


هذا العام لم تكن هناك فتنة طائفية، رغم أنه بدأ بتفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية واستشهاد عشرات الأقباط المصريين، هذا العام كانت هناك أعنف وأكبر محاولات إثارة الفتنة الطائفية، لكن لم تكن هناك فتنة طائفية. لا أستطيع القول أن من أثاروها هزموا، فقط أؤكد أنهم لم ينتصروا، وأن الكلمة: "فتنة طائفية" ليس دقيقة في ذاكرة 2011، هناك صور المصحف والصليب في التحرير، وهناك صلاة أتباع كل دين في حماية الآخرين بالتحرير؛ هناك شهداء من هنا ومن هنا من أجل "تحرير" البلد.
كلمات كثيرة اقتحمتنا هذا العام، لعل أهم وأخطر ما فيها أنها حفرتْ حفراً في ضميري وضمير كثيرين من أبناء بلدي خلال عام لم يمر سريعا، أبداً، لقد انتظرنا هذا العام سنوات، بل وانتظرنا ما هو أثقل منه ليعوضنا عن عقود فاتتنا، منذ أن كشف الضابط حسني مبارك عن سوءاته وقبحه، منذ أهان كرامة الشعب وتاريخه، أهان كل شيء حتى شرف الإحساس بالفقر، هذا الشرف يكاد أن يكون مصري الروح، وقد قتله ذلك الفاسد، أو هكذا اعتقدتُ لأكثر من عشرة أعوام كنت قد يأست فيها تماماً، حتى أطلَّ هذا الجيل الشاب بعنفوان المؤمن بفكرة "الحق"، وياله من إيمان.

عرفتُ كلمات بلطجي النظام، وحكم العسكر، والفلول، وتجار الدين، وكذلك عرفت النبلاء، هم كأشباح تهب نفسها للقيمة، وللوفاء، وللحق، وللحرية، هم يحبون الحياة، لذلك يأبون أن يعيشوها مزيفة، فإما أن تكون حياة حقيقية أو أنها كذبة، إما أنها بصيرة يرون بها الدنيا ولو بدون أعين، أو فلا ضير من التضحية ولو بالأعين. لقد أخجلتموني، ألهذا الحد أنتم نبلاء أيها النبلاء؟! 
هذا العام، 2011، عرفتُ أن في مصر نكتة جديدة هي النكتة السياسية التي تهز عرش السلطة ولا تكتفي بدور التذكير بأن هناك شعب. وعرفتُ أن فنون الجرافيتي هي أروع ما أبدع هذا الشعب من فنون شعبية حديثة، وأن الروح التي أبدعت هذا الفن ستعيش قروناً، لقد رسم المصريون على الحوائط هذا العام فناً شعبياً يوازي ما رسمه أجدادهم على المسلات لقرون تحت وطاة الفرعون. وقد ضربوا بتضحياتهم أمثلة وحكايات  ونوادر شعبية ستعيش كثيراً، لأن الضرب والإصابة والتشوية وكل أشكال العنف المادي والجسدي والمعنوي ستتحلل كأي جثث بلا روح، بينما ستظل علاماتها في أجساد من تعرضوا للأذية شواهد فنية كـ "أمثولة شعبية" على التضحية، تعيش بين الناس وتمشي في الأسواق، ستكون كالمثل أو كالحكاية الشعبية، رحالة تعبر الأمكنة والأزمنة.

يا مصر، لقد عشنا سنين فيما كنت أصفه بأنه "بحيرة السياسة الراكدة"، وها أنت تموجين؛ إلى أين سفينتك تبحر وهي تنشد حرية أبنائك؟ لا يهم، فأينما يممت وجهك من أجل الحرية فأنت في طريق السلامة، فقط لا تستسلمي ثانية لعفن البحيرات الراكدة، ولو خدعوك بكلمة استقرار؛ موج البحر هو حياتك.

أحمد غريب

Friday, December 16, 2011

الشهيد

شهيد الأزهر الشيخ عماد عفت- استشهد يوم 16 ديسمبر 2011  

أحمد غريب
إذا عددنا أربع أو خمس مهمات رئيسية للجندي في أي جيش سيكون القتل في مقدمتها؛ مهمة الجندي أن يقتل، ولكي لا يعد قتله جريمة لابد أن يكون القتال ساحة معركة، وأن يكون لفعل القتل شرعية كالدفاع عن الوطن أرضه أو شرفه أو أبنائه وبناته أو مقدراته. غير ذلك فالقتل جريمة وإذا علم الجندي أن الأوامر الصادرة تخالف القانون فعليه رفضها أو التحايل عليها حتى لا يكون شريكاً مع قائده في الجريمة. القائد هنا شريك أصلي.

ثورة يناير حقوقية، ضد التعذيب وضد احتكار السلطة، وضد احتكار المنافع. ثورة يناير لاتزال تمنحنا الشهيد تلو الآخر، بينما تتضاءل صورة بعض ممن يلبسون رداء الدين وقناعه؛ فهم من كنا نظن أنهم يحبون الآخرة بنفس قدر محبة الدنيا، وأنهم حقوقيون حتى النخاع يقولون الحق عندما يجور السلطان، لكنهم خافوا حتى في تقديم بلاغ بصفة "نائب برلماني" ضد أي شخص في السلطة، ولو ذراً للرماد  في العيون.

 ليس المطلوب أن نكون كلنا على نفس القدر من الشجاعة أو التضحية، لكنه "الاعتراف"؛ تلك الشفرة الاجتماعية التي تجعلنا نقول أن فلاناً شهيد، لأننا نشعر بتضحيته، أو بأنه فقد حياته ظلماً وقت أن رفع رأسه وصوته مطالباً بحقوق عامة تعنيه وتعني غيره من أبناء الوطن.
حتى الآن، كل اعتصامات ثورة يناير حقوقية، سواء التي مهدَّت لها، مثل الاعتصامات أمام مجلسي الوزراء والشعب في آخر عامين من حكم مبارك، أو اعتصام الثمانية عشر يوم ذلك الاعتصام الكبير الذي أسقط مبارك، أو تلك الاعتصامات التالية سواء كانت فئوية تنظمها جماعة تتعرض لظلم وإجحاف، أو جموع متنوعة من الشعب تطالب بإصلاح وزاري أو قانوني أو سياسي، أو حقوق مهدورة تتعلق برعاية المصابين وأهالي الشهداء.

ها قد عدنا لكلمة "شهداء". ذلك الختم الاجتماعي الذي يحمل قداسة وتكريماً من أبناء الوطن الأحياء لمن فقد حياته وهو على طريق المطالب بحقوق أبناء الوطن. كم يجرح مسمَّى "شهيد" مَن قتل! كم تخيفه، وتنفي عنه مؤهلات الانتماء للوطن! كم تسحب منه شرعية مشاركة الآخرين نفس الأرض وخيراتها؛ حتى لو أدين وحوكم وسجن، بفرض أن السجن هو العقوبة، لا يُحدِث السجن مفعول التطهير في أعين المجتمع لأنها ليست جريمة عادية، ليست جناية، ثمة مرتبة أخرى لمن يقتل شهيداً ربما لم ينحت المجتمع تسمية لها، لأنه لم يتعايش مجتمع مع مثل هذه الحالة؛ حتى كلمة "خائن" لا تدل لعموميتها.

 أن تقتل ضحية غير أن تقتل شهيداً.

لم أكن أعرف الشيخ الشهيد عماد عفت قبل اليوم، فقط اليوم بعد أن غادرتنا روحه عند الاشتباك بين جنود تابعين للسلطة الحاكمة في مصر والذي تطور إلى عقاب جماعي مؤلم بدنيا ونفسيا، ثم قتل وسحل وتنكيل وإهانة، فقط اليوم استمعت لبعض من أحاديث هذا الأزهري الدينية ومواعظه، رحمه الله، هذا داعية حلو الحديث يبسط الأمور ليزداد حب المستمع في العبادة؛ بالتأكيد "خسارة" أنني لم أعرفه من قبل، وخسارة أنه غادر دنيانا فلن نستمع لأحاديثه، وبالتأكيد خسارة أن نفقد إنساناً وطنياً فدائياً يمنح نفسه قولاً وعملاً لغاية أسمى.

 وبالتأكيد خسارة أن نفقد الأشخاص الذين يجسدون القيم؛ فما أندرهم. رحمه الله لأمثاله الشهادة ثوب. فكم احتار الشيخ عماد بين ارتداء زي الأزهر ليلقي المواعظ أو ارتداء البنطلون الكاجوال في الميدان.. وها هو يرتدي ما يليق به الآن.

في مجتمعنا تمتد جذور عهد الشهداء إلى التاريخ القبطي، ويسير المفهوم رحلة تتشعب فيها معاني ومسببات الشهادة مع التاريخ الإسلامي، دفاعاً عن العقيدة أو الأرض أو...، ثمة ألم نعيشه نحن معاصروا الزمن الحالي، فشهداؤنا تعصرهم القطارات غير المُصانة، المهملة بوضوح لأنها ليست قطارات "الناس اللي فوق". وتغتالهم السفن المهترئة، لأنها ليست ما يستخدمه القادرون، كل ما يرتبط بكفاح الإنسان المصري من أجل عيش كريم يشبه أمثاله من المجتمعات العريقة ذات الثروة البشرية الجيدة والموارد القابلة للتنمية، كل ما يرتبط بكفاح الإنسان المصري لتحسين حياته يوضع على حافة الموت، وما أسهل أن يسقط.

الشهيد لعنة على قاتله. ومجتمع المظلومين الذي عاشه المصريون من خلال علاقة "الجلاد والضحية" منذ معتقلات الخمسينات غير مجتمع الشهداء والمصابين. لا يمكن أن يتعايش القاتل والقتيل معاً تحت السقف نفسه. انتبه يا من تستسهل القتل وتستبيح الروح.

 وحذار يا من تنتوي التلاعب بكلمات الدين فتصنف هذا شهيد وهذا غير ش...؛ من يمنحك مكافأة مقابل تلاعبك ذلك يملك من الشرعية لقتلك أكثر مما حصل عليه منك كتبرير لقتل الشهيد.

يا قاتل الشهيد، لا يمكن أن يمنحك أي جهاز إعلامي مهما كانت مصداقيته حقاً في هذا النوع من القتل. ولم يعد الأمر قابلاً للتستر بتفسير الأمر كقتل خطأ. ليس هناك خطأ فيما يحدث. هناك فقط مفاجأة يتلقاها القاتل أنه لا يحقق أهدافه. هدف القاتل من عملية تخويف جماعي هي أن تنسحب الجموع، فتتوارى جريمته، إنها الطريقة الوحيدة التي يهرب بها من معايشة الجريمة، القضاء التام على خصمه، ليس بقتل الجميع، ولكن بدفعهم إلى نسيان القضية وسحبها من الساحة خوفاً.

ثورة يناير ضد الخوف. وهي ليست برلماناً فقط أو انتخابات يتسلم بعدها مجموعة من الأشخاص مفتاح إدارة مطلقة للبلد ليحكموا شعباً خائفاً.

ثورة يناير ثورة حقوق، وممارسة مستمرة لهذه الحقوق، ولن يحصل أحد على شرعية سياسية بالخوف، لقد مضى هذا الزمن، لم يعد هذا الإنسان الخائف موجوداً، وكلما تم تفريق جموعه احتشد مرة أخرى بطريقة غير التي سبقت. لقد انتهت علاقة الجلاد والضحية التي أصابت المجتمع بفصام في الشخصية عانى منه عقوداً. فكيف يتخيل هؤلاء الحمقى أن يقبل الشعب الذي رفض الجلاد والضحية علاقة القاتل بالشهيد؟

الشهيد علاء عبدالهادي

Wednesday, December 7, 2011

الدستور المصغَّر يدعم الاستقرار ويختصر فترة الحكم المؤقت


فكرة الدستور المصغر تعني إعداد مجموعة المواد الدستورية الخاصة بالرئاسة أولاً.
 وتتضمن تعريف النظام السياسي للدولة، ومهام الرئيس وكيفية إسناد السلطة له، وكيفية تداول الرئاسة، والانتخابات الرئاسية...إلخ هذه المجموعة التي لا يحتاج إعدادها من اللجنة التأسيسية سوى فترة قصيرة من الوقت، ليعرض هذا الدستور على البرلمان، ويتم الاستفتاء عليه، دون الحاجة لانتظار اكتمال إعداد الدستور الدائم للبلاد ثم بعدها تبدأ الانتخابات الرئاسية
.
هذه الفكرة وافق عليها الإسلاميون والعلمانيون في تونس، بهدف اختصار الوقت الذي تقضيه البلاد تحت الحكم الانتقال المؤقت.

ونحن بحاجة لتطبيق هذه الفكرة في مصر، فإذا كان المشير طنطاوي وعد بتسليم الجيش الحكم لسلطة مدنية منتخبة قبل يونيو، فهذا هو الطريق الشرعي لتنفيذ هذا الوعد. وإذا كانت القوى السياسية التي هرولت إلى اختيار الانتخابات البرلمانية أولاً صادقة فعليها أن تتبنى الاقتراح، وتسرع في تنفيذه. إلا غذا كان هناك مصلحة في اقتسامها السلطة مع الحكم الانتقالي.

بالنسبة لدعاة الاستقرار، وهو مطلب يريده كل مصري وليس فقط من يتطلعون إلا استقرار البورصة، هذا ما يحقق الهدف.وهدف الاستقرار يشمل مطالب أخرى غاية في الأهمية مثل عودة الأمن إلى الشارع، وعودة البلد لتلعب دورها السياسي الإقليمي، وغير ذلك من وجود سلطة تستطيع اتخاذ قرارات تنموية كبرى، بالبدء في إقامة مشاريع وتقرير المواقف السياسية التي تليق ببلد إقليمي هام مثل مصر، فتتابع ملف المياه، والملفات الدولية الأخرى.

 إن مصر لا يمكن أن تغيب كثيراً عن الساحة الدولية، وحالياً لا يوجد دولة مهمة يعنيها الاتفاق مع الحاكم المؤقت لمصر، لأن الاتفاقات مع مصر على أية ترتيبات تعني استمرار الاتفاق لسنوات، وأن تتخذ إجراءات لتنفيذه. مصر بلد كبير.

فكرة الدستور المصغَّر يمكن أن تكون مطلبا شعبياً، فقط عليك تبنيها والترويج لها بالطريقة التي تراها مناسبة لتصبح مطلباً شعبيا.
إنه أول مطلب نطلبه من البرلمان الذي انتخبه الشعب ، نريد دستورا مصغرا يختصر فترة الحكم الانتقالي لتتحرك سفينة البلد إلى الأمام، وإذا كان المجلس العسكري والأغلبية البرلمانية صادقين فليسلكوا الطريق المختصر من أجل تسليم الحكم لسلطة مدنية منتخبة، وليترك المجلس والإخوان لعبة الشد والجذب حول من يكتب الدستور، وميزانية الجيش، ويعملا لصالح الشعب، والفصل في بقية الأمور يأتي بعد ذلك.

نياجرا.. حكاية نهر شاب عمره 12 ألف عام

أحمد غريب
تجتذب شلالات نياجرا بشقيها الكندي والأمريكي 12 مليون زائر سنوياً، ليشاهدوا إبداعاً طبيعياً حافلاً بالدهشة والأمل وتدفق الحياة، حيث تلتقي مصبات البحيرات العظمى في نهر نياجرا الشاب الذي خرج من عصر الجليد منذ 12 ألف عام فقط. يلتف مسار النهر بزاوية 90 درجة عند المنحدر حول جزيرة الماعز الصغيرة غير المأهولة، والتي تقسم مصب الشلالات إلى مصبين: الأكبر على شكل حدوة حصان، ويقع معظمه في الأراضي الكندية، والأصغر يقع في الولايات المتحدة، وهما يشكلان معاً ثاني أكبر شلالات في العالم بعد شلالات بحيرة فيكتوريا الإفريقية.
  وقد أصبحت نياجرا مزاراً سياحياً شهيراً منذ عام 1820، عقب الحرب الأمريكية الكندية  عام 1812 التي حسمت الحدود بينهما. ومنذ ذلك الحين، أصبحت رمزاً لخصوبة الطبيعة، ووجهة مفضلة للمتزوجين حديثاً وللراغبين في عقد القران، وللباحثين عن تجديد الحيوية وتنسم هواء مفعم بروح الحياة.
تقع شلالات نياجرا على مسافة 120 كيلومتراً من مدينة تورونتو، عاصمة مقاطعة أونتاريو الرئيسية بكندا. ويبلغ ارتفاع مصب شلال حدوة الحصان 53 متراً وعرضه 790 متراً. بينما يصل أكبر ارتفاع للمصب الأمريكي 30 متراً، وعرضه 320 متراً. وتعد عملية تعرية المصب من أحدث الظواهر الجيولوجية على سطح الأرض، وهي لاتزال مستمرة بفضل الانهمار القوي لكميات ضخمة من المياه، تصل في موسم الصيف إلى 5700 متر مكعب في الثانية، بينما يبلغ المعدل في الشتاء 1400 متر مكعب في الثانية نتيجة تجمد البحيرات التي تغذي النهر.
يخلف انهمار الماء رذاذاً هائلاً، هو أحد متع زيارة الشلالات، حيث تُنظَّم رحلات بحرية باليخوت، والتي تقوم بالاقتراب لأقصى حد ممكن من شلال حدوة الحصان، ويرتدي ركابها سترات واقية من الماء، والذي يظل يدفع اليخت إلى الوراء كلما حاول الاقتراب، بينما يختبر ركاب اليخت متعة آمنة يتحدّون فيها قوة الطبيعة. يمكن الاقتراب من مصب شلال حدوة الحصان الهادر عن طريق النزول إلى نفق خلفه ومشاهدته وسماع صوت الهدير عبر فتحات في النفق، كما يتيح التلفريك فرصة مميزة للاقتراب والانغماس أكثر في المغامرة.
 يتفاعل الاستمتاع بالرذاذ وإشباع النظر والحواس بغزارة كل ما هو طبيعي، مع الضوء ودورة الشروق والغروب ، حيث يتجمل كل ما في المكان بألوان خلابة تتغير مع اختلاف إنعكاسات الضوء. وحين يأتي المساء، تُنار الشلالات بأضواء ملونة، وتطلق الألعاب النارية كل ليلة إذا سمح الطقس بذلك. لكن تظل حدائق نياجرا الغنية إلى حد الخيال، وطرقات المدينة المنحدرة، والهواء النقي متعة خاصة تضفي على المكان عذرية وخصوبة.
تشكل محمية الفراشات قلب ما يعرف بحدائق نياجرا، وهي أحد أهم المعالم السياحية الحديثة في المدينة. افتتحت عام 1996 وتقع وسط مدرسة فنون الزراعة التي تمتد على مساحة 40 هكتاراً، وتبعد مسافة 9 كيلومترات من مصب الشلال. تعرض المحمية أكثر من 2000 نوع من الفراشات، تم جلبها من 60 دولة، تحت قبة زجاجية تبلغ مساحتها 1022 قدم مربع. ويمكن للزوار جذب الفراشات إلى ملابسهم عن طريق ارتداء سترات ملونة ورش العطور، وهي إحدى الأنشطة المتوفرة خلال الزيارة. وتنتج محمية الفراشات، الفريدة في مهمتها فرادة الشلالات، حوالي 45 ألف فراشة سنوياً، وتغذي زيارتها الحواس بسخاء بما تعرضه من أشكال وألوان وأجواء خصبة. ويوجد في المحمية مسرح مجهز بـ 200 مقعد لمشاهدة
أفلام عن دورة حياة الفراشات وتوالدها ومواطنها الأصلية.




Photo: OTMP

اكتشاف الشلال
إن تاريخ الإنسان في هذه المنطقة العذراء، والتي يتوجه إليها حديثو الزواج لقضاء شهر العسل، تاريخ أشبه بالومضات، فقد عاش إنسان ما قبل التاريخ (بين 3 آلاف و12 ألف سنة) على ضفتي نهر نياجرا، أي منذ ذوبان الجليد الذي كان يغطي هذه المنطقة بالكامل. ثم شهدت المرحلة التالية (منذ 3 آلاف إلى نحو 300 سنة مضت) تجمعات بشرية استوطنت المنطقة، وهي الفترة التي تم فيها أكبر قدر من عملية التعرية لمصب الشلال بسبب تزايد ذوبان الجليد، وتعاظم موارد النهر المائية، ما جعل سقوط الماء هادراً قوياً، وعمق من مستوى الأرض تحته، بل إن المصب نفسه إنقسم إلى شقين يحصر بينهما "جزيرة الماعز" Goat Island ، وقد تم الانقسام منذ 500 عام حسب تقديرات علماء الجيولوجيا. لكن لسوء الحظ، دمر المستكشفون الأوروبيون هذه التجمعات البشرية للسكان الأوائل التي كانت قد تخطت مرحلة البدائية، وتميزت بثقافة غنية على المستويين الروحي والاجتماعي، كما كشفت عمليات التنقيب والبحث التاريخي عن تميزها بنشاط زراعي وعلاقة خلاقة استوحت سخاء الطبيعة واستخدمت نباتاتها وأشجارها في تطوير طرق المعيشة.
ويرجع تاريخ استكشاف شلالات نياجرا إلى الحكايات الأولى التي سمعها المستكشف الفرنسي جاك كارتييه  Jacques Cartier عام 1535 من السكان الأوائل للمنطقة، والذين عاشو حول بحيرة أونتاريو الكبيرة التي أعطت اسمها للمقاطعة. وقد توالت إشارات المستكشفيين الفرنسيين نقلاً عن حكايات الهنود الحمر إلى الشلال العظيم منذ ذلك الوقت ولمدة 80 عاماً من دون أن يراه أحدهم بعينيه. ويعتقد أن المستكشف إيتيان برول Etienne Brule  الذي زار كندا عام 1615 كان أول أوروبي يشاهد بحيرة أونتاريو العملاقة وجانباً من بعض البحيرات العظمى وشلالات نياجرا. وفي العام نفسه، زارت المنطقة بعثة تبشير يسوعية، وكان الأب جابريل لالومانت Gabriel Lalemant أول من سجل اسم النهر Onguiaahra  كما سماه الهنود الحمر، ويُعد نياجرا Niagara تبسيطاً للكلمة، لكن ثمة نظرية أخرى تقول إن كلمة Niagagarega التي ذكرها المستكشفون الفرنسيون كاسم لأحد مستوطنات السكان الأصليين خلال القرن السابع عشر هي أصل التسمية.
في عام 1678 زار القس الفرنسي لويس هنيبن Louis Hennepin الشلالات، ثم نشر بعد زيارته بـ 19 عاماً كتابه "الاكتشاف الجديد"Nouvelle Decouverte  الذي تضمن أول تقدير موثق لارتفاعها، ويبدو أن تساقط الماء ترك في نفسه أثراً باهراً حيث قدر ارتفاع الشلال بـ 183 متراً، أي أكثر من ثلاثة أضعاف الارتفاع الحالي! وترجع هذه الحالة من التأثر إلى اتساع عرض الشلال وضخامة كل من كمية الماء المنهمر والرذاذ المتولد عنه.
خلال القرن التاسع عشر، وعقب حرب عام 1812 وترسيم الحدود، شهدت المنطقة تنمية واسعة
تمثلت في نمو التجمعات السكنية الثلاث التي التحمت مكونة مدينة نياجرا. كما تمثل
النمو في عدد كبير ومتنوع من الجسور شُيدت لتصل ضفتي النهر أو الجانب الأمريكي بالكندي، أشهرها
الجسر المعلق الذي صممه جون أوجست روبلينج John August Roebling عام 1855، وقد كان
الأول من نوعه وتضمن مساراً للسكك الحديدية، وروبلينج هو أيضاً مصمم جسر بروكلين
الشهير في نيويورك. وقد بلغ عدد الجسور التي شيدت خلال القرن التاسع عشر 20 جسراً
تبقى منها أربعة إلى الآن تصل ضفتي نهر نياجارا، والذي يمضي 24 كيلومتراً فقط بعد
الشلال ليصب في بحيرة أونتاريو العملاقة، وبذلك يصل ما بين البحيرات العظمى الأربع
وشقيقتهم الخامسة أونتاريو.
 تشتهر منطقة نياجرا بنشاط سياحي مكثف، ومن أشهر الوجهات فيها مدينة "مارينلاند" الترفيهية التي
تعرض عدداً من الأحياء البحرية، منها سمك القرش وبعض الحيتان، والدلافين وأسود
وكلاب البحر، وتوفر كثيراً من الأنشطة والألعاب المرتبطة بالماء. تنخفض وتيرة السياحة في موسم الشتاء
حيث يقصد المنطقة جمهور معين وتنظم بلدية نياجارا مهرجاناً موسيقياً خلال الشتاء لاجتذاب الزوار.

نشرت في مجلة "دبي الثقافية"- مارس 2011

Thursday, December 1, 2011

وهل هو برلمان الثورة؟





 هو برلمان أفرزه الصراع على الثورة. برلمان الخوف مما حدث بعد الثورة. الخوف هو المؤثر الانتخابي الأول، وإن تعددت صوره ومصادره.

خوف العسكر من تسرب السلطة من بين أيديهم أسهم في إنتاج برلمان منزوع الفاعلية؛ رقابي، وخطابي، يمكن لأعضاءه أن يتجادلوا كما يحلوا لهم حول أداء السلطة دون إنتاجها أو قيادتها، يمكنهم تقديم النصائح، ومناقشة المواد الدستورية، التي تكاد أن تكون نمطية في معظم دساتير العالم كون العبرة بالتطبيق، لكن ليس لهذا البرلمان أن يجتاز حدود هذا الحاجز من الخوف.

هو برلمان الكتلة الإسلامية "الخائفة" من انقلاب العالم عليها مثلما حدث مع تجربة حماس والجزائر، تلك الكتلة "الخائفة" كانت أول منسحب من الميدان، وأكثر الممانعين في العودة إليه، وأول القوى الداعية للتحالف الانتخابي مع اتجاهات أخرى غير سلفية (رغم الشبه الكبير بينهما)، وأكثر القوى انصياعاً لسلطة المجلس العسكري وتماشياً مع أي نمط انتخابي، سواء فردي أو قوائم أو مختلط. إنها القوى الخائفة من الجيش ومن أمريكا وأيضاً - وذلك الأهم- من تشكك المجتمع فيها وفي قدراتها. وبقدر ما أخْفَتْ مخالبها حصلت على مقاعد في برلمان الخوف.

هو برلمان "الفراغ السياسي" الذي أنتجته الثورة بامتياز، لأنه بعد الإطاحة برأس السلطة الذي كان نزْع صورة له عملاً مخيفاً بحق، والخروج في مظاهرة على عهده أشبه بعمل إنتحاري، بعد سقوط الديكتاتور من خلال اعتصام ضخم شارك فيه الملايين انطلقت توابع الخوف الذي خزنه طوال فترة حكم طويلة، فكان الانفلات الأمني بطل الفترة الإنتقالية، وأشباح الخوف من البلطجة المنظمة المدبرة تمرح في أذهان الناس الذين طلب منهم أن يكونوا ناخبين يقولون رأيهم تحت سقف الخوف العام الذي حل مكان الخوف من سلطة مبارك وأدوات القمع في عهده.

هناك بالطبع حزب الكنبة الذي خرج للتصويت تحت تأثير الخوف من الغرامة، وهناك البسطاء الذين خرجوا للتوصيت حسماً للدماء التي شاهدوها على شاشات التلفزيون. الخوف كان الوتر والمؤثر الأول.

لا يقرر الناخب إلى أين يذهب صوته وفق عامل واحد، وهنا كان دور التخويف من شبح انهيار الإقتصاد وخراب البلد، بحيث يشمل التأثير عاملين رئيسيين الأمن والإقتصاد. شبح هذا الخوف عزفته أجهزة إعلام السلطة بكثافة بعدما سرت توقعات إيجابية رائعة في الأسابيع الأولى بعد سقوط مبارك. استعانت أجهزة السلطة بخطاب التخويف من انهيار إقتصادي ليزيح إيجابية التوقعات، فكان الكلام أولا عن تناقص المخزون الإستراتيجي، ثم تناقص السيولة، ثم تم تخفيف ذلك إلى مصطلح مخيف لكنه لا يؤدي إلى حالة هلع: عجلة الإنتاج. وهل كانت تلك العجلة تصب في صالح المجتمع عندما خرج أبناؤه بالملايين في الثورة؟ هل يثور الشعب لأن عجلة إنتاجه جيدة؟!

 الخوف هو الناخب، وبالمناسبة لم تكن تلك تجربته الإنتخابية الأولى في العهد الذي أطلقته الثورة. لقد صوَّت من قبل في استفتاء استخدم فيه وتر تخويف آخر، هو الخوف من خسارة الدين، والدخول في غياهب عدم الاستقرار بتسليم الأمر للجنة دستورية بدلا من أن تظل الأمور تحت رعاية المؤسسة العسكرية. فكان اختياره "نعم" للاستقرار وللحفاظ على الثوابت التي قيل له إن "لا" ستقتلعها!

 الآن ستتراجع قليلاً كتلة أصوات الخائفين، فلن تحصل الأحزاب "المحافظة" من دينية وغير دينية على مجموع الـ 77% التي نالها خيار المحافظة والاستقرار. فقد بدأت كتلة تصويتية من الخائفين على الهوية والاستقرار تتزحزح قليلاً باتجاه الخوف من استمرار الأوضاع الإقتصادية، ومن استمرار الإنفلات الأمني، وهو ما سيجنيه تكتل "الكتلة المصرية" ويخسره تكتل "الثورة مستمرة" التي ربما يرتبط مسمَّاها في ذهن العامة بالانفلات الأمني، وإصابات المتظاهرين والعنف؛ هنا يعمل وتر الخوف بقوة فيستبعد هذه الكتلة.

هناك طبعا قدرات الدعاية، وقدرة الوصول إلى الناس في الأحياء والشوارع الفقيرة، والقرى والمناطق العشوائية، وهي قدرة تتوفر أكثر لمن يمتلك منصات دعاية مجانية هي المساجد. وتواصلا أعرق تاريخياً مثل الإخوان المسلمين، وإلى حد ما تجمعات السلفيين التي لا تمتلك نفس العراقة من حيث تقديم الخدمات في الأحياء.

ولكن ماذا عن الأصوات المترددة التي تعرفها كل انتخابات ديموقراطية؟ هل لدينا في مصر مترددين في هذه الانتخابات؟

لا. هناك أصوات عشوائية، عمياء، لا تعرف لمن تصوت، وهي تختلف عن الأصوات المترددة، فالأخيرة يتذبذب قرارها حتى اللحظات الأخيرة، لأنها لا تعرف أو تريد التأكد من تطابق أولوياتها ودرجة أهمية تلك الأولويات مع التيارات السياسية التي تتلاعب بالكلمات. أما في إنتخابات 2011 المصرية فلا توجد هذه الحالة، بقدر ما يوجد الصوت العشوائي، الذي لا يعرف إلا القليل عن الخيارات الإنتخابية، لا يعرف بالضبط من وراء كل "كتلة" وما توجهاتها. هذا الصوت العشوائي غير الواعي يذهب دائما "للمضمون"  لشخص أو جهة يعرفها أو يشهد في حقها شخص يعرفه، شرط ألا يتعارض الاختيار بشدة مع المؤثر الذي دفعه للتصويت: الخوف.

 سيكون لهذه الفئة من الناخبين دور كبير في الجولات الإنتخابية التالية، والتي ستستمر فيما يشبه "الرالي" حتى يناير 2012، ثم تتواصل حلقة أخرى منها لإنتاج مجلس الشورى، الجهة التي ستعد مسودات الدستور والتشريعات، لترسلها لمجلس الشعب للمناقشة والقرار. ويعتبر أصحاب الصوت العشوائي من الناخبين فرصة رائعة لمن يريد أن يعدل النتيجة، شرط أن يمتلك فرصة للتواصل، وليس بالضرورة أن تكون منصة إعلامية، التواصل المباشر سيؤثر أيضاً.

"برلمان الخوف" نفسه سيكون حذراً داخل قاعة مجلس الشعب، فالأغلبية تحتاج لستار ليبرالي لا يخيف الجيش ولا أمريكا ولا القوى الأخرى في المجتمع إذا أرادت أن تفرض كلمتها. والقوى المعارضة ستكون خائفة بالضرورة من خسارة ما حازته، إذ تبقى الأمور في حالة سيولة، والناخب مستعد للإنقلاب وتغيير مواقفه بحدة. كما أنها ستخاف من التورط في تحالف مع الأغلبية تفقد بسببه هويتها الخاصة، دون مكاسب تجنيها من هذه الأغلبية، كون الجيش لايزال ممسكاً بسلطة الرئاسة. أما المجلس العسكري فلم يعد مالئاً للفراغ السياسي وحده؛ والحقيقية أن برلمان الخوف ينتج فراغاً سياسياً أكثر مما ينتج حركة تملأ هذا الفراغ.

هل يفيد ذلك القوى الثورية؟ نعم، وربما أكثر من الأغلبية الفائزة، فلايزال الغضب الشعبي والسخط أقوى مؤثر. والشعب على استعداد لمعارضة أي سلطة والتشكك فيها أكثر من تقبل سياساتها باستسلام. وإذا كان قد تم قولبة غضبه أو تكتيفه بحزام الخوف، فقد فتح بخروجه للتصويت ثقباً في هذا القالب، وفك القيد الذي تم تكتيفه بواسطته. وهو مستعد لسماع صوت المعارضة بنفس مقدار استعداده لسماع صوت الأغلبية.

وبعد، لقد لفت انتباه الجميع غياب البلطجية، الذين حملوا رسالة الخوف إلى الشوارع - لمن لم يفهمها عبر الإعلام - ولكن لو ظهروا يوم التصويت لأربكوا الناخب، وربما كان رد فعله نوعاً من الشجاعة والمغامرة في التصويت؛ كون العنف يولد دفاعات ضده، لذا كان غيابهم إتاحة للفرصة ليعبر الناخب عن مخزون الخوف لا ليقاومه.

أحمد غريب