Friday, May 17, 2013

تمرّد


 

كان مقبولاً من نجم الكوميديا عبدالمنعم مدبولي أن يسمِّي مسرحيته "احنا اللي خطفناها" كمنافسة لمسرحية تعرض في نفس التوقيت في شارع عماد الدين للنجم فؤاد المهندس بعنوان "روحية اتخطفت"؛ لكن عندما يواجه الإسلاميون حملة عزل الرئيس مرسي والتي تحمل اسم "تمرّد" بحملة يسمونها "تجرّد" يتجاوز الأمر حد الإسفاف في الخيال عندما تمارس السياسة بمنطق الكوميديا، يتجاوز ذلك الحد إلى درجة الجريمة مع سبق الإصرار!

الجريمة هنا موجهة ضد جماهير الشعب البسيطة بالسطو على أصوات أفراده وسرقة إرادتهم، والمجرم يستغل قلة التعليم لدى قطاعات من هذه الجماهير أو انعدامه لدى البعض، ويستغل حسن النية عند بعض آخر، فالجناس وتشابه  الأحرف والصوتيات بين الاسمين "تمرّد" و"تجرّد" مقصود لاستغفال الناس، وهو جوهر الإصرار والترصد في الجريمة!

حركة "تمرد" هي أول حملة تصارع بواسطتها قوى المعارضة على فكرة "الأغلبية" مع الإسلاميين.

 فكرة الأغلبية نفسها مرت بتحولات عديدة منذ اندلاع الثورة، فمنذ سيطرة الثوار على ميدان التحرير جادل أتباع نظام مبارك فكرة أن من في الميدان يمثلون كل الشعب معتمدين على صمت الأغلبية الكاسحة المعتاد، جادلوا قبل وبعد سقوطه منعاً من عزله، ثم من محاكمته ومن إقالة حكومة شفيق وحلّ المحليات وغير ذلك من المطالب؛ فكانت حشود أيام الجمع حاسمة بضغطها الجماهيري الواضح.

 لكن ظلت كتلة المعارضة أو "الكتلة الحرجة" تراوح في موقعها داخل خريطة الكتل والقوى السياسية التي تشكلت ونمت خلال مسيرة الثورة، وأعادت وضع نفسها على الخريطة السياسية أكثر من مرة.

 "الكتلة الحرجة" ليست أغلبية تفرض نفسها، ولا أقلية يمكن ابتلاعها. هذه الكتلة تشكلت بداية من الشرائح الأكثر استعداداً للتعبير عن مطالبها بأساليب احتجاجية، لكنها ليست أغلبية حاسمة لأسباب عديدة. هي التي فتحت باب العمل السياسي في الشارع، وانتصرت على القمع، وخلقت أساليب للتعبير الفني والجمالي خلال التظاهر، ثم راقبت انضمام أو انفصال المؤيدين للتغيير عنها.
 
مثلاً، كان حضور شباب الإخوان ضمن هذه الكتلة منذ اليوم الأول للثورة، بحسب شهادات ووثائق عديدة قدّرت مشاركتهم بالربع، وتكاد هذه النسبة وهذا التقدير "الربع" يتواتران في كثير من الشهادات التي سُجّلت وتطرقت لهذا الموضوع ومنها كتاب "خبرني العندليب" للرائع عُمر قناوي. لكن إخلاء الإخوان للميدان لم يغير كثيراً في حجم "الكتلة الحرجة" ووضعها القلق، فقد انضم آخرون لنفس الكتلة بفعل انفتاح آفاق العمل السياسي، وانهزام القمع ولو لفترة، وعدم قدرة المجلس العسكري على استعادة مستويات الخوف أو التخويف، وكذلك – من ناحية أخرى- انشقت شريحة من شباب الإخوان منحازة للثورة.

في مقابل "الكتلة الحرجة" يأتي "حزب الكنبة"، الذي يشكل خليطاً متنوعاً ما بين اليائسين والمنصرفين عن العمل السياسي أو المترددين غير الواثقين (50 بالمائة تقريباً من الناخبين لم يشاركوا في خمسة اقتراعات تمت منذ الثورة) وما بين أنواع وأنماط أخرى تتخذ موقفاً سلبياً من عملية التغيير لدوافع ومصالح أو توجسات مختلفة.

 لكن المثير في معظم شرائح "حزب الكنبة" أنها إيجابية؛ على عكس مفهوم حزب الكنبة السلبي (راجع مقالنا عن مفهوم الكنبة في الثقافة الأمريكية ومقارنتها بالصيغة المصرية)1، فقد كان لقطاع منها رأي وموقف، وشاركوا في الانتخابات.

ظل "حزب الكنبة الإيجابي" مناوئاً لتلك الكتلة الحرجة، تَشكَّكَ بعضُه في نوايا اختطاف الإسلاميين للسلطة وقدرتهم على التغيير، وتشكَّكَ بعض آخر في هؤلاء الذين يملأون الميادين ويرفعون لافتات ويرسمون الجرافيتي على الحائط ويمارسون فنون الشارع المختلفة، فقد مثلت مفردات الاحتجاج والمطالبة بالتغيير صدمة لقطاع من حزب الكنبة نشأ وتربى على حق صاحب السلطة – كأب- في القمع، معتبرين ما يفعله هؤلاء خروجاً عن هذا المبدأ القانوني من وجهة نظرهم.

 كما انزعج كثير من المحسوبين على "الكنبة"  خوفاً على مصالحهم التي تشكلت في ظل نظام مبارك وتكيفت معه بغض النظر عن مدى الرضا عن هذا النظام؛ فهو يتراوح ما بين مقتنع بعدم أهلية المجتمع المصري في قيادة نفسه بواسطة صناديق الاقتراع واحتياجه لحكم أبوي قمعي، وصولاً لمن يرى في الحاكم العسكري خياراً واقعياً يحافظ على "واجهة علمانية" شكلية لمؤسسات الدولة في ظل تراجع تطلعات الشخصية المصرية كثيراً خلال العقدين الأخيرين إلى حدود تجعل البعض عرضة لتبني قيم حركة طالبان.
اضطر حزب الكنبة الإيجابي إلى عمل مبادرات في الشارع بعد أن شغل الرئيس محمد مرسي موقع الرئاسة، كانت تلك المحطة نوعاً من الغربلة لكتلة الكنبة الكبيرة نسبياً، والتي فاجأت الجميع عند الإعلان عن حصول شفيق على أكثر من 5 ملايين صوت في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة. كان المشهد مطابقاً للمشهد اللأخير في فيلم لعادل إمام عن الصراع بين الإخوان والحزب الوطني على السلطة! لكن الغربلة التي تعرضت لها كتلة الكنبة، اضطرت قطاعاً منها لاستخدام نفس أساليب التعبير السياسي التي كانت موضع هجومهم، بدءاً من المفارقة الفاقعة بالتصويت بهذه الكثرة لشخص ينتمي لنظام كان ضد مبدأ حكم صناديق الاقتراع أصلاً!

حركة "تمرد" هي أول مبادرة تتعامل مع خريطة ما بعد الغربلة، خريطة تضم كل المعارضين للتيار الإسلامي، وكل المستائين من طريقة الانقسام والانشقاق التي أنتج بها الإخوان دستورهم، ولم يكونوا في حاجة إلى هذه الدرجة من تعميق الانقسام ليصل إلى مستويات شعبية، فالوصول إلى مواضع اتفاق مع شركاء الوطن كان يسيراً ولا يوجد في نصوص الدستور – الضعيف في رؤيته- مكاسب سياسية كبرى للفصائل الإسلامية تحتاج التضحية بالتوافق مقابله!

هناك أيضاً قطاع كان يأمل في وصول شخص كفؤ للسلطة، ولا يعنيه التوجه السياسي الذي يمثله هذا الحاكم الجديد، لكن صدَمَتْهُ المفاجأة؛ تلك التي يسمّيها الكاتب وائل عبدالفتاح "الديناميت المبلول!"، فقد كان المنتظر أن يبهرنا ويهزنا أداء الرئيس الذي ظلت جماعته تحارب وتعاند من أجل الوصول إلى السلطة أكثر من 80 عاماً، في إصرار فريد ومثير للانتباه، لكن أداء الرجل كان أقرب إلى الهزل في أول بضعة أشهر، لم يحدث دوياً ولا أي أثر من آثار الديناميت السياسي، بل بدا فاقد الخيال، محدود القدرات، كاذباً فيما يتعلق بدرجة تعليمه، ضعيف المناورة والقدرة على التفاعل مع مشكلات البلد، بداية من مشكلة أنه يحكم باسم جماعة شاركت في ثورة لم تدعُ إليها، بينما يعيش الثوار الحقيقيون حالة مد سياسي، مروراً بأزمات البلد الإقتصادية المزمنة والتي طفحت مع غياب الأمن! وصولاً إلى أكاذيبه عن النهضة الموعودة!  
ترفض حركة "تمرّد" الفلول والمحسوبين على النظام السابق، لكنها لا ترفض من يريد إعادة تعريف علاقته السياسية من السلبية في التعامل مع النظام (سواء نظام مبارك أو الإخوان)، وقرر المشاركة الإيجابية.

إنها حركة تستهدف كل من قرر أن يكون إيجابياً ويرفض محاولات إنتاج نظام استبدادي جديد، بشرعية تتمسح بالدين. وتستهدف قطاعات جماهيرية انعطفت رؤيتها من الاستسلام وإعطاء الفرصة إلى ضرورة حسم الأمور مع ذلك الكذب والنصب السياسي الذي وعد بمشروع وهمي للنهضة، وتحدث عن دعم شركات سيصل لمائتي مليار "دولار"، وعندما وصل إلى السلطة على جثث الشهداء مارس الاستخفاف بتضحياتهم رافضاً أن يصطدم بالمؤسسة الأمنية التي تعمل كآلة ضد المجتمع وتنزع إلى معاقبته بدلاً من حمايته، بل إنه تحالف معها لتحميه من خصومه!

ثم أخيراً، "تمرّد" هي مبادرة ضد الاستخفاف بأزمات الناس اليومية. لقد استخدم الإخوان، والإسلاميون عموماً، مسمَّى "النخبة" في وصف معارضيهم، لعزل رسالة المعارضة عن الشارع، فاستجاب الناس وانتخبوا الإخوان أو الخيار الإخواني في الاستفتاءات مراراً، ثم انكشف الأمر أن مشروع الإسلاميين لا هو مناهضة الغرب، ولا إصلاح الداخل، بقدر ما هو التحول إلى نخبة جديدة ترتدي عباءة الدين!
هامش:
1- يمكنك الاطلاع على مقال "حزب الكنبة والتلفزيون ومجتمع الشبكلت" عبر هذا الرابط: