Friday, December 30, 2011

عام الكلمات الجديدة


أولها كلمة ثورة.
في الأيام الأولى من يناير 2011، وبعد أن شعرت بجدية الشباب الذي يتواعد عبر الفيسبوك على الخروج إلى الشارع وعمل ثورة، بحثت عن معنى الكلمة في موسوعة الإنترنت "وكيبيديا"، وابتسمت.

يوم 25 يناير، عندما نشرت على صفحتي بالفيسبوك فيديو لأول شهيد ، وكان من السويس، وصفتُه بـ "القتيل" ثم عدتُ بعد دقيقة لأكتب تعليقاً أعتذر فيه للفقيد ولأهله، مصححاً الوصف إلى "شهيد"، وفور كتابتي ظهر أمامي تعليق كتبته صديقة تعيش خارج مصر "وآه من قتل شهيد بأيدي أبناء بلده!"، كانت كلماتها بمثابة تصحيح يستكمل تصحيحي، ليترسخ وجع كلمة "شهيد" بألم انتهاك حرمة الدم على يد أبناء بلدي! هكذا تعلمت رؤية الدم المصري هذا العام، أنا ابن الجيل الذي لم يشهد حروباً ولم يعرف عنها غير ما كان يذيعه التلفزيون المصري وقت الاحتفال السنوي بالسادس من أكتوبر، هكذا عرفتُ وشاهدتُ الدم المصري يسفحه مصريون لايريدون التنازل عن السلطة، ولا يريدون من السلطة إلا التسلط على أبناء بلدهم وإخضاعهم.

يوم موقعة الجمل خفتُ من الجهل الذي يمتطي الدواب، وحزنتُ في فرحي أن يستغيث الوطنيون من أبناء بلدي بضمير العالم من عدوان حكام البلد. أليس هو نفس العالم الذي نتهمه بمعاداتنا وبالاستعلاء علينا؟ هل وصلنا إلى هذا الدرك فعلًا أن نلتمس العدل من نفس هذا العالم؟

يوم التنحي، فرحتُ كثيراً كثيراً، ولم آخذ حذراً من الإفراط في الفرح، فقد قلتُ لنفسي مهما حدث، ستظل هزيمة الديكتاتورية نكراء، ولن تمحوها السنون، فمثل هذه الهزائم التي يحاول المهزومين فيها إنكارها ومحو آثارها تزداد لمعاناً مع مضي السنين. ثمة بريق لمثل هذا الحدث يراه في المستقبل بوضوح من عايشوه هذا العام صغارا، خاصة من هم تحت الخامسة والعشرين، إني أكاد أرى ابتسامة من يقرأ هذا الكلام منهم، ها هي تتسع.


هذا العام لم تكن هناك فتنة طائفية، رغم أنه بدأ بتفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية واستشهاد عشرات الأقباط المصريين، هذا العام كانت هناك أعنف وأكبر محاولات إثارة الفتنة الطائفية، لكن لم تكن هناك فتنة طائفية. لا أستطيع القول أن من أثاروها هزموا، فقط أؤكد أنهم لم ينتصروا، وأن الكلمة: "فتنة طائفية" ليس دقيقة في ذاكرة 2011، هناك صور المصحف والصليب في التحرير، وهناك صلاة أتباع كل دين في حماية الآخرين بالتحرير؛ هناك شهداء من هنا ومن هنا من أجل "تحرير" البلد.
كلمات كثيرة اقتحمتنا هذا العام، لعل أهم وأخطر ما فيها أنها حفرتْ حفراً في ضميري وضمير كثيرين من أبناء بلدي خلال عام لم يمر سريعا، أبداً، لقد انتظرنا هذا العام سنوات، بل وانتظرنا ما هو أثقل منه ليعوضنا عن عقود فاتتنا، منذ أن كشف الضابط حسني مبارك عن سوءاته وقبحه، منذ أهان كرامة الشعب وتاريخه، أهان كل شيء حتى شرف الإحساس بالفقر، هذا الشرف يكاد أن يكون مصري الروح، وقد قتله ذلك الفاسد، أو هكذا اعتقدتُ لأكثر من عشرة أعوام كنت قد يأست فيها تماماً، حتى أطلَّ هذا الجيل الشاب بعنفوان المؤمن بفكرة "الحق"، وياله من إيمان.

عرفتُ كلمات بلطجي النظام، وحكم العسكر، والفلول، وتجار الدين، وكذلك عرفت النبلاء، هم كأشباح تهب نفسها للقيمة، وللوفاء، وللحق، وللحرية، هم يحبون الحياة، لذلك يأبون أن يعيشوها مزيفة، فإما أن تكون حياة حقيقية أو أنها كذبة، إما أنها بصيرة يرون بها الدنيا ولو بدون أعين، أو فلا ضير من التضحية ولو بالأعين. لقد أخجلتموني، ألهذا الحد أنتم نبلاء أيها النبلاء؟! 
هذا العام، 2011، عرفتُ أن في مصر نكتة جديدة هي النكتة السياسية التي تهز عرش السلطة ولا تكتفي بدور التذكير بأن هناك شعب. وعرفتُ أن فنون الجرافيتي هي أروع ما أبدع هذا الشعب من فنون شعبية حديثة، وأن الروح التي أبدعت هذا الفن ستعيش قروناً، لقد رسم المصريون على الحوائط هذا العام فناً شعبياً يوازي ما رسمه أجدادهم على المسلات لقرون تحت وطاة الفرعون. وقد ضربوا بتضحياتهم أمثلة وحكايات  ونوادر شعبية ستعيش كثيراً، لأن الضرب والإصابة والتشوية وكل أشكال العنف المادي والجسدي والمعنوي ستتحلل كأي جثث بلا روح، بينما ستظل علاماتها في أجساد من تعرضوا للأذية شواهد فنية كـ "أمثولة شعبية" على التضحية، تعيش بين الناس وتمشي في الأسواق، ستكون كالمثل أو كالحكاية الشعبية، رحالة تعبر الأمكنة والأزمنة.

يا مصر، لقد عشنا سنين فيما كنت أصفه بأنه "بحيرة السياسة الراكدة"، وها أنت تموجين؛ إلى أين سفينتك تبحر وهي تنشد حرية أبنائك؟ لا يهم، فأينما يممت وجهك من أجل الحرية فأنت في طريق السلامة، فقط لا تستسلمي ثانية لعفن البحيرات الراكدة، ولو خدعوك بكلمة استقرار؛ موج البحر هو حياتك.

أحمد غريب

2 comments:

  1. جميلة جدا يا احمد موج البحر هو فعلا حياة مصر ... المجد لمصر

    ReplyDelete