Wednesday, December 7, 2011

نياجرا.. حكاية نهر شاب عمره 12 ألف عام

أحمد غريب
تجتذب شلالات نياجرا بشقيها الكندي والأمريكي 12 مليون زائر سنوياً، ليشاهدوا إبداعاً طبيعياً حافلاً بالدهشة والأمل وتدفق الحياة، حيث تلتقي مصبات البحيرات العظمى في نهر نياجرا الشاب الذي خرج من عصر الجليد منذ 12 ألف عام فقط. يلتف مسار النهر بزاوية 90 درجة عند المنحدر حول جزيرة الماعز الصغيرة غير المأهولة، والتي تقسم مصب الشلالات إلى مصبين: الأكبر على شكل حدوة حصان، ويقع معظمه في الأراضي الكندية، والأصغر يقع في الولايات المتحدة، وهما يشكلان معاً ثاني أكبر شلالات في العالم بعد شلالات بحيرة فيكتوريا الإفريقية.
  وقد أصبحت نياجرا مزاراً سياحياً شهيراً منذ عام 1820، عقب الحرب الأمريكية الكندية  عام 1812 التي حسمت الحدود بينهما. ومنذ ذلك الحين، أصبحت رمزاً لخصوبة الطبيعة، ووجهة مفضلة للمتزوجين حديثاً وللراغبين في عقد القران، وللباحثين عن تجديد الحيوية وتنسم هواء مفعم بروح الحياة.
تقع شلالات نياجرا على مسافة 120 كيلومتراً من مدينة تورونتو، عاصمة مقاطعة أونتاريو الرئيسية بكندا. ويبلغ ارتفاع مصب شلال حدوة الحصان 53 متراً وعرضه 790 متراً. بينما يصل أكبر ارتفاع للمصب الأمريكي 30 متراً، وعرضه 320 متراً. وتعد عملية تعرية المصب من أحدث الظواهر الجيولوجية على سطح الأرض، وهي لاتزال مستمرة بفضل الانهمار القوي لكميات ضخمة من المياه، تصل في موسم الصيف إلى 5700 متر مكعب في الثانية، بينما يبلغ المعدل في الشتاء 1400 متر مكعب في الثانية نتيجة تجمد البحيرات التي تغذي النهر.
يخلف انهمار الماء رذاذاً هائلاً، هو أحد متع زيارة الشلالات، حيث تُنظَّم رحلات بحرية باليخوت، والتي تقوم بالاقتراب لأقصى حد ممكن من شلال حدوة الحصان، ويرتدي ركابها سترات واقية من الماء، والذي يظل يدفع اليخت إلى الوراء كلما حاول الاقتراب، بينما يختبر ركاب اليخت متعة آمنة يتحدّون فيها قوة الطبيعة. يمكن الاقتراب من مصب شلال حدوة الحصان الهادر عن طريق النزول إلى نفق خلفه ومشاهدته وسماع صوت الهدير عبر فتحات في النفق، كما يتيح التلفريك فرصة مميزة للاقتراب والانغماس أكثر في المغامرة.
 يتفاعل الاستمتاع بالرذاذ وإشباع النظر والحواس بغزارة كل ما هو طبيعي، مع الضوء ودورة الشروق والغروب ، حيث يتجمل كل ما في المكان بألوان خلابة تتغير مع اختلاف إنعكاسات الضوء. وحين يأتي المساء، تُنار الشلالات بأضواء ملونة، وتطلق الألعاب النارية كل ليلة إذا سمح الطقس بذلك. لكن تظل حدائق نياجرا الغنية إلى حد الخيال، وطرقات المدينة المنحدرة، والهواء النقي متعة خاصة تضفي على المكان عذرية وخصوبة.
تشكل محمية الفراشات قلب ما يعرف بحدائق نياجرا، وهي أحد أهم المعالم السياحية الحديثة في المدينة. افتتحت عام 1996 وتقع وسط مدرسة فنون الزراعة التي تمتد على مساحة 40 هكتاراً، وتبعد مسافة 9 كيلومترات من مصب الشلال. تعرض المحمية أكثر من 2000 نوع من الفراشات، تم جلبها من 60 دولة، تحت قبة زجاجية تبلغ مساحتها 1022 قدم مربع. ويمكن للزوار جذب الفراشات إلى ملابسهم عن طريق ارتداء سترات ملونة ورش العطور، وهي إحدى الأنشطة المتوفرة خلال الزيارة. وتنتج محمية الفراشات، الفريدة في مهمتها فرادة الشلالات، حوالي 45 ألف فراشة سنوياً، وتغذي زيارتها الحواس بسخاء بما تعرضه من أشكال وألوان وأجواء خصبة. ويوجد في المحمية مسرح مجهز بـ 200 مقعد لمشاهدة
أفلام عن دورة حياة الفراشات وتوالدها ومواطنها الأصلية.




Photo: OTMP

اكتشاف الشلال
إن تاريخ الإنسان في هذه المنطقة العذراء، والتي يتوجه إليها حديثو الزواج لقضاء شهر العسل، تاريخ أشبه بالومضات، فقد عاش إنسان ما قبل التاريخ (بين 3 آلاف و12 ألف سنة) على ضفتي نهر نياجرا، أي منذ ذوبان الجليد الذي كان يغطي هذه المنطقة بالكامل. ثم شهدت المرحلة التالية (منذ 3 آلاف إلى نحو 300 سنة مضت) تجمعات بشرية استوطنت المنطقة، وهي الفترة التي تم فيها أكبر قدر من عملية التعرية لمصب الشلال بسبب تزايد ذوبان الجليد، وتعاظم موارد النهر المائية، ما جعل سقوط الماء هادراً قوياً، وعمق من مستوى الأرض تحته، بل إن المصب نفسه إنقسم إلى شقين يحصر بينهما "جزيرة الماعز" Goat Island ، وقد تم الانقسام منذ 500 عام حسب تقديرات علماء الجيولوجيا. لكن لسوء الحظ، دمر المستكشفون الأوروبيون هذه التجمعات البشرية للسكان الأوائل التي كانت قد تخطت مرحلة البدائية، وتميزت بثقافة غنية على المستويين الروحي والاجتماعي، كما كشفت عمليات التنقيب والبحث التاريخي عن تميزها بنشاط زراعي وعلاقة خلاقة استوحت سخاء الطبيعة واستخدمت نباتاتها وأشجارها في تطوير طرق المعيشة.
ويرجع تاريخ استكشاف شلالات نياجرا إلى الحكايات الأولى التي سمعها المستكشف الفرنسي جاك كارتييه  Jacques Cartier عام 1535 من السكان الأوائل للمنطقة، والذين عاشو حول بحيرة أونتاريو الكبيرة التي أعطت اسمها للمقاطعة. وقد توالت إشارات المستكشفيين الفرنسيين نقلاً عن حكايات الهنود الحمر إلى الشلال العظيم منذ ذلك الوقت ولمدة 80 عاماً من دون أن يراه أحدهم بعينيه. ويعتقد أن المستكشف إيتيان برول Etienne Brule  الذي زار كندا عام 1615 كان أول أوروبي يشاهد بحيرة أونتاريو العملاقة وجانباً من بعض البحيرات العظمى وشلالات نياجرا. وفي العام نفسه، زارت المنطقة بعثة تبشير يسوعية، وكان الأب جابريل لالومانت Gabriel Lalemant أول من سجل اسم النهر Onguiaahra  كما سماه الهنود الحمر، ويُعد نياجرا Niagara تبسيطاً للكلمة، لكن ثمة نظرية أخرى تقول إن كلمة Niagagarega التي ذكرها المستكشفون الفرنسيون كاسم لأحد مستوطنات السكان الأصليين خلال القرن السابع عشر هي أصل التسمية.
في عام 1678 زار القس الفرنسي لويس هنيبن Louis Hennepin الشلالات، ثم نشر بعد زيارته بـ 19 عاماً كتابه "الاكتشاف الجديد"Nouvelle Decouverte  الذي تضمن أول تقدير موثق لارتفاعها، ويبدو أن تساقط الماء ترك في نفسه أثراً باهراً حيث قدر ارتفاع الشلال بـ 183 متراً، أي أكثر من ثلاثة أضعاف الارتفاع الحالي! وترجع هذه الحالة من التأثر إلى اتساع عرض الشلال وضخامة كل من كمية الماء المنهمر والرذاذ المتولد عنه.
خلال القرن التاسع عشر، وعقب حرب عام 1812 وترسيم الحدود، شهدت المنطقة تنمية واسعة
تمثلت في نمو التجمعات السكنية الثلاث التي التحمت مكونة مدينة نياجرا. كما تمثل
النمو في عدد كبير ومتنوع من الجسور شُيدت لتصل ضفتي النهر أو الجانب الأمريكي بالكندي، أشهرها
الجسر المعلق الذي صممه جون أوجست روبلينج John August Roebling عام 1855، وقد كان
الأول من نوعه وتضمن مساراً للسكك الحديدية، وروبلينج هو أيضاً مصمم جسر بروكلين
الشهير في نيويورك. وقد بلغ عدد الجسور التي شيدت خلال القرن التاسع عشر 20 جسراً
تبقى منها أربعة إلى الآن تصل ضفتي نهر نياجارا، والذي يمضي 24 كيلومتراً فقط بعد
الشلال ليصب في بحيرة أونتاريو العملاقة، وبذلك يصل ما بين البحيرات العظمى الأربع
وشقيقتهم الخامسة أونتاريو.
 تشتهر منطقة نياجرا بنشاط سياحي مكثف، ومن أشهر الوجهات فيها مدينة "مارينلاند" الترفيهية التي
تعرض عدداً من الأحياء البحرية، منها سمك القرش وبعض الحيتان، والدلافين وأسود
وكلاب البحر، وتوفر كثيراً من الأنشطة والألعاب المرتبطة بالماء. تنخفض وتيرة السياحة في موسم الشتاء
حيث يقصد المنطقة جمهور معين وتنظم بلدية نياجارا مهرجاناً موسيقياً خلال الشتاء لاجتذاب الزوار.

نشرت في مجلة "دبي الثقافية"- مارس 2011

No comments:

Post a Comment