Friday, February 4, 2011

ليس خطأ في التواريخ يا مينا (عن الاعتداء على كنيسة الإسكندرية) 1 يناير 2001

على صفحتها بالفيسبوك نشرتْ الشاعرة إيمان مرسال، بحسِّها الساخر، تعليقات التقطتها من صفحة صديق آخر حول تفجيرات ليلة رأس السنة بالإسكندرية "رامي: وياريت الأخوة الأقباط يعملوا حملة توعية لتنظيم القاعدة علشان يعرفوا إن موعد العيد الحقيقي ٧ يناير مش ١ يناير.

مينا: انت مش فاهم يا دكتور ... ده توفير ... لو ضربوا في عيد الميلاد .. هايضطروا يضربوا في الغطاس والقيامة ... لكن كدة يبقى ضربوا السنة الميلادية من اولها ....

من تعليقات على استاتوس سامح سمير العبقري"

جعلني هذا التعليق أفكر مرة أخرى في الحدث ودلالاته، وتلك القدرة المخيفة لتنظيم القاعدة على إنتاج الرمز، فمنذ أن أتيت لكندا للمرة الأولى عام 2007 انتبهت إلى أن رقم الطوارئ المعتمد في كل من الولايات المتحدة وكندا هو 911، وهو الرقم الذي يتم به نطق تاريخ اعتداءات سبتمبر الشهيرة عام 2001، حيث تقدم الصيغة الأمريكية لنطق التاريخ الشهر قبل اليوم، على عكس المتبع فيما يعرف بالعالم القديم. وقتها أدركت بُعداً لم أكن على دراية به في دلالات أحداث سبتمبر، وكيف تقصَّدتْ "القاعدة" اختيار تاريخ سيظل في ذاكرة جميع الأمريكيين، فرقم 911 مكتوب على كل شيء تقريباً، تليفونات الشوارع، سيارات الشرطة والمطافيء، طفايات الحريق في كل الأبنية، وكثير كثير من أوراق نشرات التوعية، والتي تنسكب ليل نهار أمام كل منزل وشقة في أمريكا الشمالية.


تغير رقم الطواريء المعتمد في كل أمريكا الشمالية عقب الأحداث كان سيعد خطأ "أفحش" لو تم، ليس لكلفته الإقتصادية الكبيرة، والتي يصعب علّي تصويرها لقارئ لم يعايش هوس الأمريكيين بالأمن والمعلومات الإرشادية حول ما عليك أن تفعله في أي موقف طاريء مهما كان. رقم 911 باختصار شيء في ضمير كل من عاش طفولته في أمريكا، يتم تحفيظه للأطفال صغاراً باعتباره طوق النجاة من أي قلق (شخصياً اضررت لاستعماله مرتين في أول عامين لي بكندا). تغيره كان، بمفهوم "خناقات" الشوارع، سيُعَد علامة على الجرح (كعدة غرز في الوجه مثلاً) أكثر من كونه تمويهاً وإخفاء للألم.

لكن الملفت أن الأمريكيين أنفسهم، ومن أول لحظة، اختاروا (سبتمبر إليفين) كمسمى للحدث، ولعل من تابع بث الإعتداء الإرهابي على برجي التجارة على شاشة السي إن إن مثلاً يذكر تلك الفورية والعفوية في اختيار التسمية. هنا يجدر بنا أن نتمهل نحن المناهضين أو المتألمين من "القاعدة" عندما نظل نمارس تصوير الإرهابيين من الإسلاميين باعتبارهم متخلفين، لديهم قصور في معرفة مفردات العصر الحديث ناهيك عن فهمه، هذه الآلية تستحق نوعاً من المراجعة لأن تنظيم "القاعدة" يتقن إنتاج الرمز، خاصة ما يتعلق بتصميم نوعيات من الرسائل يمكنها الانتشار والاستقرار في ذهن كل الفئات.



لماذا "القاعدة"


ليلة 11 سبتمبر، الشهيرة في 2001، كنت في منزل صديقة أوروبية مقيمة في مصر، وكان رأيي أن الفاعل هو "القاعدة"، وعندما حاولت أن "أتفلسف" في حديثي معها حول شبه اليقين الذي اتكلم به، قلتُ إن أسلوب "الكاميكاز" الذي نُفذ به الاعتداء لا يوجد ثقافياً إلَّا لدى المسلمين واليابانيين (كما نعرفهم من أفلام هوليوود)، أما الدافع لهذا العمل فغير متوفر لجهة أخرى ترد إلى ذهني غير "القاعدة" سوى القوميين الصرب، الذين كانوا قد تلقو قبلها بسنوات قليلة "علقة" من حلف الأطلنطي بسبب البوسنة، وهؤلاء مستبعدون لأسباب كثيرة أولها أن القوميين مهما لجأوا للعنف لا يخرجون عن ملعبهم المحلي. لكن بعيداً عن تلك السفسطة، شيء ما كان يسيطر على موضع إنتاج التأويلات والبديهيات في عقلي وضميري يقول: "القاعدة".

هل كانت تقارير قناة "الجزيرة" التي يرسلها تيسير عبود عن تأسيس "قاعدة الجهاد" هي ما تضغط على موضع التأويل ذاك في عقلي؟ وهل كل من أشار مثلي على الفور: "القاعدة" وهو يشاهد الطائرتين تصطدمان بالبرجين كان من متابعي تقارير الجزيرة عن أفغانستان؟ أو كان ممن تساءل ماذا بعد قصف "الطالبان" لتماثيل بوذا بالقنابل؟ أشك، ببساطة للفارق بين حجم جماهيرية قناة الجزيرة، وبين شبه الإجماع من اللحظة الأولى على إدراك من الفاعل.


لماذا اعتبر "رامي"، المتحدث في تعليق الفيسبوك الذي بدأتُ به، أن تنظيم "القاعدة" هو الفاعل في ليلة رأس السنة

بالإسكندرية؟ ولماذا ليست "القاعدة"؟

ربما، لكثافة الرمز في الحدث، وتمتعه بالقدرة على الانتشار والاستقرار. ربما، لأنه يأتي بعد أحداث الاعتداء على مسيحيين بالعراق والتعليق الصريح عليها من قبل الفرع المنفذ في "القاعدة" بأن اعتداءات العراق هي لإرهاب أقباط مصر. ربما، لأننا جميعاً نتوقع شيئاً مروعاً بعد الإخصاء الذي أوقعتْه الانتخابات الأخيرة في مصر للحياة السياسية. ربما، لأن شيئاً جديداً استقر في الوعي المصري، رصدته قناة العربية في تقريرها عن خلاصة أحدث 2010 السياسية في مصر بتعبير بليغ "قطع الحبل السُرِّي بين الحكم والمعارضة في مصر"، موضحة أن اللعبة التي بدأت بمنابر السادات في السبعينات لإنتاج معارضة تبث حيوية في النظام، قد انتهت. ربما، لأن خروج عملية السلام مع إسرائيل من حالة الموت السريري إلى حالة الدفن فتحتْ أبواب جهنم، والتي يطل منها حتماً تنظيم "القاعدة"، ليس بحثاً عن جماهيرية، فهو تنظيم لا يسعى لجذب سوى "نخبة" من الانتحاريين، يوصلون رسالة العجز الكلي للنظام، سواء كان نظام مصر أو أمريكا. العجز عن توفير الأمن وهو أول الاحتياجات التي يطلبها الناس من أية دولة.


أخطر ما استطاعت "القاعدة" إنتاجه هو تلك الحالة الديناميكية من التوالد، يمكن لأي خلية في أية بقعة أن تكتسب "جينات" القاعدة، هكذا كانت الفكرة في تأسيس "قاعدة الجهاد" والتي ربما لم تكن واضحة تماماً عندما نقل تيسير عبود الإعلان عنها في بدايتها. ثمة أمر آخر لاحظته من متابعاتي، تحديداً من ذلك الشبه بين إنتاج الصفحات الإليكترونية على الإنترنت، كبث مواد على اليوتيوب، أو توسيع دائرة الأصدقاء على الفيسبوك مثلاً، وبين التمدد السرطاني لـ "القاعدة"، هو تلك "الديموقراطية العنكبوتية" التي تجعلك صديقاً نداً لأي شخصية على الفيسبوك، سواء كانت الشخصية رئيس الولايات المتحدة أو عالِماً أو حتى نجماً سينمائياً شهيراً، بل إن تأثير صفحتك التي كوَّنتها بعده بزمن قد يفوق تأثيره بمراحل، وهو ما يجعل من تنظيم "القاعدة" مرناً في مرجعيته، يمكن لعنف فرع من فروعه المتعددة في العراق أو شمال إفريقياً أن يكون أكثر تأثيراً من مؤسِّسه نفسه المختبيء في الجبال.


ليس خطأ في التواريخ

رمزيات اعتداءات ليلة رأس السنة تتجاوز الأقباط بكثير، هي اعتداء على كل من "يتعايش" مع فكرة مجتمع ودولة مدنيين. كل من يحتفل برأس السنة، كل من يتْبع التاريخ الميلادي في معاملاته، كل من يتعامل مع الغرب ومنتجاته، ببساطة كل من ليس "طالبانياً" في نمط حياته، ويشمل ذلك الإخوان المسلمين الذين حجبتْ عنهم فتاوى متشددة الدعم في الانتخابات السابقة.


المشهد، الذي يجعلنا نقول بعفوية: "إنها القاعدة" يبدأ من هجرة مسيحيي العراق، لكن من يدقق سيجد "مراكب الهجرة غير الشرعية"، والرغبة المحمومة في المغادرة لدى كثير من الشباب، وسيجد توصيفاً يشيع في إعلام السنوات الأخيرة من نوعية "الشاعرة المصرية المقيمة في كذا" و"الكاتب السوداني أو السوري المقيم في كذا".. ودائماً تشير "الكذا" لدولة غربية.

مؤخراً لاحظت أن مدرب النادي الأهلي المصري حسام البدري تقيم أسرته في كندا هو الآخر، وقد تم استبداله ليعود المدرب الأجنبي صراحة، ويصبح هو "أجنبياً" يدرب فريقاً سودانياً!

كنا معتادين على أوصاف على طريقة وصف الجرَّاح الشهير مجدي يعقوب بأنه مقيم في بريطانيا، او وصف نجم كعمر الشريف بأنه مقيم في فرنسا، لكن الشيوع، العنكبوتي هو الآخر، لوصف الشاعر والروائية والكاتب المقيم في الخارج جديد، وهو ليس من فئة "هجرة العقول إلى الغرب".. ذلك التعبير الذي نعرفه منذ ستينات القرن العشرين، إنه ليس هجرة حتى، بل هروب العقل الاجتماعي، وانسحاب جزء هش وحساس من الضمير.


خطأ في عدِّ الموتي

عندما عملتُ منذ سنوات في خدمة الرسائل الإخبارية الخاصة بالهاتف المحمول، بقناة العربية، قال لي مدربي خالد ممدوح، بصوته الإذاعي الدافئ وخبرته في الإعلام الإلكتروني، لا تبث خبراً عن اعتداءات وقتلى في العراق إلا إذا كان العدد كبيراً، فقد فقد الخبر أهميته، وهذه الخدمة مدفوعة من مستقبلي الرسائل. تعلمتُ من خالد الكثير في أسبوع التدريب، واكتسبتُ صديقاً عزيزاً، لكن في مرة ربما في الأسبوع الثالث سألته وماذا عن هذا الخبر، كان مجموع القتلى والجرحى 39، وهو رقم وسط، ليس سبعيناً مثلاً فننشر الخبر مطمأنيين، وليس عشريناً فنستبعده، كما أن ثمة بُعد آخر في تلك المذبحة، كان عدد القتلى كبيراً مقارنة بعدد الجرحى الذي يبلغ الضعف عادة؛ إذن ماذا نفعل.

بابتسامته، الساخرة الذكية، قال لي خالد هنا تتصل بمديرك، أنس فودة، ليقرر هو، وأتْبَع خالد: هل لديك مشكلة اليوم في عدد الأخبار "الكوتة" التي يجب أن ترسلها؟ قلتُ: لايزال الوقت مبكراً لأحكم على ذلك، فعقَّب سيسألك أنس عن ذلك، عندما امتد حديثي مع خالد عن تفاصيل المذبحة، موقعها، وكيف نشرتْها كل وكالة إخبارية، ومن الفاعل، وضد من طائفياً، كانت وصلتني أخبار أخرى تطابق شروط النشر، وبدأت أنشر وأواجه احتمال تخطي حاجز "كوتة الأخبار"! تحول خبر مذبحة العراق إلى مجرد إشارة صغيرة ضمن تقريري الشفهي لمديري، الذي بدأ ورديته بعد ساعة من الموقف، وكان تعقيبه أنني أحسنت بعدم نشره عاجلاً، سينشره موقع الإنترنت، "المجاني" حتى يتضح الفارق لقارئ هذه السطور، كان تعقيبه حكيماً وحفظتْه ذاكرتي ضمن الدروس الإعلامية الإلكترونية، وياللغرابة.

هل يمكني أن ألخِّص هذا التيه: قطع في الحبل السرى وبداية نظام سياسي جديد من الفراغ والخوف. نهاية مرحلة سياسية في المنطقة العربية بفجوة كثقب أسود، لا سلام، ولا قدرة على إنتاج أي نوع من "الفلسطين". نمو سرطاني لمناخ "القاعدة" لديه قدرة على إنتاج الألم والمعنى، ونشرهما بسهولة بين الجميع.



"ليس هذا برتقالاً يا حبيبي" عنوان ديوان شعر جميل لإيمان مرسال، التي ضجرتْ من أن تدور حيانتا في فلك الطائفية وفلسطين وحسني مبارك والتعذيب بلا نهاية، وقد استعنتُ بصيغة مسمَّى ديوانها لأبوح بمخاوفي أيضاً؛ ليس خطأ في التواريخ عندما يتعلق الأمر بالقتل، ثمة ما هو أعمق ومخيف