Saturday, March 30, 2013

دولة مدنية.. أحلام الثورة مستمرة






على المنصة الدكاترة: باسمة موماني، مي التلمساني، ووليد الخشاب، وعلى الشاشة رشاد أنطونيوس 
 

دُعيت الأسبوع الماضي إلى ندوة نظمها د.وليد الخشاب أستاذ الدراسات العربية في جامعة يورك بمدينة تورنتو الكندية تحت عنوان "علمانية – مدنية.. من منظور العرب الكنديين". فعاليات الندوة التي تضمنت عرضا لفيلم وثائقي ومائدة مستديرة شارك فيها عدد من الأكاديميين العرب في كندا، جددت من وجهة نظري أهمية مفهوم "الدولة المدنية" الذي فرض نفسه على الواقع السياسي الذي أطلقته ثورة 25 يناير.

  كان تعبير "دولة مدنية" سابق الاستخدام على الثورة، لكنه اكتسب شكلاً ودوراً جديداً في أعقاب المبادرة التي أطلقتها د. مي التلمساني يوم 13 فبراير عقب سقوط مبارك بيومين، وأيدها عدد لافت من المثقفين.

و بحسب علمي لم يجد مفهوم خرج من دائرة المثقفين اهتماماً واسعاً وتفاعلاً مثلما لقي مفهوم "دولة مدنية"، بل إن إشكاليات تحديد معناه، كونه يشير إلى توجه مستمر نحو سمات تقدمية ترتبط بالمدينة الحديثة أكثر من إشارته إلى مواصفات علمانية بعينها، إشكاليات المفهوم ودلالاته هذه أتاحت له التفاعل بحيوية مع قطاعات جماهيرية كبيرة أبدت اهتماماً جديداً بالمشاركة السياسية وحقها في التعبير.

ندوة جامعة يورك نالت اهتماماً من عدد لافت من العرب إلى جانب طلاب الدراسات العربية الذين تفاعلوا باهتمام بالغ مع أولى الفعاليات، وهو فيلم وثائقي من إخراج مي إسكندر يوثق نشاط صحفية مصرية "هبة عفيفي" في التفاعل مع الثورة ما بين الميدان والإنترنت، وعلاقتها بأسرتها في ضوء التغيرات الاجتماعية والسياسية التي أعطاها الشباب والفتيات مثل هبة كل جهدهم لتكون تحولات جذرية تحقق إسقاط مفهوم الأب والوصاية ليحل محله مفهوم المشاركة.
تريلر الفيلم على يوتيوب

مشاهد الفيلم  بين البيت والميدان، نقاشات العائلة وقسوة التعامل مع المطالبين بحق التعبير وأحلام البسطاء عند طوابير الانتخابات، أوجدت حالة من الالتحام بين الطلاب الشباب - ونسبة منهم أبناء الجيل الثاني من المهاجرين- وبين أقرانهم داخل مصر، وفتحت الباب لتحليل قدمته د.مي التلمساني (جامعة أوتاوا) بدأ بالإشارة إلى طبقات أخرى من الالتحام جسدها التعاون بين مي إسكندر وهبة عفيفي في توثيق يومياتها مع الثورة، فالمخرجة قبطية مصرية مقيمة في الولايات المتحدة، والصحفية الشابة مسلمة ابنة الجيل الشاب الذي أطلق شرارة الثورة، لكن التوحد والالتحام أزاح الطائفية والمسافات الجغرافية وصب كل الاهتمام على الميدان ونجاح الثوار في إنتاج سلطة مدنية منتخبة تحقق أهداف الثورة.
د.مي التلمساني تقدم تحليلا لفيلم مس اسكندر

القصة في الواقع لم تنته فصولاً كما انتهت أحداث الفيلم عند فاصل معين هو انتخاب رئيس مدني لأول مرة، ولعل ذلك ما أضفى على مناقشات المائدة المستديرة جدلاً لا يختلف كثيراً عما تشهده بيوت ومقاهي المحروسة. فمنازعة التيار الإسلامي القوى السياسية الأخرى، بدأت منذ ادعائه أنه يسعى بدوره لتحقيق نفس مفهوم "الدولة المدنية"، وهي دعوى غريبة إذ تستخدم التيارات العلمانية مسمَّى "مدنية" بديلاً عن العلمانية، وهو تحديداً ما يبني التيار الإسلامي توجهه كنقيض له، لكن نزعة الاستحواذ وبريق المفهوم الذي جاء طرحه في توقيت كانت الجماهير عند أقصى درجات الاستعداد للتفاعل، لم يترك مجالاً لأن يزهد الإسلاميون فيه.

 

أين  تقع "مدنية" من الثورة؟

بأكثر من صيغة غير مباشرة طرح هذا السؤال خلال مناقشات المائدة المستديرة.

 أولى الأوراق قدمها د. رشاد أنطونيوس (جامعة كيبيك بمونتريال) تناولت الجانب الفكري لدى التيار الإسلامي، ووصعود تيار الحاكمية فيه، واستحواذه ليس فقط على التيار بل وتغييره وجه الثورة ودفتها ناحيته، وتضمنت معالجة الورقة تحليلاً مثيراً لما تعنيه الحاكمية لدى هذا التيار كآلية لمحو التنوع، وفي المقابل استعرضت ورقة د. أنطونيوس مقومات التنوع الثقافي التي تميز المجتمع الكندي، والنوع الغالب من الهجرة العربية إلى كندا وهي "الهجرة الثقافية" التي تتطلع لمميزات التنوع، وهو ما يتهدده الصعود السياسي لجماعات الحاكمية حيث تمارس تجمعات المهاجرين آليات للضبط الاجتماعي تسمح بنفاذ الإقصائية التي بات يفصح عنها التيار الديني المتشدد.

تعقيب د.ثابت عبدالله (جامعة يورك) نبه إلى ضرورة البحث عن أسباب غلبة التيارات المتشددة دائماً على الصورة، لماذا تحظى بالتأييد دائما؟ لماذا يأتي الأكثر تشدداً فيجتذب القيادة؟ وضرب مثلا بفكر على عبدالرازق نموذجاً لفكر مستنير يتم إقصاءه.

ورقة د. باسمة موماني (جامعة واترلو) ركزت على محورين الأول هو حق المجتمعات العربية في تقرير خياراتها وفقاً لما يلائمها ويتماشى مع تركيبتها الثقافية وهويتها والتي يغلب عليها الطابع الديني، والثاني هو التوكيد على المطالب الأساسية للمظاهرات الأولى التي أطلقت ثورة يناير: عيش، حرية، عدالة اجتماعية. وهي المطالب التي لاتزال تحرك الجماهير وتتسم بطابع إقتصادي أكثر من كونها تصب في مدنية الدولة والتي تبدو بدورها مطالب نخبوية أكثر منها جماهيرية. لكن معالجة د. موماني لم تبين كيف يمكن تصحيح مسار الإجراءات الديموقراطية الفاشلة التي انحرفت بمسار الثورة وأنتجت سلطة لا تعمل على تلبية المطالب الإقتصادية وانحرفت بأهداف الثورة لتختزل في الأبعاد الدينية كالشريعة والأسلمة!

تعقيب د.مي التلمساني  شدد من ناحيته على أن عودة المتظاهرين إلى الشارع مرجعه فشل السلطة في تحقيق أهداف الثورة، وإعادة السلطة إنتاج نفس النظام القمعي الذي قامت المظاهرات ضده، كما تساءلت عن تحديث مصطلح "النخبة" ليواكب متغيرات ما بعد الثورة التي كشفت أن قوى الإسلام السياسي والإخوان في المركز منها ليست إلا جناحاً من النخبة، بل إنها جناح قوي بما يملكه من رأسمال واستثمارات وما يمثله من مصالح للأثرياء، كما أن الشواهد أكدت على النزعة النخبوية لدى الإسلاميين في تعاملهم مع مطالب الشرائح الفقيرة والمعدمة والعمالية، حيث تتم مواجهتهم بقمع كامل دون استجابة سياسية، وهو ما يدفع بالناس إلى العودة للشارع مرة بعد مرة تحت لافتات سياسية تناهض السلطة الإسلامية الحاكمة. وقدمت التلمساني إشارة لافتة لخطاب الثورة المضادة الذي يصور "الميدان" باعتباره مصدر الشرور ويدعو الناس للإقلاع عن التظاهر، في مقابل تقديم الثوار لنفس الميدان باعتباره "يوتوبيا" المدينة الفاضلة!

عقب الندوة التي شهدت تفاعلاً كبيراً من الطلاب -لا يسعني المقام هنا لتسجيله- جمعني لقاء مصغَّر في مقهى مع مي التلمساني ووليد الخشاب سألتهما فيه عن رحلتهما في أقاليم مصر لشرح مبادرة دولة مدنية والتي جرت عقب إطلاق المبادرة وخلال الأسابيع والأشهر الأكثر خصوبة من عُمر الثورة، وقد أدهشتني حكايات الجولة واستقبال الناس في عدة مدن وقرى من ريف وصعيد مصر، إنها ثروة من الحكايات، أخبرني الخشاب أنه تم توثيقها بالصور الفوتوغرافية، وهي مادة تستحق التسجيل والكتابة، فلعلها المرة الأولى التي يحدث مثل هذا اللقاء والتفاعل بين الأطراف والمركز، وهو رصيد من الخبرة قد يكون أساسياً لمفهوم ومبادرة مدنية التي يبدو أنها ستظل تعاود الظهور والتجدد بقدر ما يحمل المصطلح مضموناً تقدمياً ونزعة للتحديث.
من الحضور 





 

Monday, March 25, 2013

دورة العنف.. الرصيد لا يسمح

متظاهرة في المقطم يوم الجمعة 22 مارس 2013
 
لم تستطع الجماعة التي نزلت إلى الميدان "ضبطه" وتوجيهه نحو سياسات قادتها. لم تستطع حشودها أيضاً أن تسرق الأضواء وتستحوذ على الثقل الجماهيري عندما اتجهت لساحات جديدة للتظاهر واستعراض الجماهيرية. بعدها، لم تنجح في لعب دور "الجماهير المؤيدة" للقرارات عند الاتحادية، بل إن صورتها تعرضت لمحو كامل مع اتجاه حشود كبيرة لنفس المكان تعترض على الإعلان الدستوري المشئوم.

 كانت المصلحة السياسية وراء التصعيد باستخدام شباب هذه الجماعة في فض الاعتصام حول الاتحادية بالعنف نقلة تهدف إلى ما هو أكثر من تنفيس الغضب والتعبير عن الإحباط من تفوق المنافس. العنف في حد ذاته وسيلة لتنفير الناس من الالتفاف حول المظاهرة.
 ثمة لذة وإبداع وترفيه وتفاعل اجتماعي وثقافي يستخدمه هؤلاء المتظاهرون الذين تتزايد أعداد مؤيديهم في كل مرة، ثم فنون للتظاهر والتعبير يتم تبادلها وتنميتها، وقد تم اكتشاف كلمة السر وراء إفشال ذلك، الكلمة التي لم يمتلكها المجلس العسكري، الذي كان قد سبق واستخدم العنف الرسمي المنظم فكان رد الفعل الشعبي مزيداً من الاحتشاد يشارك فيه عامة من الناس لايواظبون على التظاهر، ولا يشاركون في اعتصامات، لكنهم يظهرون كرد فعل مؤيد لمن يقومون بذلك. أما عنف الجماعة، العنف المدني المنتخب، فيدعو الناس للعودة للبيوت ومراقبة الموقف عبر الشاشة.
إنه يمنع ذلك التواصل الثقافي، تلك الفنون الجميلة، التي تتشكل ما بين الهتاف، والجرافيتي، والغناء، والمبادرات السياسية والمناقشات، وأهم من ذلك التواصل مع ذلك الذي يشاركك الوطن ويريد أن يبنيه معك، العنف يقتل الثقة في شركاء المجتمع. العنف يرخي ستائر الظلام. العنف يعزز الانحياز الأعمى. العنف جيد للرجعية.
لكن الجماعة، التي اكتشف ذلك بقدر لا يخل من الصدفة، وإن كانت ليست صدفة كاملة، تدفع كلفة كبيرة من جراء هذا العنف. خسائر بشرية بين فقد وإصابة، خسائر معنوية تذهب برصيد معظمه "حسن الظن" لدى بعض الناس الذين كانت الجماعة قد بنت لديهم قدراً من الثقة خلال رحلة معارضتها لمبارك. خسارة كبرى في مفهوم الدعوة، تكاد أن تجفف منابع كسب المزيد من الأتباع، وهؤلاء مهمون، لأنهم يدفعون المال والجهد لتعزيز بناء الجماعة، إنهم ليسوا مجرد صوت انتخابي مؤيد خسائر سياسية أخرى تعيد تقييم وزن الجماعة في نظر الجيش، وفي نظر الولايات المتحدة.
بعد عدة مصادمات مارست الجماعة فيها العنف بقسوة تكاتف من سبق وضربتهم مع من تهددهم، فانتهت أسطورة قدرتها على "ضبط" الشارع بهزيمة في مواجهة هي التي افتعلتها، وبدأتها. لقد تحولت إلى جهاز شرطة جديد يتحرك في بيئة لديها الاستعداد لأن تبادله العداء لو منحها المبرر باستخدامه العنف. لقد أصبح لديهم أسوأ أنواع الأعداء: عدو لا تعرفه.
الجديد أن ثمة أناس في الجماعة تطالب الرأس باستخدام أدوات السلطة ليحصل لها على شيء من الثأر للهزيمة، تلك السلطة التي دفعه هؤلاء كثيراً (من المال وغير المال) لتوصله ليها.
 
 
في الحقيقة لم يبق من أدوات السلطة في فرض الأمر الواقع بالقوة إلا القضاء، وقد استطاع مرسي اختراقه عندما تمكن من تعيين نائب عام يخدم سياساته وينحاز لتوجهاته، ونظراً لوجود خلخلة في بنية النظام القضائي، يكاد النائب العام أن يكون بمثابة الحاكم التنفيذي في ساحة القضاء، لأنه يؤثر كثيراً في طريقة توجيه العملية القضائية صوب تحقيق غايتها وهي العدالة، لكن تأثيره ليس مطلقاً، أو هكذا يبدو الأمر حتى الآن.
لم يبق إلا القضاء لأنه في الطريق نحو إخضاع الجماهير تمردت مدن القناة، فاستنجد مرسي بالجيش لتطبيق الطوارئ، إلا أن الأمر انقلب إلى فرح شعبي شارك فيه جنود الجيش نفسه، فثبت أن العيب في السياسات وليس في وسيلة "الضبط"، وثبت أيضاً ما يستدعي إعادة الموازين بين القوى السياسية، فقد سلم الجيش السلطة لمن يفترض أنه يتمتع بتأييد شعبي، أما وإنه يحتاج إلى استخدام الجيش كشرطة محلية، فذلك يتطلب إعادة تقييم الموازين بالكامل.

فيديو يبين استعدادات ميليشيا الجماعة لمهاجمة المتظاهرين
كم دورة من العنف شهدتها مصر تحت حكم محمد مرسي منذ إعلانه الدستوري المشئوم؟
لقد تآكل ما يمكن اعتباره رصيد مرسي وجماعته، وتآكلت سلطة الرئاسة، وهي كما سلطة مبارك الأصل الذي تستمد منه كل سلطات النظام شرعيتها، فلا برلمان يؤبه له، ولا حتى للقضاء مكانته الاعتبارية فوق الجميع، كون مرسي نفسه قد وضع نفسه وبرلمانه والجمعية التي كتبت دستوراً يناسب هوى تياره السياسي فوق القانون لفترة من الوقت، وعزز سلطته بإخضاع النائب العام له. لقد نزل مرسي بمكانة القضاء درجة عن تلك التي كان قد وصل إليها مبارك، ففقد القضاء الخصوصية التي ظل يحافظ على مسحة منها، حيث أفسح مبارك مساحة في القضاء لممارسة المعارضة والطعن على قرارت الرئيس والحكومة.
في ظل هذا التآكل الشديد في الرصيد تحاول الجماعة خصم شيء من رصيد المعارضة، بأن تشير إلى متهم بالشراكة معها في العنف، خاصة أن المعارضة السياسية تتمدد حزبياً، وتبني رصيداً ناشئاً يدرب الناخبين على التصويت لها في الأطر الانتخابية الأولية كمجالس الطلاب، والنقابات.
لا توجد معارضة سياسية رسمية متورطة في العنف، هي فقط ترفض سياسات الإخوان في الاستحواذ على مفاصل النظام السياسي الذي لا يريد أن يتشكل، لكنه يحتاج لعدة أطراف من أجل تشكيله. والإخوان بقيادتهم الحالية التي لاتزال تعيش تحت تأثير نشوة التمدد الجماهيري خلال عقدي الثمانينات والتسعينات، لا ترى في المعارضة سوى "نخبة" كما كانت تراهم في ذلك العقدين اللذين شهدا انحساراً لمفاهيم اليسار والليبرالية، واستسلاماً لفشل التحديث أصاب توجه نحو الدولة المدنية بالشلل وقتها.
اتهام المعارضة بممارسة العنف ملفق، واتهامها بأنها "تسكت عن العنف" وتوفر له غطاءً سياسياً مجرد خطاب طفولي، فليس دورها أن تدين ما يضايقك، وإنما تقديم سياسات بديلة.
لكن وسط كل الخسائر التي تسبب فيها مرسي لنفسه ولجماعته تمكن "العنف" من تنفير قدر من الناس من التظاهر.
سيكون تحدياً أمام المعارضة حشد الناس في "مليونية" قادمة، سيكون التحدي في صياغة هدف وغاية الاحتشاد، لا شك أنها لابد وأن تنطلق من التحرير، ولاشك أن احتشاد الجماهير هذه المرة بعد أن تعرى الغطاء الجماهيري للجماعة نتيجة إساءتها استخدامه له، وخياناتها لثقة الجماهير في لعب دور سياسي يحقق الاستقرار، سيكون لهذا الحشد ميزان جديد إذا ما واجه الديكتاتور الذي حقنته جماعته بالشر.
 

Saturday, March 9, 2013

الإسلام السياسي وورطة الحكم باسم الثورة


 
تشبع خطاب الإسلام السياسي منذ نشأته بنزعة الخصومة، لم يتجه كدعوة للتطور، وإنما لصد الحداثة كونها جاءت مع الاستعمار، ثم اتجه بعد ذلك لضرب حركة التحرر الوطني لأنها مضت في محاولة للتحديث متخذة من الجيش مؤسسة مركزية، وسعت إلى تحديث البنى الإقتصادية والاجتماعية، فاعتبرت حركة الإخوان أن استعانة ثورة يوليو بها مجرد غطاء مؤقت، ووقع الخصام بين الإخوان وبين مسعى التحديث.
 
بعد أن نالت تنظيمات الإسلام السياسي حق العمل العلني عقب ثورة 25 يناير اتجهت نزعة الخصومة صوب التيارات المدنية والحركات اليسارية، وائتلافات الشباب الباحث عن الحرية والعدالة الاجتماعية؛ والتي كان لها دور رئيسي في الدعوة للثورة، ودفعها نحو إسقاط مبارك، وعدم الاكتفاء بما تفاوض عليه الإخوان مع عمر سليمان، وما كانوا قد قبلوا به من تولية أحمد شفيق رئيساً للوزراء.

  كان تولي الإخوان السلطة الرئاسية، وانفراد الإخوان والسلفيين بكتابة الدستور مأزقاً كاشفاً للتناقضات الكبيرة بين مشروعهم وبين دوافع الثورة وتطلعات الثوار، وأيضاً أحلام الشرائح الاجتماعية التي انحازت للثورة وسعت للتغيير.
 

راهن الإخوان والسلفيون على تصعيد الشحن الأيديولوجي ضد خصومهم، ومهادنة الغرب، وهو عكس مسار الثورة الإسلامية في إيران على سبيل المثال، وهو توجه مغاير تماما لخطاب الهوية الذي تبناه الإسلام السياسي التركي بنسختيه المتشددة التي قدمها أربكان وقادت لانقلاب عسكري ضده، والمعتدلة التي جسدها أردوغان بتوافقه مع العلمانية وتركيزه على الإقتصاد.
 
النسخة (أو المسخ) المصرية لم تستطع أيضاً التشبه بنظيرتها الباكستانية، لأنها وصلت إلى كرسي السلطة في مصر على أكتاف الهتاف المضاد للعسكر، وهو توجه غير موجود في باكستان، التي يحظى العسكر فيها بتوافق شعبي يصل حد الإجماع، كون الجيش الباكستاني جوهري للدولة التي نشأت بعد معركة انفصالية عن الهند، ويكتسب هيمنته العليا من وجود الخطر الهندي المتفوق على باكستان، وهو ما يسهل على الإسلاميين المتشددين في باكستان تصدير الخصومة للخارج.

 في مصر لم يكن للإخوان أن يصلوا للسلطة لولا نزعة إسقاط الهيمنة العليا للمؤسسة العسكرية بشقيها الجيش والشرطة، لكن التعجيل بإنهاء الحكم الانتقالي العسكري في  مصر كان يتطلب منهم تعديلاً في توجهاتهم، وليس ترقيعاً مزيفاً في طريقة الأداء.

قطاع عريض من الناس لم يبلع التزييف، ويوماً بعد يوم يكشف المزيد من أبعاده، مع تنامي أطماع أتباع الإخوان في الاستحواذ على مفاصل الدولة، دون وجود مشروع حقيقي للنهوض بالبلد وتحديث مؤسساتها، أو حتى تلبية التوقعات الثورية الأساسية.
 
الثورة نفسها اندلعت كصدام بين الشعب والشرطة يوم عيدها (25 يناير). صدام كان يهدف حسب وثائق الداعين للتظاهر في ذلك اليوم (مراسلات وائل غنيم وأحمد ماهر مثلاً) إلى توجيه رسالة قاسية للنظام تعبر عن مدى العداوة والغضب الذي يشعر به الشعب تجاه مؤسسات القوة في البلد التي تستخدم لقمعه. لكن انحياز قطاعات شعبية عريضة كانت تعرف بالأغلبية الصامتة نقل الحدث لمستوى لم يكن متوقعاً، لمستوى ثورة، مستوى يوازي التغير الكبير في علاقات إنتاج المعلومات الذي كان قد تحقق على الإنترنت، وأسقط إعلام السلطة فعلياً قبل أن تنزل الثورة إلى الشارع.
 
نزعة الخصومة التي لا يستطيع قادة اليمين الديني المتشدد التخلي عنها، لأنها تفقدهم الولاء الأيديولوجي لدى أتباعهم، مضت كلها في اتجاه مضاد لمن أشعلوا الثورة! أو من كانوا وقودها وعصبها، وأداتها في التعبير!

 حاول الإخوان اختزال الثورة في إسقاط مبارك والاستحواذ على البرلمان، لكن شباب الثورة مضوا في تطوير ثورتهم بإسقاط أحمد شفيق كرئيس للوزراء، ثم محاكمة مبارك، ثم المطالبة بحقوق فئوية ونقابية وعمالية، ونقابات مستقلة (حصلوا عليها من المجلس العسكري ثم ألغاها دستور الإخوان)، ثم المطالبة بتسليم السلطة من المجلس العسكري، وسياسات إصلاح إقتصادي جذري لتحقيق العدالة الاجتماعية، وآليات للعدالة الثورية ضد الجرائم التي تعرض لها الثوار (القصاص). لكن ذلك كثير كثير على مضمون وقدرات النسخة المصرية من الإسلام السياسي.
 
لا تستطيع تبرير التنازل عن أحلام هذه الثورة ومطالبها وتطلعاتها والقيمة الإنسانية والتضحيات التي ملأت مسارها معتمداً على شماعة خصوم الداخل؛ ومعظمهم ممن أعطوا للثورة أرواحهم وعيونهم، وأجسامهم!

من أسوأ المحاولات لعمل رواية رسمية تفسر الأحداث، وإشاعاتها بين الناس، محاولة تلبيس التيارات السياسية المدنية من يساريين وليبراليين أسباب فشل السلطة الحالية في النهوض بالبلد. هذه التيارات وشبابها هم من أعاد نبضهم السياسي الحركة للشارع الذي كان صامتاً، وتجاوب مع تضحياتهم  جموع من البسطاء ومن شرائح وسطى اقتنعوا بالجانب الحقوقي في نشاط هؤلاء.

 الثورة حقوقية لأن الشعب استجاب ونزل يبحث عن حقوقه، لا لأن الحقوقيين أشعلوا ثورة. هم فقط سهلوا التعبير عن أصحاب المطالب من شرائح الشعب البسيطة.
 
مطلب الإخوان ليس من الثورة في شيء، وأسلوب الرشوة السياسية للأصدقاء وحشد العداء الأيديولوجي لخصوم الداخل قاد البلد إلى نزاع أهلي أكثر من مرة في أشهر قليلة، ولا ينقص هذا النزاع والمصادمات حتى تتحول لحرب أهلية سوى اقتصاد هذه الحرب (والعياذ بالله)، ومثل هذا الإقتصاد يتطلب تمويلاً خارجياً وانهياراً للجيش، وهما عاملان لا يبدو أنهما سيتوفران، لكن الوصول بالوضع السياسي إلى الحافة يبدو سياسة ممنهجة، أو أنها سياسة اكتشف اليمين الديني المتشدد أنها النتيجة الواقعية لسياسات العداء ونزعة الخصومة والإقصاء الداخلي التي لا يملك غيرها ليضمن ولاء الأتباع، فقرر التعايش معها والإفادة منها زاهداً في توسيع مساحة الرضا الشعبي عنه بأساليب غير الرشوة، واستغلال ضعف الشرائح الأكثر احتياجاً.
 
الخروج من دوامة هذه الحلقة المفرغة لن يحدث بواسطة توجه مستنير انفتاحي من داخل تيار اليمين المتشدد بعدما عاد أبوالفتوح لحظيرته، وانكشفت تمثيلية حزب الوسط كمسمَّى يستخدمه الإخوان ستاراً لجذب من أثرت فيهم الدعاية السلبية ضد الإخوان لكنهم في الأصل يميلون للتيار الديني.
 
الخروج من دوامة هذه الحلقة مرهون بوعي الشعب وحركته الجماهيرية لوقف هذه الدوامة التي تمتص كل رصيده سواء من الماضي القريب للدولة المصرية، أو رصيد الشعب من المشاعر الوطنية، أو رصيده من الحلم الذي ولد مع الثورة.


هامش: الإسلام السياسي ونزعة الخصومة-1
http://ahmed-gharib.blogspot.ca/2012/12/blog-post_17.html