Thursday, December 1, 2011

وهل هو برلمان الثورة؟





 هو برلمان أفرزه الصراع على الثورة. برلمان الخوف مما حدث بعد الثورة. الخوف هو المؤثر الانتخابي الأول، وإن تعددت صوره ومصادره.

خوف العسكر من تسرب السلطة من بين أيديهم أسهم في إنتاج برلمان منزوع الفاعلية؛ رقابي، وخطابي، يمكن لأعضاءه أن يتجادلوا كما يحلوا لهم حول أداء السلطة دون إنتاجها أو قيادتها، يمكنهم تقديم النصائح، ومناقشة المواد الدستورية، التي تكاد أن تكون نمطية في معظم دساتير العالم كون العبرة بالتطبيق، لكن ليس لهذا البرلمان أن يجتاز حدود هذا الحاجز من الخوف.

هو برلمان الكتلة الإسلامية "الخائفة" من انقلاب العالم عليها مثلما حدث مع تجربة حماس والجزائر، تلك الكتلة "الخائفة" كانت أول منسحب من الميدان، وأكثر الممانعين في العودة إليه، وأول القوى الداعية للتحالف الانتخابي مع اتجاهات أخرى غير سلفية (رغم الشبه الكبير بينهما)، وأكثر القوى انصياعاً لسلطة المجلس العسكري وتماشياً مع أي نمط انتخابي، سواء فردي أو قوائم أو مختلط. إنها القوى الخائفة من الجيش ومن أمريكا وأيضاً - وذلك الأهم- من تشكك المجتمع فيها وفي قدراتها. وبقدر ما أخْفَتْ مخالبها حصلت على مقاعد في برلمان الخوف.

هو برلمان "الفراغ السياسي" الذي أنتجته الثورة بامتياز، لأنه بعد الإطاحة برأس السلطة الذي كان نزْع صورة له عملاً مخيفاً بحق، والخروج في مظاهرة على عهده أشبه بعمل إنتحاري، بعد سقوط الديكتاتور من خلال اعتصام ضخم شارك فيه الملايين انطلقت توابع الخوف الذي خزنه طوال فترة حكم طويلة، فكان الانفلات الأمني بطل الفترة الإنتقالية، وأشباح الخوف من البلطجة المنظمة المدبرة تمرح في أذهان الناس الذين طلب منهم أن يكونوا ناخبين يقولون رأيهم تحت سقف الخوف العام الذي حل مكان الخوف من سلطة مبارك وأدوات القمع في عهده.

هناك بالطبع حزب الكنبة الذي خرج للتصويت تحت تأثير الخوف من الغرامة، وهناك البسطاء الذين خرجوا للتوصيت حسماً للدماء التي شاهدوها على شاشات التلفزيون. الخوف كان الوتر والمؤثر الأول.

لا يقرر الناخب إلى أين يذهب صوته وفق عامل واحد، وهنا كان دور التخويف من شبح انهيار الإقتصاد وخراب البلد، بحيث يشمل التأثير عاملين رئيسيين الأمن والإقتصاد. شبح هذا الخوف عزفته أجهزة إعلام السلطة بكثافة بعدما سرت توقعات إيجابية رائعة في الأسابيع الأولى بعد سقوط مبارك. استعانت أجهزة السلطة بخطاب التخويف من انهيار إقتصادي ليزيح إيجابية التوقعات، فكان الكلام أولا عن تناقص المخزون الإستراتيجي، ثم تناقص السيولة، ثم تم تخفيف ذلك إلى مصطلح مخيف لكنه لا يؤدي إلى حالة هلع: عجلة الإنتاج. وهل كانت تلك العجلة تصب في صالح المجتمع عندما خرج أبناؤه بالملايين في الثورة؟ هل يثور الشعب لأن عجلة إنتاجه جيدة؟!

 الخوف هو الناخب، وبالمناسبة لم تكن تلك تجربته الإنتخابية الأولى في العهد الذي أطلقته الثورة. لقد صوَّت من قبل في استفتاء استخدم فيه وتر تخويف آخر، هو الخوف من خسارة الدين، والدخول في غياهب عدم الاستقرار بتسليم الأمر للجنة دستورية بدلا من أن تظل الأمور تحت رعاية المؤسسة العسكرية. فكان اختياره "نعم" للاستقرار وللحفاظ على الثوابت التي قيل له إن "لا" ستقتلعها!

 الآن ستتراجع قليلاً كتلة أصوات الخائفين، فلن تحصل الأحزاب "المحافظة" من دينية وغير دينية على مجموع الـ 77% التي نالها خيار المحافظة والاستقرار. فقد بدأت كتلة تصويتية من الخائفين على الهوية والاستقرار تتزحزح قليلاً باتجاه الخوف من استمرار الأوضاع الإقتصادية، ومن استمرار الإنفلات الأمني، وهو ما سيجنيه تكتل "الكتلة المصرية" ويخسره تكتل "الثورة مستمرة" التي ربما يرتبط مسمَّاها في ذهن العامة بالانفلات الأمني، وإصابات المتظاهرين والعنف؛ هنا يعمل وتر الخوف بقوة فيستبعد هذه الكتلة.

هناك طبعا قدرات الدعاية، وقدرة الوصول إلى الناس في الأحياء والشوارع الفقيرة، والقرى والمناطق العشوائية، وهي قدرة تتوفر أكثر لمن يمتلك منصات دعاية مجانية هي المساجد. وتواصلا أعرق تاريخياً مثل الإخوان المسلمين، وإلى حد ما تجمعات السلفيين التي لا تمتلك نفس العراقة من حيث تقديم الخدمات في الأحياء.

ولكن ماذا عن الأصوات المترددة التي تعرفها كل انتخابات ديموقراطية؟ هل لدينا في مصر مترددين في هذه الانتخابات؟

لا. هناك أصوات عشوائية، عمياء، لا تعرف لمن تصوت، وهي تختلف عن الأصوات المترددة، فالأخيرة يتذبذب قرارها حتى اللحظات الأخيرة، لأنها لا تعرف أو تريد التأكد من تطابق أولوياتها ودرجة أهمية تلك الأولويات مع التيارات السياسية التي تتلاعب بالكلمات. أما في إنتخابات 2011 المصرية فلا توجد هذه الحالة، بقدر ما يوجد الصوت العشوائي، الذي لا يعرف إلا القليل عن الخيارات الإنتخابية، لا يعرف بالضبط من وراء كل "كتلة" وما توجهاتها. هذا الصوت العشوائي غير الواعي يذهب دائما "للمضمون"  لشخص أو جهة يعرفها أو يشهد في حقها شخص يعرفه، شرط ألا يتعارض الاختيار بشدة مع المؤثر الذي دفعه للتصويت: الخوف.

 سيكون لهذه الفئة من الناخبين دور كبير في الجولات الإنتخابية التالية، والتي ستستمر فيما يشبه "الرالي" حتى يناير 2012، ثم تتواصل حلقة أخرى منها لإنتاج مجلس الشورى، الجهة التي ستعد مسودات الدستور والتشريعات، لترسلها لمجلس الشعب للمناقشة والقرار. ويعتبر أصحاب الصوت العشوائي من الناخبين فرصة رائعة لمن يريد أن يعدل النتيجة، شرط أن يمتلك فرصة للتواصل، وليس بالضرورة أن تكون منصة إعلامية، التواصل المباشر سيؤثر أيضاً.

"برلمان الخوف" نفسه سيكون حذراً داخل قاعة مجلس الشعب، فالأغلبية تحتاج لستار ليبرالي لا يخيف الجيش ولا أمريكا ولا القوى الأخرى في المجتمع إذا أرادت أن تفرض كلمتها. والقوى المعارضة ستكون خائفة بالضرورة من خسارة ما حازته، إذ تبقى الأمور في حالة سيولة، والناخب مستعد للإنقلاب وتغيير مواقفه بحدة. كما أنها ستخاف من التورط في تحالف مع الأغلبية تفقد بسببه هويتها الخاصة، دون مكاسب تجنيها من هذه الأغلبية، كون الجيش لايزال ممسكاً بسلطة الرئاسة. أما المجلس العسكري فلم يعد مالئاً للفراغ السياسي وحده؛ والحقيقية أن برلمان الخوف ينتج فراغاً سياسياً أكثر مما ينتج حركة تملأ هذا الفراغ.

هل يفيد ذلك القوى الثورية؟ نعم، وربما أكثر من الأغلبية الفائزة، فلايزال الغضب الشعبي والسخط أقوى مؤثر. والشعب على استعداد لمعارضة أي سلطة والتشكك فيها أكثر من تقبل سياساتها باستسلام. وإذا كان قد تم قولبة غضبه أو تكتيفه بحزام الخوف، فقد فتح بخروجه للتصويت ثقباً في هذا القالب، وفك القيد الذي تم تكتيفه بواسطته. وهو مستعد لسماع صوت المعارضة بنفس مقدار استعداده لسماع صوت الأغلبية.

وبعد، لقد لفت انتباه الجميع غياب البلطجية، الذين حملوا رسالة الخوف إلى الشوارع - لمن لم يفهمها عبر الإعلام - ولكن لو ظهروا يوم التصويت لأربكوا الناخب، وربما كان رد فعله نوعاً من الشجاعة والمغامرة في التصويت؛ كون العنف يولد دفاعات ضده، لذا كان غيابهم إتاحة للفرصة ليعبر الناخب عن مخزون الخوف لا ليقاومه.

أحمد غريب


No comments:

Post a Comment