Tuesday, October 8, 2013

القفز في فراغ السياسة المصرية




نعلم أن قائد الجيش عبدالفتاح السيسي سيظل يلعب دور رجل الدولة الأول في مصر لفترة أطول من المرحلة الانتقالية، بغض النظر عن المسميات الوظيفية التي تناسب الدستور الجديد.

رسخ الفراغ السياسي الذي أحدثته ثورة 25 يناير، وعمّقه إنقلاب الإخوان المسلمين على الثورة طمعاً في الاستحواذ على السلطة منفردين، دور الجيش في ملء الفراغ السياسي، دون مطالبة الجيش كمؤسسة بإنهاء أسباب هذا الفراغ.

صعود السيسي، أو قفزته، إلى مرتبة الزعيم الشعبي لملء هذا الفراغ بشخصه لا بمؤسسة الجيش يرتبط بشروط أخرى، ناصرية الطابع غالباً، والمقصود بالناصرية هنا حركة تصحيح قوية لتوزيع الثروة، وإطلاق مشاريع إقتصادية كبرى تحرك الإقتصاد، وتقوم بحراك اجتماعي وتوزيع للثروة على شرائح الطبقة الوسطى الدنيا والطبقات الفقيرة والمعدمة، حيث يتركز أغلبية المخزون البشري المصري، وهو ما يستدعي عداء تلقائياً من الدول الرأسمالية.

بدون هذا المسار يظل السيسي قائداً للجيش، المؤسسة الأهم في مصر، لكن دون أن تزيد أسهمه عن ذلك القدر خطوة.

السيسي يعلم أن الترحيب الشعبي بدور أكبر له قائم، لكن استمراره مرهون بالمرور في مسار إصلاحي جذري، وهو ما لا تتهيأ له عوامل عدة منها البيئة الدولية، والوضع الإقتصادي المصري نفسه.

استغرقت ثورة يناير وموجاتها أطول من اللازم دون أن ترسي على بر، وكان للإخوان المسلمين دور سلبي للغاية في تعميق الفراغ السياسي، وليس فقط تركه يراوح مكانه، ما سمح لتناقضات البيئة الإقليمية والدولية بالقفز لملء هذا الفراغ، وإضافة تناقضات مصالحها إلى التناقضات الداخلية، وتم استهلاك جزء من احتياطي الرصيد المالي للدولة دون وجود سياسة تنموية واضحة تلقى رضا أغلبية الشعب التي ثارت من أجل العدالة الاجتماعية. ودون فتح حقيقي لمجالات الحراك الاجتماعي، فظل مركز الفراغ نشطاً يتمدد.

تمثل الإمارات والسعودية ومن ورائهما الكويت رأس حربة لكتلة إقليمية فاعلة، يهمها عدم صعود نظام إخواني على رأس السلطة في دولة بحجم مصر ومكانتها التاريخية وثقلها المعنوي. هذه الكتلة ليست على تعارض مع المنظومة الأميركية والغربية، بل العكس، لكن المنظومة الغربية نفسها تبدو حائرة في سياستها، خاصة مع تنامي علاقتها بالإخوان من مجرد الحذر إلى التعاون والشراكة والطمع في استغلال إمكانات التنظيم الدولي خارج مصر، والحاجة إلى ميليشيات تقاتل لتمرير الغاز القطري عبر الأراضي السورية إلى أوروبا، لمنافسة الغاز الروسي، وتهديد أحد أهم الموارد المالية الروسية.

التحالف الخليجي مع النظام السياسي المتولد عن حركة 30 يونيو التي أطاحت بالإخوان، ليس مفهوم الأبعاد حتى الآن.

لا تريد الأنظمة الخليجية التقليدية التي تقوم على تحالف بين عائلات حاكمة وبين رجال الدين الوهابي أن يسيطر على مصر نظام يقوم على الجمع بين الشرعية الدينية والشرعية السياسية معاً، فيهدد ثنائية الشرعية القائمة هناك. لكن ماذا بعد؟

عن ماذا سيسفر الشكل الجديد من التحالف والدعم الذي قفز بقوة إلى ساحة السياسة في مصر، وقتما سيطر عليها الفراغ كلية.

لم يكن الإخوان انتحاريين فقط عندما اختاروا مواجهة 30 يونيو بالقوة ورفض المساومة السياسية، كانوا أيضاً يستهدفون تعميق الفراغ بتصعيد الصراع إلى مستويات من العنف تشرخ تحالف 30 يونيو، وهو ما تحقق بانفصال البرادعي عنه، وما نتج عن العنف من ارتدادات، مثل محاولة بعض التجمعات الثورية إيجاد صيغة تفصلهم عن طرفي الصراع التقليديين تحت مسمى "الطريق الثالث"، وهو ما يعني عملياً الانفصال عن تحالف 30 يونيو.

قد لا يصل الانفصال عن التحالف إلى مناهضته، لكن يمكن أن يشتبك المنفصلون في صراع معه في محطات لاحقه، إن لم يستطع تحالف 30 يونيو توليد سياسات تملأ الفراغ السياسي.

من ناحية أخرى ليس منطقياً، ولا متوقعاً، أن تدعم السعودية والإمارات والكويت نظاماً يتبنى سياسات إصلاحية جذرية، تؤدي إلى إعادة توزيع الثروات وإطلاق حالة جماهيرية شعبوية. قد يدعموا بكثافة نوعاً من التنمية الاستهلاكية، أو اقتصاد الخدمات، ليتسق الدعم مع مجالات عمل الشركات الخليجية الكبرى التي تضخم رأسمالها بدرجة تحتاج إلى فتح أسواق استثمارية أخرى، لأن الدول الغربية لا تفتح أبوابها أمام الاستثمار في مجالات صناعية حساسة؛ لا يرحب الغرب بحضور غرباء فيها!

بمعنى أن الداعم الإقليمي لن يمكّن أي من اللاعبين المحليين من ملء الفراغ كاملاً، لكنه سيراهن بالدرجة الأكبر على مؤسسة الجيش التي حجزت مقعداً دائماً وحق فيتو في أي خريطة طريق سياسية تمضي فيها مصر لسنوات مقبلة.

تبدو الوضعية الاستثنائية مريحة لقادة الجيش، فهي تضمن كل ما كانوا يتمتعون به منذ يوليو 1952، دون أن تلقي عليهم عبء التنمية الاقتصادية التي أهلكت شعبية الرؤساء ذوي الخلفية العسكرية من قبل.

وضعية الشريك الضامن في الحكم مريحة لقادة الجيش، تبقى فقط عملية العثور على شركاء أقوياء يتولون الحكم المدني، ويتبادلونه، بطريقة لا تقسم البلد فتنتقص من قوتها الاستراتيجية، كما فعل مرسي، ولا تخذل تطلعات الجماهير إلى درجة تستدعي عودتها إلى الشارع وإسقاط النظام كلية، خاصة أن هذه الجماهير أبدت من الشجاعة والاستعداد إلى العودة في مدى قصير جداً ما لا يجعل أحداً يراهن على الاستخفاف بها.


من هنا يبدو حمدين صباحي وأبوالفتوح الأقرب للتنافس على الدور المدني في هذه الشراكة، لكن المسألة هذه المرة ليست أشخاصاً بقدر ما هي طريقة ووسيلة لملء الفراغ السياسي القائم، وشد الناس إلى العمل ضمن مشروع قومي لإعادة بناء البلد. وبذلك تتحرك كرة الفراغ السياسي إلى ملعب القوى السياسية المدنية.

لن يمثل أبوالفتوح الإخوان، بقدر ما سيجمع بقايا من تربوا وعاشوا على حلم الصحوة الإسلامية، ولايزالون يحلمون باستعادة أمجاد ماض لا يربطه بالحاضر سوى شعور صاحبه الداخلي بالتدين والإيمان.

ولن يطلب مؤيد صباحي منه أن يمثل عبدالناصر، بقدر ما سيطلب منه لعب دور رجل الدولة الذي لم يتمكن البرادعي من لعبه، بالتحالف والتعايش مع بقية مكونات تحالف 30 يونيو، إضافة إلى اللاعبين الذين قفزوا إلى الساحة مستغلين الفراغ السياسي فأصبحوا جزءً من التركيبة.

سيكون مطلوباً من صباحي اللعب والمناورة السياسية مع كل ذلك وفوقه أميركا والغرب وليس الصدام  مع هذه القوى، وفي الوقت نفسه دون الإخلال بطموحات الجماهير في تنمية شعبية

لم يعد هناك مجال للعمل تحت شعار "نعرف ما لا نريد"، ولم يعد ملء الفراغ السياسي المصري حكراً على الشارع وجماهيره، لقد قفز شركاء إلى الملعب، وأصبحت بعض الأدوار مرسومة بالفعل ولا يمكن تجاوزها (الجيش واللاعبون الإقليميون مثلاً)، بحكم ضعف الاقتصاد، أو بحكم ضعف السياسيين وعدم قدرتهم على طرح مشاريع سياسية تتنباها الجماهير وتتمسك بها.

لاتزال حصة السياسيين المدنيين موجودة، ودورهم مطلوب، لكن لم يعد مقبولاً منهم مواصلة اللعب بأسلوب "نعرف ما لا نريد"، وإلا ستتحول المعارضة إلى الحالة الكارتونية التي كانت عليها أيام ما قبل 25 يناير.

أما الإخوان فلا تتجاوز حالياً طموحات التنظيم الرسمي مسألة استغلال الأجيال الشابة في عمل اضطرابات وقلاقل تؤدي إلى الإفراج عن القادة، وإلقاء القبض بدلاً منهم على القيادات الوسيطة وتحت الوسيطة، ليعود الأمر كما كان قبل ثورة يناير، وهو هدف وليد لفراغ سياسي وفكري كبير غرقت فيه الجماعة.

وللأسف لم يعد البرادعي رمزاً، لم يعد "البوب"، وإنما البرادعي فقط! وعليه القيام بقفزة مزدوجة، الأولى يعود بها إلى رمزية "البوب"، والثانية يلعب فيها دوراً سياسياً مقبولاً من الجماهير، لكنه للأسف ربط رمزيته بنبوءة فشل تحالف 30 يونيو ونجاح عنف الإخوان في إجهاض التحالف، وهي نبوءة لا يمكن حتى لمؤيديه تمني أن تتحقق.

Saturday, October 5, 2013

قصة من أوراقي القديمة: عود ثقاب بارد ليلاً

عود ثقاب بارد ليلاً
 
 
(نشرت في جريدة الحياة 25/11/1994)
 
 
كانت الليلة الأخيرة قبل ترحيله، مشينا من ميدان التحرير حتى ميدان رمسيس. أخفى كل منا ابتسامته عن الآخر ونحن ننظر إلى العساكر الذين يجرون في الميدان وراء الميكروباص. بعد خطوات علق شارحاً: "العساكر كتير لأن النهاردة الجمعة، وفيه اجازات كتير".
استمر المشي. كنا نتحدث عن آخر أخبار كرة القدم، وعن استعداده للترحيل، وطلب مني أن أذكره بشراء ورنيش لتميع حذائه العسكري، فطلبت منه أن يذكرني بشراء لمبة لأن لمبة الصالة اتحرقت.
لم أنظر إليه طوال سيرنا.
تخطينا ميدان رمسيس ولم يدخل الفجالة حيث يسكن، قال في رجاء أخير: "أمشي معاك شوية وابقى أرجع". قلت له: "امبارح قرأوا الفاتحة، اتصلت بي قبلها وأغلقت الخط بعد دقيقة". لم يرد.
لمحته بسرعة، قصّر شعره لدرجة غيرت شكله تماماً، وأصبح قصيراً عما قبل. توقفنا وأشعلنا سيجارتين بصعوبة متوارين من الهواء في بعضنا، التقت عينانا بسرعة عندما رفع رأسه عن عود الثقاب ليجذب نَفَسَه الأول، بينما عبرت سيارتان مسرعتان.
طالما مشينا بعد منتصف الليل في شارع رمسيس، كنا نجري أحياناً وندخل في سباقات للمشي، عندما يخلو الشارع المزدحم نشعر بأننا نمتلك كل شيء.
وضع يده على كتفي قائلاً: "أنا راجع". عانقته لفتره ورأيت خلفه إعلانا مضيئاً بالنيون لمياه غازية يومض وينطفئ، كان الإعلان بعيداً، أبعد من الكوبري الذي يأتي بالسيارات من التحرير. ابتسم وأشار بأصابعه إشارة النصر فضحكت وسعلت وقلت: "تفتكر؟" ونظرت ثانية لإعلان النيون.
أسرعت خطوي متجاوزاً محطة البنزين التي وقف فيها ميكروباص ممتلئ بالجنود، منتظراً سيارة جيب سيزوكي من الطراز الحديث حتى يأخذ دوره. لم أذكره بشراء الورنيش ولم يذكرني باللمبة. التفت ثانية وأدركت أن الشارع خال من الناس. لمحت الرجل الذي يرتدي جلباباً مكوياً وحذاء لامعاً يخرج من شارع جانبي ويقترب مني. سألني كعادته كيف يمشي إلى باب اللوق؟ فقلت مضطرباً: "امشي على طول عشرين محطة" وابتعدت عنه، مشيت بسرعة ولم التفت، مرة واحدة رآه معي وسألنا معاً نفس السؤال بنفس الثبات وأجبناه بنفس الاستغراب.
لم أخبره بتكرار ظهور الرجل، كنت أريده أن يفهم وحده.
زادت برودة الليل وراودني إحساس بأن الرجل سيعود هذه المرة من خلفي، أسرعت وكنت خائفاً. تركت السيجارة تنزلق من بين أصابعي وهرولت، مرت السيارة الجيب بجانبي، سبقتني ثم مالت إلى جانب الطريق، وتوقفتْ ونزلتْ منها فتاة ترتدي تنورة قصيرة، كنت لا أزال أهرول مقترباً من السيارة، ودّعت الفتاة الشبان الثلاثة الجالسين في استرخاء، توقفتُ على بعد خطوات من السيارة بينما دخلت الفتاة شارعاً جانبياً فانطلقتْ السيارة ووجدتُ نفسي أجري بسرعة والهواء البارد يلسع وجهي، لم أر الفتاة إلا من ظهرها، هل قالت لي أحبك قبل أن تغلق السماعة؟ عاودت المشي حتى أعيد لتنفسي انتظامه، شعرت بجفاف في حلقي بينما مرت سيارة مسرعة، مرت سيارات أخرى مسرعة... هل هي...؟!
عندما اشتعل الثقاب اقتربتُ برأسي وهو كذلك، ولم يكن ممكناً تجنب التقاء عينينا.
ملتُ نحو شارعنا متجنباً الكلاب التي تقف عند الكراج، تخطيته بسرعة فنبح أحد الكلاب ثم رد عليه عدد منهم، لكني كنت وصلت إلى البيت، على السلم سمعتُ صوت القطط تقلب صفائح الزبالة فزعة من صوت أقدامي، ومرّت واحدة من تحت رجلي، فتحتُ الباب مضطرباً، ضغطتُ على مفتاح النور.. يوووه، نسيت اللمبة، اصطدمت ركبتي بكرسي فسرت رعشة في رجلي كلها.
توجهت إلى حجرتي بهدوء حتى لا أزعج أمي، رن جرس التليفون فرفعتُ السماعة،: "ألو" لم يجب أحد، كررتها "ألو.. ألو"، أغلق الخط، نظرتُ في الساعة فوجدتها الثانية بعد منتصف الليل.