Sunday, February 19, 2012

موسيقى الجاز (2-2): ديانا كرال.. بيضاء على عرش اللحن الأسود




الملف منشور في مجلة "درة قطر"- فبراير 2012
أحمد غريب

ربما لم يرد استعمال تعبير "التربع على عرش موسيقى "الجاز" قبل أن تطرحه إنجازات المطربة الكندية ديانا كرال، فهذه المرتبة ذات الطابع الترويجي لصيقة بموسيقى "البوب" الشعبية، لكن الاستثنائي هنا مع كرال التي تعزف البيانو منذ عمر 4 سنوات أن بعض ألبوماتها تفوَّق على ألبومات "البوب" رواجاً، حيث سجلتْ مبيعات
ألبوماتها أرقاماً غير مسبوقة بداية منذ عام 2000 عندما حصل ألبومها
When I Look in Your Eyes
على لقب ألبوم العام في الولايات المتحدة، محققاً نسبة مبيعات هي الأعلى في تاريخ"الجاز"، تلاه ألبوم
The Look of Love
عام 2001 الذي نافس في قائمة أغنيات "بيلبورد" - أشهر وأهم سباقات الأغاني- ضمن العشر الأوائل ليكون أول ألبوم"جاز" في تاريخ سباق الأغنيات الأمريكي يسجل تقدماً على أغنيات البوب والروك معاً.




بالطبع تحتل ألبومات كرال، التي بدأت مشوارها الفني عام 1993، مراكز أولى أو متقدمة في موطنها الأصلي كندا، فقد حصلت على 3 جوائز "جرامي" الأمريكية من أصل 9 ترشيحات بينما نالت 8 جوائز"جونو"؛ المعادل الكندي للجائزة الأمريكية. لكن القصد من ذلك العرض للتقديرات التي نالتها نجمة "الجاز" الحالية ليس إلا الإشارة لتغيير أحدثته أغنيات كرال في علاقة الجمهور بموسيقى "الجاز"، والذي يلخصه ذلك الإحصاء الأخير: تخطى مجموع مبيعات هذه المطربة من ألبومات "الجاز" 15مليون نسخة، وهو الأعلى في تاريخ هذه الموسيقى الأمريكية العريقة!


Cry Me A River From "Live In Paris"
الأغنية كتبها آرثر هاميلتون كي تغنيها أسطورة الجاز إيلا فيتزجرالد عام 1920 في فيلم
 Pete Kelly's Blues
لكنها استُبعدت من الفيلم، وغنتها فيما بعد الكثيرات أشهرهن دينا واشنطن، ثم أضافت ديانا كرال كثيراً لطريقة أداء الأغنية فتفوقت

 ثمة شيء ما في موسيقى "الجاز" يعاند الشهرة الفائقة والانتشار الجماهيري الذي تحققه موسيقى البوب، شيء له علاقة بتاريخ صناعة النجومية في هذا اللون الغنائي المفعم بالشجن، حيث يعيد معظم نجومه غناء ألحان قديمة بأساليبهم الخاصة في الأداء، والملفت أن ديانا كرال ليست استثناء عن تلك القاعدة، فقد ظلت تعيد أداء أغنيات من ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين لمدة 8 سنوات نالت خلالها أغلب ما حصدته من جوائز!

 تُعد إعادة إنتاج الكلمات أو الألحان سمة جوهرية من سمات موسيقى "الجاز" تميزها عن غيرها من ألوان الموسيقى والغناء الأمريكيين، سمة تمنح كلمات الأغنية عمقاً شعورياً مع تلوُّن نبرات وطبقات الصوت، وتجعل من الأغنية، كلمة ولحناً، نصاً إبداعياً مفتوحاً يتفاعل مع زمان ومكان وحالة المطرب وتوليفة الآلات الموسيقية التي تعزفها الفرقة المصاحبة، بل وحتى حالة المسرح الذي يكون "تقليدياً" ضمن ملهى ليلي.

 هنا تكتسب معايير التنافس بين نجوم "الجاز" سمات ديناميكية ومتناقضة، فالنجاح في تقديم جوهر المشاعر التي حملها النص الأصلي كلاماً ولحناً شرط أساسي، لكن بالمقابل لا يكتسب فنان "الجاز" هويته دون تقديم الإحساس طازجاً من خلال علاقته باللحظة، وتوظيفه الدقيق لموهبته الشخصية وقدراته، خاصة أنه في أغلب الأحوال يكون عازفاً لآلة موسيقية يبثها أشجانه أثناء الغناء وترد عليه، وبذلك يصبح الارتجال قيمة أسمى في الأداء، ويستخدم لقب "أسطورة الجاز" للتعبير عن التفوق الإبداعي بدلاً من الألقاب المستوحاة من فكرة السيطرة والنجاح الجماهيري الطاغي مثل لقب "ملك الروك" الذي أُطلق على إلفيس بريسلي، أو "ملك البوب" الذي التصق بمايكل جاكسون.
لم تعرف صناعة الموسيقى في أمريكا رواجاً تجارياً لألبومات "الجاز" بل تشهد مهرجاناً سنوياً واحداً على الأقل لكل مدينة وبلدة في أنحاء القارة، حيث يتم التفاعل الحي بين الفنان والجمهور والآلة الموسيقية. ظهور ديانا كرال في التسعينات وتصدرها للمشهد الخاص بموسيقى "الجاز" كان انعكاساً لتغيير في هذه السمات الأصيلة في نظرة الجمهور الأمريكي لـ "الجاز". تغيير له صلة بعمليات تصحيح ثقافي في الوعي الأمريكي تجاه تراثه وتاريخ المجموعات العرقية المكونة للمجتمع. وتغير في دور موسيقى "الجاز" نفسها، وفي ذائقة الجمهور الذي بات متقبلاً للاستماع لتسجيلات الحفلات الحية عبر وسائط حديثة.

 وُلدت كرال في بلدة صغيرة قرب مدينة فانكوفر على الساحل الغربي لكندا عام 1964، ويعد وصولها كامرأة بيضاء إلى قمة موسيقى ارتبطت تاريخياً بالسود وبقضاياهم تغيراً عميقاً في الدور الذي أصبحت تلعبه هذه الموسيقى، ما دفع بعض النقاد التقليديين إلى التشكيك في أسباب شهرتها، ملمِّحين إلى عناصر ترويجية أخرى كالشكل والأنوثة، أو لظهورها المتكرر كمطربة "جاز" في بعض الأفلام السينمائية والمسلسلات الدرامية، وهي انتقادات لم تجد ترحيباً من الجمهور وكذلك من قسم آخر من النقاد، لأن أداء ديانا كرال للنمط الكلاسيكي من "الجاز" يجعلها تندمج كلياً في عزفها على البيانو على المسرح ما يتناقض مع اتهامها باستغلال أنوثتها، وقد أشارت كرال بشكل غير مباشر في الحوارات الصحفية القليلة التي أجرتها إلى رغبتها المتحفظة في إبقاء حياتها الشخصية بعيدة عن فنها، ورفضها الكامل للحديث عن استغلالها للشكل في جذب الجمهور قائلة "أنا أم، وبخلاف ذلك لا أهتم بهذا النوع من النقد".

إذن، كيف يمكن أن نفسر هذه الحالة الجماهيرية الإستثنائية لفنانة تتحفظ في اللعب بأدوات الرواج الجماهيري غير الفنية؟

رومانسية "الجاز" دون أيديولوجيا

 للمؤرخ الموسيقي الأمريكي القدير تيد جويا إجابة تحليلية جديرة بالتأمل، قدمها في دراسته "حالة غناء الجاز اليوم" التي رصد فيها مشهد هذا اللون الغنائي في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، بداية من ظاهرة تصدُّر المغنيات النساء للساحة الفنية إلى الدرجة التي جعلته يتساءل "هل دخلت مجلة فوج مجال إنتاج موسيقى الجاز؟" معدداً أسماء: ديانا كرال وجين مونهيت وروبرتا جامباريني ومادلين بيروكس، إلى جانب نورا جونز التي يتراواح إنتاجها ما بين "الجاز" و"الكنتري ميوزيك"، كون هؤلاء هن أشهر وأهم من يغني "الجاز" حالياً. ويعتبر جويا تلك الظاهرة دليل حيوية هذا اللون الفني الذي تخلَّص على يد هؤلاء وغيرهن من مطربات ومطربي العقدين الأخيرين من حمولته الأيديولوجية، ليصبح مضماراً للتعبير الجمالي والشعوري عن العواطف العميقة، ويغدو التنافس فيه بحسب القدرة على بلوغ ذروة التعبير عن العاطفة وفق التقاليد الجمالية وحدها لفن الجاز، والتي تحققها ديانا كرال بشكل مثالي.

لم يُشِر جويا في دراسته إلى أن جميع هؤلاء المطربات لسن من ذوات البشرة السوداء، لكنه أشار إلى أن الشكل الذي ظهر به مطربوا ومطربات "الجاز" كان يلبي دائماً تطلعاً في مخيلة جمهور كل حقبة زمنية بذاتها، وهو في الحقبة الأولى من القرن الواحد وعشرين تجسيد لرغبة تواقة إلى التعبير عن مشاعر رومانسية بألحان مرهفة ابتعدت عنها ألوان موسيقى البوب والروك.

 رصد جويا أيضاً نهجاً تميزت به كرال وكان له دور في تصدرها المشهد الغنائي، وهو اختيارها للون "الجاز الكلاسيكي" الذي يجسد أصفى الحالات الجمالية لغناء هذه الألحان المفعمة بالشجن، ونجاحها في تطوير وتسريع نبض وإيقاع أغنيات حقبة الأربعينات من القرن العشرين بما يسمح بتقبل الأذن لها في الوقت الراهن دون أن تفقد انتمائها لـ "الجاز"، وقدرة هذه المطربة على تحديث كلمات وجُمل الأغنيات خلال الارتجال إلى درجة اعتُبرت بمثابة إعادة تأليف، وهو ما تنفيه كرال مؤكدة أنها تؤلف الموسيقى أولاً ثم تبحث عن كلمات تتوافق معها بعد ذلك. ولعل التعبير الذي وصف به المؤرخ تيد جويا أداء كرال على المسرح معتبراً أنه سر تفوقها على منافساتها من المطربات "تمنح نفسها بالكامل لعملها" هو أكثر ما يلفت بالفعل في حضور هذه الفنانة على المسرح.

 لا تضع كرال إلا القليل من تفاصيل حياتها الخاصة تحت الضوء، فباستثناء إشارات إلى نشأتها في بلدة صغيرة على الساحل الغربي لأسرة من الطبقة الوسطى، ما جعل مخيلتها ترتبط برومانسية مشهد البحر، وبأنها أم لتوأمين، لا يلفت في سيرتها إلا العزف المبكر على البيانو ودراستها للجاز في لوس أنجلوس، والتزامها بالغناء مع نفس عازفي فرقتها الرباعية منذ بدأت وحتى الآن، وتتكون الفرقة من بيانو تعزف عليه بنفسها، وجيتار وكونترباص وآلة إيقاع، وتصاحب الفرقة الرباعية أوركسترا عندما تغني كرال على مسارح كبرى مثل مسرح "الأولمبيا" بباريس.

 تأثرت كرال بفنان الجاز الرائد "نات كينج كول" الذي عزف البيانو وغنى الجاز في خمسينات القرن العشرين وكان أول أميركي أسود يقدم برنامجاً للمنوعات في التلفزيون يستضيف فيه مشاهير ويقدم فقرات غنائية، ولعل ذلك سبب ترحيبها بالظهور التلفزيوني في مسلسلات درامية بشخصيتها كمغنية "جاز"، وقد أصدرتْ ألبوماً خاصاً أعادت فيه تقديم بعض أعمال "كول". أما أول ألبوم تقدم فيه أغنياتها هي فقد صدر عام 2004، وقد ألَّفت ألحانه بنفسها ووضع زوجها المطرب البريطاني إلفيس كوستيلو كلماته لاحقاً بعد تأليف الموسيقى.

يمكن الاستماع لأداء دينا واشنطن لأغنية  Cry me a river عبر الرابط التالي لمعرفة الفرق الذي أضافته كرال لأداء الأغنية:
وللمزيد من أداء كرال الأغنية التالية:   - Lets fall in love  
 

Thursday, February 16, 2012

موسيقى الجاز (1-2).. العزف حتى الشجن


الملف منشور في مجلة "درة قطر"- فبراير 2012
تقاسيم على الساكسفون أو نقرات على أصابع البيانو.. لا تنتهي.. يظل العازف يعيدها دون تطابق، حتى يصل بصوت البوق إلى ما هو أكثر من نفخ نغمات منوعة في أشجانها، ويذيل النقر على البيانو الفواصل بين درجات السلم الموسيقي ليصل إلى حالة شعورية سائلة.. هذا بعض من موسيقى الجاز لكنه ليس كل شيء؛ فعلى العازفَيْن ومعهما قارع الطبل ولاعب الكونترباص – وفق الشكل الرباعي الأشهر في فرق الجاز – أن يعيش كل منهم حالة استيهام في ارتجاله للتقاسيم، وهي درجة أعلى من التناغم بين عازف وآخر، حيث يسبح كل منهم داخل المساحة الإبداعية بين أسلوبه وإحساسه وبين الآلة وهذا النوع الموسيقي الفريد الذي يظل مفتوحاً دائماً على الإضافة والتمازج مع أنماط وتيمات ونغمات عديدة.

لـ "الجاز" فضاء واسع يتداخل فيه الحلم والتاريخ والمشاعر المتحولة. إنه بحث الإنسان عن صوت وصدى لما يتحرك ويعتمل في داخله وليس ما استقر أو ما اكتمل. ثمة نقص لا يبحث عن اكتمال وإنما شجن الرحلة والطريق.




Sunday, February 5, 2012

كنيسة "القديسين" وبورسعيد


مصمم اللوحة هو الشاب: محمد عيد، أحد متطوعي صفحة "كلنا خالد سعيد"، فقد إحدى عينيه في اشتباكات الداخلية مع المتظاهرين في 3 فبراير2012


مذبحة بورسعيد تكرار لمذبحة "كنيسة القديسين" في الإسكندرية التي ارتكبت قبل أسابيع من ثورة يناير لإشاعة الخوف والفتنة، ربما يكون مدبر "بورسعيد" قد فكر مع معاونيه في صيغة أخرى غير الفتنة الطائفية تحقق هدف الوقيعة، والوقيعة حالة من الشك في الآخر، تخلخل الثقة الاجتماعية، وتخلق مسافات بين الأفراد وبعضهم البعض، وبين التجمعات والروابط التي تشكل خلايا المجتمع.
 إنها حالة نعرفها جيداً نحن المصريون الذين عشنا سنوات تحت حكم مبارك واليأس يغمرنا من أي عمل جماعي، و"كلنا" نبحث عن حل "فردي" للأزمات التي كانت تغرقنا دون أن نبادر مبادرة جماعية لحل الأزمة الحقيقية وهي النظام الذي ينتج الأزمات.
 لم يكن هناك مجال لأن نقول "كلنا..." ليس لأن خالد سعيد لم يكن قد استشهد على يد جلادين النظام، أبداً، كان هناك كثير  من الأسباب الثقافية التي تجبرنا على تسليم الأمر لسلطة الحاكم الأعلى، ومن طبقات الخوف التي تحذرنا من الاعتراض، ومن الشك في تضامن الآخرين معنا.
"كلنا خالد سعيد" كانت ثورة على هذا الشك، أو القلق من أن الآخر لن يخطو معك خطوة جماعية، وكان خروج تجمعات الشباب إلى الشارع بعدما بنوا قدراً كافياً من مشاعر الثقة على الإنترت شعلة غير مسبوقة استجاب لها الملايين من الشعب كثير منهم لم يعرفوا ما هو الإنترنت أصلاً.

 لقد أعادت الثورة روحاً جماعية غابت عن شخصية المصري طوال عهد مبارك، ربما تكون قد لاحت في عهدي ناصر والسادات في ساعات المواجهة مع عدوان الغرب وعدوان إسرائيل، لكن تجليات تلك الروح الجماعية كانت أسيرة قناة واحدة للتعبير يمسك بزمامها ضباط الجيش، كونه المؤسسة الأكثر نضجاً في السنوات الأولى للاستقلال عن المستعمر.
"كلنا خالد سعيد"، تلك الفكرة والروح التي اختمرت على الإنترنت، ثم فرضت نفسها - مع غيرها من الروابط والإئتلافات- بتجليات رائعة ومتنوعة على الميدان، أعادت روحاً لم تنجح في وأدها جريمة "كنيسة القديسين" التي تمت برعاية "حبيب العادلي" ليلة رأس السنة في مطلع عام 2011.

 "كلنا" الآن نتغنى في داخلنا بروح الميدان، وروعته. لقد منحتنا ذاكرة جماعية، أصبح بمقدورنا أن نبني عليها ونستولد منها مبادرات جديدة، وما خروج المصريين بالملايين يوم 25 يناير 2012 في الذكرى السنوية الأولى إلا إعلان قوي عن تمسك شعبي حاسم بتلك الروح كدرع يحفظ للشعب وجود القرار بيده.
لكن نظام المرحلة الإنتقالية اعتبر أن الخطأ الكبير لمبارك هو إنتخابات 2010 التي أدارها أحمد عز بأسلوب لم ينجح في تزييف قشرة الديموقراطية، وأن تصحيح ذلك الخطأ، مع توجيه آلة التخويف إلى الشباب الذي انضم حديثاً إلى السياسة، وتخويف هذه القطاعات التي كانت قليلاً ما تتعرض لانتهاكات وتعذيب وسحل ومحاكمات عسكرية وأحكام بالسجن، سيكون كفيلاً بإعادة أو ترميم نفس النظام، خاصة أن القوى السياسية التي يمكنها أن تحرز نصيباً كبيراً في البرلمان قد أنهكها الصدام مع نفس آلة التخويف لعقود، وتتطلع لمكاسب مستقرة خاصة إذا تضمن المكسب قدراً من المشاركة في السلطة، فهي تعلم أيضاً أن القبول الدولي لحيازتها النصيب الأكبر من السلطة يحتاج وقتاً، لذا ستقبل بحصة معقولة تمكنها من مواصلة العمل السياسي الجماهيري باستقرار.
وباكتمال هذه الخطوة أصبح الهجوم على إحدى المجموعات الشبابية ممكناً، لبث جرعة تخويف كبيرة بين جموعها، ولتحقيق الهدف الأكبر: تطويق الروابط الاجتماعية التي تماسكت مع الثورة بالوقيعة والخوف والإنكسار؛ والرهان على أن نسبة كبيرة من الشعب ستقبل وتسلم بالأمر، هكذا ظن من دبر العملية في تقديري.
نجح "مهندس" عملية "مذبحة بورسعيد" في تفادي وجود موقف دولي يدين جهة بعينها، كون الحدث غير طائفي، وظن أن ماكينته الإعلامية التي لاتزال تعمل تحت سقف الولاء للأجهزة الأمنية، يمكنها تصوير الحدث وتسويقه على أنه اكثر من مجرد شغب ملاعب صادف ضحاياه سوء حظ نتيجة عدم وجود مخارج متعددة في الاستاد، لو تسمَّعنا ما قاله الإعلاميون المنسوبين للنظام سنجدهم يتكلمون عن أكثر من ذلك، عن ما يشعل فتنة على أساس مناطقي بين مدينة بورسعيد ومدينة القاهرة، وبين رابطة جماهير لنادي يمثل مدينة ليست بالهينة، وبين رابطة جماهير لناد قاهري كبير له أنصار في معظم المحافظات. هناك أيضاً تصريح المشير طنطاوي الذي يبدو أن ظاهره الاستنجاد بالشعب، لكن معناه الحقيقي يقود إلى صراع أهلي وفوضى كبيرة.
لاشك أن مخطط العملية أو"مهندسها" يضرب الآن أخماساً في أسداس متعجباً من تمسك الشباب بفكرة "كلنا" وعدم انسياقه وراء الفتنة والانقسام. إنه يدفع الآن بآخر قطع شطرنج يمكنها أن تمنح عمليته قدراً من النجاح، يقلل من نتائجها الكارثية عليه وعلى من كلفوه بالتخطيط، فيلقي بورقة "شيوخ الأمن"  مثل الشيخ يعقوب صاحب عبارة "غزوة الصناديق" التي جعلت من صوتوا بـ "لا" في الاستفتاء هدفاً للغزو وليسوا حوالي خمسة ملايين مواطن ارتأوا وجهة نظر سياسية معينة كان اختيارها مباحاً وشرعياً ومتاحاً، هذا الرجل يظهر على الشاشات الآن ناصحاً آباء الشباب بسحب أبناءهم من الميدان، ضمن جملة من النصائح تعني تسليم الأمر بالكامل للسلطة القائمة تفعل ما تشاء.
إذن ما الجديد في عملية الترميم التي يقوم بها النظام عن ما سبق؟
باستثناء انتخاب برلمان قليل الصلاحيات، لا شيء.
 فقط رهان أعمى، من أشخاص أغلق تشبثهم بالسطة عقولهم، وجعلهم يصدقون أن الخوف أصيل في الإنسان المصري، وأن الانكسار وغياب الثقة في إنتماء الآخرين للوطن حالة إدمان لنفسية المصري، وأن الشعب بين الخوف والانكسار سيكذب على نفسه كذبة ويصدقها، مستسهلاً فكرة أن القائمين على السلطة لا يخطئون، ولا يتآمرون عليه، بل وربما يبالغ البعض في الكذب فيقول إنهم يتصرفون هذه التصرفات لأنهم وطنيون ويخافون على الشعب من عدوان خارجي!
لم تفلح مذبحة "كنيسة القديسين" في خرق الصفوف التي توحدت والتأمت تحت عاطفة "كلنا"، وقد أعادت مذبحة "استاد بورسعيد" بعضاً ممن كان قد ابتعد عن روح "كلنا"، وهاهم يعيدون أحد رموز التفرقة (صاحب غزوة الصناديق) عله يكرر نجاحه في تفتيت الجموع.
حاصل جمع "نعم" و"لا" هو "كلنا".
مسلة الشهداء التي أقامها الثوار في ميدان التحرير في الذكرى الأولى لإنطلاق الثورة 

Thursday, February 2, 2012

استقرار العنف


أحمد غريب

كل الطرق التي سلكها الشعب المصري أدت إلى العنف، رغم أن النوايا والتطلعات كانت تهدف إلى العكس!

هناك أنماط من الثورة شهدتها التاريخ، ونحن لسنا بدعاً، هناك النمط الإنجليزي الذي يبدو أن مصر تحديداً قد سلكت طريقه منذ صوتت أغلبية الشعب لخيار "نعم" مغلبين فكرة الاستقرار السريع، الذي منح المؤسسة العسكرية (دون أن يتضمن مضمون التصويت ذلك صراحة) نوعاً من التفويض الكامل، فلم يعقد المجلس العسكري لقاءات مع القوى الوطنية التي شاركت في الثورة، سوى مرة واحدة قبل الاستفتاء تحت مسمى (الحوار الوطني)، ولم يعقدها بعد الاستفتاء، بل انطلقت قوى الثورة المضادة لتمارس حضورها السياسي بواسطة إشعال الفتن الطائفية، وإشاعة الفوضى الأمنية، وحملات تخوين بعض الفصائل التي شاركت وضحت من أجل الثورة، وإطلاق اتهامات التخوين وتلقي أموال من الخارج.

لم يحاول المجلس العسكري الحاكم الاستماع، مجرد الاستماع، إلي طرف مخالف له إلا بعد أحداث "محمد محمود" بقبوله فكرة تولي البرادعي وزارة إنقاذ، وقد عرض الفكرة على القوى الحزبية التي كانت تستعد لبدء الانتخابات البرلمانية، ورفض قسم رئيسي منها هذه الفكرة، مكلفاً "العسكري" بالبحث عن رئيس وزراء مناسب غير البرادعي، وحل استقراري غير فكرة وزارة الإنقاذ. المصدر في ذلك هو أبو العلاماضي رئيس حزب الوسط الذي أعرب لجريدة الأهرام عن دهشته من هذا الخيار لبعض القوى الحزبية، دون أن يسميها.

يمكننا أن نفهم من هي هذه القوى الحزبية التي عارضت مشاركة جزء من السلطة مع ممثل للقوى السياسية التي لاتزال في الميدان، معتبرة أن الانتخابات البرلمانية كفيلة بالحل. هي لا شك إحدى القوتين الأكثر عدداً في البرلمان (الإخوان أو السلفيين) أو كلاهما.

لكن هل المسألة مجرد المشاركة في السلطة؟

بالطبع لا، إنها تتعلق أكثر بالتوجه السياسي الذي لايزال يدلل الفلول ويحمي من كانوا في السلطة قبل 25 يناير، ويحافظ على سياسات تحمي مكاسب القوى التي سادت قبل 25 يناير، ويتعلق الأمر أيضاً بالمطالب التي لم تنفذ والسياسات المرجوة التي لم يعلن أي فصيل سياسي له حصة رئيسية في البرلمان عن نيته تبنيها، بل يتم ضرب عرض الحائط بها رغم صراخ الجميع بها في الميدان وفي المسيرات.

 هذه المطالب لاتجد من ينفذها أو يتبناها، و"الإخوان" الذين يشكلون الأغلبية البرلمانية صريحون، ففي لقاء مع الأستاذ صبحي صالح تضمنه برنامج "من سيحكم مصر" للإعلامي أسعد طه على قناة الجزيرة، قال الرجل (مبتسما) رداً على سؤال حول المحاكم العسكرية: "لقد جربناها، والآن بعد الثورة رفع الحظر الذي كان مفروضاً علينا من الوصول للوظائف السيادية والكبرى في الدولة، ومنها القضاء"، الذي يعنيه هو شخصياً. هكذا يصعب على قوى سياسية تفكر بهذه الطريقة أن تتبنى مطالب عامة، أو تستفيد منها قوى أخرى تتألم لعدم تلبيتها، حتى لو كانت مطالب تمثل قطاعات شعبية عريضة نسبياً، فمن في السلطة، او من يمثلون دور الساتر الذي يحميها (البرلمان) يستسهلون خداع هذه القطاعات من الرأي العام من خلال إرباكها بدعاية إعلامية تستهدف مصداقية من يعبرون عن هذه المطالب وعن هذه الكتل.

للأسف أصبح الخيار الذي تقدمه السلطة بعد عملية تغيير تحسين وجهها بوجود برلمان شكلي: العنف، أو الاستسلام والتنازل عن المطالب الشعبية. فلم يصدر البرلمان أي قانون يعبر عن تصحيح أي وضع من الأوضاع التي كانت قائمة قبل الثورة!

 لم يتم إلغاء المحاكمات العسكرية، بل تم رفع الحصانة عن أحد النواب ليواجه المحكمة العسكرية!

 لم يصدر قانون واحد يصحح أياً من أوضاع الأجور أو الضرائب او طرق الإنفاق الحكومية غير المقبولة!

 هل يعقل أن الثورة لم يكن لها مبرر ولا يوجد في الأوضاع ما يحتاج إلى تصحيح؟!



 لقد أدت الخيارات الشعبية التي غلَّبت فكرة "الاستقرار السريع" إلى احتفاظ القوى المضادة أو غير المتحمسة للثورة بكل امتيازاتها، بل وبقوتها الضاربة التي تعمل بكفاءة متزايدة من محطة إلى أخرى نحو القضاء على مطالب التغيير ومن يمثلونها، وفي كل مرحلة تقوم بتصعيد العنف، أو تحمي تابعيها من عواقب ممارسة عنف ( مثل الضابط الشناوي قناص العيون، أو حماية الضباط الذين أمروا وأشرفوا على كشوف العذرية، وقبلهم حماية قتلة ثوار يناير من العقوبة) في كل مرة تحقق هذه القوى التي تحمي هؤلاء مكسباً أكبر هو "تخويف" البسطاء وذوي الدخل البسيط، وكثير من المصريين العاديين الذين كانوا قد اختاروا "الاستقرار" منذ البداية تقليلاً للأضرار، لكنهم لا يعرفون لماذا كلما ظنوا تحقق الاستقرار يقوم أصحاب السلطة بمزيد من العنف، مرة تسمح الظروف بتصديق الحملات الإعلامية الكاذبة بتحميل مسئولية العنف للمتضريين من العنف نفسه (إيه اللي وداهم هناك) ومرة لا تسمح مثلما حدث في أحداث ستاد بورسعيد، والتي أصبح فيها العنف على المكشوف، نتيجة وجود حائط صد الآن اسمه "مجلس الشعب" يمكنه أن يشارك "المجلس العسكري" في تلقي شحنات الغضب المتولدة عن سفك الدماء، وبالتالي تم رفع جرعة العنف لوجود حائطين صد وليس واحداً فقط.

إلى كل من اختاروا الإستقرار ولم يتبينوا حقيقة نوايا السلطة التي أوكلوا إليها تطبيق سياسيات هذا الاستقرار، أرجوكم أفيقوا قبل أن يستقر العنف إلى ما لا نهاية في حياتنا من خلال دورات من الثأر، فسوف يصل إليكم المجرمون يوماً ما بعد القضاء على من وقف في وجههم.

مصمم اللوحة هو الشاب: محمد عيد، أحد متطوعي صفحة "كلنا خالد سعيد"، فقد إحدى عينيه باشتباكات الداخلية فبراير2012