Monday, December 1, 2014

من المرآة إلى السيلفي

 
سيلفي نجوم هوليوود في أوسكار 2014
لماذا يصرّ الإنسان على أن يصور نفسه بنفسه؟
هناك ظاهرة قديمة في فن البورتريه هي أن يرسم الفنان نفسه، لكن المثير أن هذه الرغبة انتقلت إلى فن التصوير الفوتوغرافي مبكراً، حيث تعود أول محاولة التقاط صورة فوتوغرافية "سيلفي" إلى عام 1839، على الرغم من ضعف نتيجتها، بسبب ضرورة أن يقوم المصوّر بتحريك غطاء العدسة بنفسه، ما اضطر المصوّر الأميركي روبرت كورنيلوس إلى الركض من أمام الكاميرا إلى خلفها ليرفع الغطاء، ملتقطاً صورة باهتة لنفسه.
صور الـ "سيلفي" ظاهرة اجتماعية، تنتشر حالياً على شبكات التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وانستغرام، بعدما كانت نوعية هذه الصور قاصرة على ما يلتقطه الإنسان بنفسه مستعيناً بالمرآة.
كانت الفترة بين 2006 و2009 قد شهدت وجوداً لنوعية الـ "سيلفي" على شبكة "ماي سبيس"، وكانت الصور مُلتَقَطةَ باستخدام مرآة الحمّام غالباً أو كاميرا الهاتف، وتعطي انطباعاً إما بالمزاج السيء لصاحب الصورة، أو بذوقه الرديء، نتيجة حدّة زوايا الصورة، والتي تتسبب فيها صعوبات تصوير الشخص لنفسه، بحسب ما تشير كيت لوس في مقال لها بمجلة نيويوركر، وكانت لوس قد عملت في فيسبوك 5 سنوات، وألّفت كتاباً عن التغيرات الثقافية التي أسهمت فيها التكنولوجيا.
عودة الـ "سيلفي" جاءت على غير هوى الفيسبوك، الذي بدأ انتشاره بنمط لامع وأنيق لصور البروفايل، عكس التوجه الذي كان قد شاع على شبكة "ماي سبيس".
الرغبة في تصوير الإنسان لنفسه عادت تلح بقوة، وهي صور تُلتَقَط بهدف المشاركة مع الآخرين، أي أن صاحب الصورة يغامر بتعريض نفسه للانتقاد بعدة طرق، أقلها ضجيجاً هي أن يتفاعل مع الصورة القليل من مجموعات أصدقائه بالضغط على زر الإعجاب، وأغلظها التعليقات التي قد تكون ساخرة، أو عمل "الريبورتات" لدفع الشبكة التي نشرت الصورة على صفحتها إلى حذفها.
المثير أن ظاهرة الـ "سيلفي" وجدت موقفين متناقضين فيما يتعلق بالنظرة النسوية لمفهوم الجمال. النظرة الأولى انتقدت الظاهرة كجزء من انتقاد اختزال المرأة في مسألة الشكل والجمال، والتي تؤدي إلى تشييئها. لكن النظرة الثانية تبدو أكثر وعياً بخصوصية الـ "سيلفي"، فهي ترحب بنوعية هذه الصور باعتبارها تعبيراً ذاتياً عن حالة مزاجية غالباً ما تكسر الصورة النمطية للجمال والأناقة والتي ينمط المجتمع المرأة من خلالها.
من أشهر المبادرات التي تعكس النظرة النسوية الجديدة مبادرة المصورة الفتوغرافية والعارضة الكندية بترا كولينز التي قامت فيها بتصوير الجزء السفلي من لباس البحر (البيكيني) ويظهر في هذه الـ "سيلفي" شعر عانتها كثيفاً حول حواف البكيني. لكن عندما نشرت الصورة كبروفايل لها على شبكة انستغرام تم عمل "ريبورتات" من مجموعات الأصدقاء والمتابعين (الفولورز) للبروفايل باعتبار الصوة غير لائقة.
وعلى الرغم من أن الكثير من الفتيات في الدول الغربية تنشرن صور "سيلفي" مماثلة لهذا الجزء من البكيني كبروفايل، إلا أن الذائقة التقليدية ترفض حتى الآن اعتبار شعر عانة المرأة موضوعاً للجمال، بل تعتبره موضوعاً للقبح جديراً بالرفض والحذف، حيث نجحت "الريبورتات"في دفع شبكة انستغرام للاستجابة بحذف الصورة، بل وفقدت كولينز الكثير من (الفولورز) على الرغم من أنها كعارضة تعيش فترة ازدهار ورواج!
حكاية بروفايل بترا كولينز التي أشارت لها في عدد سبتمبر من مجلة "والروس" تكشف أن مفهوم الجمال كما يفرضه المجتمع والقوى التجارية التي تحركه يحد من طلاقة التعبير عن الذات عن طريق وسائط جديدة مثل الـ "سيلفي". ومن ناحية أخرى كشف رفض صورة بترا كولينز التي تبين شعر العانة أن مستخدمي الشبكات أكثر استعداداً لإقصاء الآخر المختلف والقطيعة معه، حتى من بين مجتمعات تتبنى نسقاً ثقافياً واجتماعياً متحرراً!
تاريخياً، تمكّن الإنسان من رؤية نفسه على صفحة ماء البرك الساكنة منذ القدم، ثم صنع المرآة المصقولة من الحجر منذ 6 آلاف عام قبل الميلاد، ثم طوّرها لتُصْنَع من النحاس، ثم البرونز، ويقال إن أول مرآة تجمع بين المعدن والزجاج صُنِعَت في صيدا بلبنان في القرن الأول بعد الميلاد. وقد بدأت صناعة المرايا باستخدام الفضة والزئبق كخلفية عاكسة للزجاج في الصين في بدايات القرن السادس بعد الميلاد.
حاجة الإنسان إلى رؤية نفسه عميقة، وقديمة. وقد لعبت التقنيات دوراً كبيراً في إعادة تشكيل مفهوم الجمال والتفاعل مع الرؤية الثقافية له كما يتبناها مجتمع أو جماعة، وساهمت التكنولوجيا في تطوير المفاهيم الثقافية المرتبطة بالجمال والقبح.

مؤخراً أصبحت مثل هذه التغيرات متسارعة بفضل التكنولوجيا الحديثة فائقة السرعة والدقة، ونوعية أبطال العصر الذين تصنع منهم وسائل الإعلام نجوماً بسرعة، وتنهكهم في الحفاظ على هذه النجومية، وسط منافسة متزايدة من نجوم جدد.
أشهر الصور انتشاراً على تويتر  كانت لأوباما مع زوجته لحظة إعلان فوزه بفترة رئاسية ثانية. هي صورة مثالية للجمع بين الذات والخاص والعام في نفس اللحظة. لكن تفوقت على شهرتها صورة الـ "سيلفي" التي جمعت عدداً من نجوم هوليوود في احتفال الأوسكار 2014، سر شهرة الصورتين هو الرقم القياسي لعمل ريتويت، أو إعادة النشر على تويتر. صورة نجوم الأوسكار أيضاً مميزة لأنها توثق اجتماع أشخاص في لحظة أمام عدسة كاميرا الـ "سيلفي"، بينما يتعذر اجتماعهم في عمل واحد أمام كاميرا السينما!
عشرات الآلاف من صور السيلفي تُلتَقَط وتُنشَر على شبكات التواصل الاجتماعي. المشاركة جزء جوهري من نسيج هذه النوعية من الصور.
لكن الـ "سيلفي" ليست شعوراً بالوحدة، ولا بالنرجسية، وليست رغبة في النجومية، إنها وسيلة قد تعرّض صاحبها لعكس ذلك كله. إنها تواصل اجتماعي عن طريق وسيط غير لغوي؛ قد يحتاج الإنسان عدة أسطر ليشرح حالته في تعليق أو رسالة، وقد تعْجِزُه الكلمات، بينما تشرح صورة "سليفي" له الكثير.
الـ "سيلفي" ظاهرة في مجال التواصل الاجتماعي، لكن الجانب الذي يستحق التوقف يتعلق بمدى تدخل التكنولوجيا في علاقاتنا الاجتماعية، وصياغتها لطرق تفاعلاتنا تعبيراً وإحساساً، وتغذيتها لرفض الآخر أحياناً بنفس القدر الذي تغذي به القبول.

 
أحمد غريب