Tuesday, January 14, 2014

السياسة بعد الاستفتاء

 
 
منذ استفتاء مارس 2011 الذي صوت فيه 77 بالمائة من الناخبين لصالح إصلاح دستور 71، وليس كتابة دستور جديد، بدا للكثيرين أن اختيار إعادة ترميم وإصلاح النظام القديم هو مطلب أغلبية الشعب لأسباب عديدة.
في طليعة تلك الأسباب التي جعلت المجتمع يحجم عن ارتياد طرق جديدة في البحث عن إجابة لأزماته التي قادته للثورة فراغ السياسة والضعف الحزبي، وعدم استطاعة الثقافة الليبرالية أو اليسارية الانتشار بين قطاعات كبيرة من الناس بالدرجة الكافية لخوض تغيير خارج المسار التقليدي، إضافة إلى هيمنة المؤسسة العسكرية لفترة طويلة على مفاتيح السياسة وكواليسها وصبغها مفاهيم الإدارة بصبغة تحمل طابعها وأسلوب أدائها، ناهيك عن سيطرتها على قطاعات حيوية من الاقتصاد بعضها استراتيجي مثل قناة السويس.

كذاك عزز أفضلية المسار التقليدي الزخم الذي تمتع به تيار الإسلام السياسي، والذي شهدت جماهيريته تمدداً كبيراً على أنقاض الثقة المنهارة في نظام مبارك، والتراجع الكبير للتوجهات الليبرالية الهشة بطبيعتها خلال الحرب الأولى على الإرهاب في التسعينات، أو حرب مبارك على الإرهاب، والتي انتهب بتقييد المجال العام وابتلاعه من قبل عملاء الأمن ورجاله تماماً، بحيث تم احتواء نزعة التدين الجماهيرية بواسطة دعم النظام لتنظيم ديني تابع له مثلته الاتجاهات السلفية، ليكون منافساً لتنظيم الإخوان المسلمين الذي تزايدت جماهيريته ليصبح المعارضة بالكامل تقريباً.

لبّى السلفيون الطلب الجماهيري على التدين خارج إطار الكيانات الدينية الرسمية (خارج الأزهر)، وقد مكّن حضور الإسلام السياسي الكبير تياراته من دعم عملية توجيه الثورة نحو فكرة ترميم النظام، مقابل لعب التيار أدوار جديدة تكسب له مزيداً من الأرض السياسية، وانعكس ذلك في فوز الإخوان والسلفيين بأغلبية ديناميكية في البرلمان مكنتهم من الاستحواذ على معظم عملية الترميم تقريباً.

لكن ثورة يناير كانت حدثاً عظيماً بكل المقاييس، وغير مسبوق في ثقافتنا، ولعل ما كشفه كتاب "إجهاض الديموقراطية" (1) لجيسون بروانلي Democracy Prevention عن جدل مبارك وأوباما حول توقيت استقالة مبارك وتخليه عن السلطة يفسر لماذا ظلت هذه الثورة تندفع للأمام وتجذب جماهيراً ومؤيدين لفترة طويلة، عوّضت خروج الإخوان عن صفوفها، وانحياز تيار الإسلام السياسي كله لفكرة ترميم النظام.

كانت رؤية أوباما، بحسب براونلي، أن بقاء مبارك في السلطة وإشرافه على ترتيبات تعديل الدستور وفتح المجال العام من أجل تداول السلطة سيبقي هؤلاء الثوار في الشارع، وهو ما يهدد الاستقرار في مصر، ويمثل هذا التهديد خطراً قد تقع السلطة بسببه في يد من لا يتقبل الهيمنة الأميركية على الدور المصري الإقليمي، ويعرقل الخدمات العسكرية التي يقدمها الجيش المصري للقوات الأميركية، والخدمات الأمنية التي تقدمها المخابرات المصرية لحساب الولايات المتحدة. كانت تقديرات الإدارة الأميركية لاحتجاجات 25 يناير الشعبية أقل من الحدث بكثير، وقد زاد ذلك من شكوكها فيما يمكن أن يحدث من تداعيات، وعزز مخاوفها تجاه خروج السلطة من أيدي حلفائها بالكامل دون أن تقوم هي بالترتيب مع بديل.

وجهة نظر أوباما كانت تلبية تطلعات هذه الجماهير، وإعادتها خارج المعادلة، لكن وجهة نظر مبارك كانت التحذير من أثر خروجه من السلطة بهذه الطريقة قائلاً "أنت لا تعرف ثقافة هذا البلد"، بحسب براونلي، وكانت النتيجة أن لجأت الإدارة الأميركية للاتصال المباشر بعمر سليمان وطنطاوي لترتيب انتقال السلطة دستورياً، ونتيجة عد وجود حل دستوري وافقت أميركا على انقلاب ناعم تنتقل فيه السلطة للجيش الذي يحظى بقبول شعبي.

هذه النقطة أي خروج مبارك بهذه الطريقة كاستجابة للضغط الشعبي، في رأيي، كانت مصدر الزخم الكبير، والأمل، الذي ضرب أعصاب الشعب المصري بقوة، وجعل الكثيرين يثقون في قدرة الشارع على تسيير الجبال، وكنت ثمرة ذلك بقاء ما أسميته "الكتلة الحرجة" (2) في الشارع حتى بعد خروج الإخوان من الصف الثوري.

الكتلة الحرجة في ميدان التحرير لم تنتصر سوى بالقدر الذي يسمح لها بتشكيل مدينتها الفاضلة في الميدان، لكنها لم تستطع، لا عددياً ولا تنظيمياً ولا أيديولوجياً، فرض نظرتها على قوى السلطة، ناهيك عن أنها لم تستطع الاستحواذ على أي شكل من أشكال السلطة، لكنها في المقابل ظلت كتلة غير قليلة، وغير قابلة للبلع، ولا للإزاحة، ولا للتهميش كما راهنت السلطة عندما قبلت مشاركة الإخوان في الحكم، بالبرلمان أولاً، ثم بالرئاسة منزوعة الهيمنة على المؤسسة العسكرية ثانياً من أجل تهميش هذه الكتلة واستعداء الناس ضدها.

بالعكس، ظل زخم النتيجة التي أسفر عنها اعتصام الثمانية عشر يوماً يدفع بالموجات الثورية، ويحشد من تلقاء نفسه الجماهير، ويدعو مزيداً من الشباب إلى الميدان، وإلى الانخراط في تشكيلات شبابية داعمة للثورة، تدفعهم آمال كبيرة.
لعل أهم نتائج استمرارية الكتلة الحرجة القادرة على تمديد عمر الثورة هو أن المجتمع استطاع بنفسه أن يتخلص من سطوة استخدام الدين في السياسة، وهو بالمناسبة ليس ضاراً بالإخوان فقط، وإنما بالأجهزة الأمنية التي رعت وبنت خلال سنوات ما يشبه "التنظيم الديني"، ولعل التوصيف الأفضل "مؤسسة دينية غير رسمية" تجمع حولها مريدي نزعة التدين من الهامشيين وفاقدي الثقة في المؤسسة الرسمية (الأزهر).

بالطبع لم ينحسر تأثير هذه الكيانات الدينية كلية بعد اصطدامها الأخير بالكتلة الحرجة، لكن صعودها المستمر تعرّض لضربة قاصمة، وبريقها، والثقة المطلقة فيها لم تعد فقط موضع تشكيك، لقد انتهت فاعليتها الجماهيرية إلى فترة طويلة، وحتى يعاد تركيب مفاهيمها بطريقة مختلفة تماماً.

تنامت الكتلة الحرجة لأول مرة، بعدما خرج منها الإخوان وانضمت إليها روافد أخرى تنتمي للطبقة الوسطى والوسطى الدنيا، كان معظمها من الأغلبية الصامتة، أو حزب الكنبة بحسب اصطلاح ما بعد الثورة. واستطاعت الكتلة الحرجة أن تتضخم إلى درجة فاقت جماهير تيار الإسلام السياسي، وأدى ذلك إلى انقسام هذا التيار وسقوط جناحه (الإخواني) الذي قبل منازلة الجماهير.

دفعت جماهير 30 يونيو -التي لم تعد من الناحية العددية كتلة حرجة- التيارات الدينية غير الإخوانية إلى الانسحاب من المواجهة، والذي تمثل في نصحيتهم لمرسي بقبول بمطالب 30 يونيو والدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة. بينما أدى تحدي الإخوان لهذه الجماهير إلى انهيار سلطة الجماعة، ثم تقوّض الجماعة نفسها نتيجة دخولها تحدياً مناقضاً للمبدأ الجماهيري الشعبوي الذي تأسست عليه، والذي جعلها تبدو في أعين من تعاطفوا معها كشخص مسه هياج عصبي بعد 30 يونيو، فتساوت في نظر الكثيرين مع الإرهاب وتخريبه، رغم أن الجماعة نجحت لعقود في تمييز نفسها عن التوجه المخرّب.

بعد 30 يونيو لم تعد هناك ثورة، أو بمعنى أدق لم تعد هناك "كتلة حرجة"، وفقدت الشعارات المعبرة عن هذه الكتلة زخمها وقدرتها، مثل "مكملين" و"الثورة مستمرة".

لم يكن هذان الشعاران، مثلاً، تعبيراً عن أزمة الثورة أو إحباطها، كما قرأتُ بعض التفسيرات والتحليلات، بقدر ما كانت تعبيراً إيجابياً عن قدرة هذه "الكتلة الحرجة" على المواصلة، وعلى تجديد دمائها والبقاء فاعلة ومؤثرة. لقد كانت المعارضة قبل 25 يناير دائماً مهمشة، ما إن تتعرض موجة مد لها للمواجهة حتى تتراجع سريعاً، ثم تأخذ وقتاً في إعادة تشكيل نفسها مرة أخرى، لكن قدرتها على الاستمرار واستكمال مسيرتها منحها ألقاً وخصوصية ثورية جذبت قطاعات من الشباب، حتى وصل المفهوم إلى منتهاه في 30 يونيو، عندما لم يصبح العدد حرجاً، لقد أصبح أغلبية وفرض نفسه.

حتى مفهوم "نعرف ما لا نريد" بكل جاذبيته النقدية فقد وهجه مع ترتيبات 3 يوليو وخارطة الطريق، وحتى مع خروج البرادعي من تحالف 30 يونيو لم يعد التعاطي النقدي وحده كافياً دون المشاركة.

تفكك تحالف 30 يونيو قبل الاستفتاء على الدستور كان سيمثل أزمة، وقد انتقصت بالفعل انشقاقات مثل خروج البرادعي، أو سحب (6 إبريل) تأييدها لخارطة الطريق، من قوة التحالف دون أن تسقطه، لكن تفككه ضرورة بعد الاستفتاء، وخطوة إيجابية من صميم التطور لابد أن يؤيدها كل من كان ضمن التحالف.
 
 وهنا لا يمكن لمفهوم "الكتلة الحرجة" إعادة إحياء نفسه، سيكون هناك يمين ووسط ويسار النظام، وداخل هذه المسارات يمكن لكل صاحب فكر أو توجه صياغة ما يمثل هويته السياسة، شرط أن يعي ضرورة توطيد الصلة بقطاع من الجماهير، فقد أصبحت المشاركة هي السمة السياسية الأولى للمجتمع بعد أن وسمته حالة "الغالبية الصامتة" عقوداً من الزمن، وخلقت نوعاً من المعارضة يعتمد على إحراج السلطة دولياً من أجل تحصين نفسه من بطشها.
هذه الصيغة انتهت، قوة وحصانة أي فصيل أو كتلة سياسية ستقاس بالتأييد الجماهيري، وليس بتعاطف الدول الغربية وضغوطها، وإذا كان الإخوان بكل جماهيريتهم وتماسكهم التنظيمي فشلوا بعد 30 يونيو في لعب دور الكتلة الحرجة التي تقف في طريق تشكيل نظام لا يستوعبها، فلن يستطيع تيار آخر لعب هذا الدور بعد ذلك في مناخ تسوده المشاركة، حتى لو لم تعجبك طريقة المشاركة، ولا الأفكار السائدة وسط ثقافة هذه الجماهير.

الجماهير هنا لاعب خطر أيضاً، عاطفي، ومنفعل، لأنه مجروح في عدة أسس، فهو يرى بلده معطلاً، والفرص مغلقة أمامه، ومستوى الخدمات في تدهور مستمر، لذلك تستميل الجماهير كلمات مثل "مصر حتبقى قد الدنيا" التي حلت محل شعارات الثورة الإيجابية مثل "ارفع راسك فوق انت مصري".

من الهام أيضاً أن نفهم أن هذه الجماهير تبنت نزعة التدين من قلبها كنوع من الاحتجاج على مبارك وأسلوبه، وأجرت تغيرات ثقافية كبيرة في حياتها طوال العقود الأربعة الماضية لتضع هذه النزعة في قلب حياتها، وقد أدى شعورها بالخذلان في برلمان الإسلاميين، ثم في رئاستهم، ثم صدمتهم في جنوح كل هذه الكتلة من الإسلاميين إلى الصدام والإرهاب إلى تزايد غضبها؛ لقد سبب كل ذلك أوجاعاً وغضباً لقطاع ممن دخلوا إلى عالم السياسة حديثاً دون خبرة، بعدما كانت أقصى معارضتهم أو تحديهم لمبارك، أو لحضور سوزان مبارك الطاغي في المجال العام أنهم/ن يطلقون اللحى، ويرتدون الحجاب، ويتابعون دورساً دينية على شاشات التلفزيون بدلاً من مشاهدة أكاذيب مفيد فوزي وخدم نظام مبارك.

هذه الشريحة الثكلى في أحلام استعادة العصور الذهبية التي داعبت خيالها عبر أحاديث الدعاة من عمرو خالد وصولاً لحازم أبوسماعيل، غاضبة بشدة، وكثيرون منهم لديهم الاستعداد للفتك بأي معارضة غير ناضجة تحتج على ما يقدم لهذه الجماهير باعتباره توجهات إصلاحية دون إبداء ما يعبر عن شعور المحتج وانتمائه إلى معاناة هذه الجماهير التي زادها إحباطها في الإسلاميين ألماً ووجعاً .

البحت عن هوية سياسية جديدة، وربط محتواها بتطلعات فئات معينة من الجماهير سيحدد من سيطفو على سطح عالم السياسة، وبأي أفكار سيطعّم خلطته السياسية في عالم ما بعد الاستفتاء على دستور نظام 30 يونيو-3 يوليو.

هامش:
(1) صدرت ترجمة عربية للكتاب عن دار الثقافة الجديدة، يستعرض الكتاب تاريخ علاقات الولايات المتحدة مع النظام السياسي المصري منذ تحالف السادات معها، وخلال عهد مبارك وحتى وصول مرسي إلى الحكم.
http://www.neelwafurat.com/itempage.aspx?id=egb197794-5210966&search=books

(2) راجع مقالنا عن الكتلة الحرجة: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=334562