Thursday, June 21, 2018

زيارة إلى ما تبقى من أساطير الأصليين في كندا


لوحة "هجرة" لنورفال موريسمو أو (بيكاسو الشمال) - 1973

تقديم:
اليوم (21 يونيو) اليوم الوطني للسكان الأصليين في كندا. وكنت قد كتبت هذا الموضوع لمجلة دبي الثقافية قبل أن تُغلَق، ولا أعلم إن كان نُشر أم لا.
وتفيد المراجع أن عدد المحميات أو التجمعات التي كان يعيش فيها سكان كندا الأصليون تجاوز الـ 3100 في السابق، وأنها امتدت على مساحات تبلغ أضعاف ما تشغله الـ 1763 محمية التي تبقت ويعيش بها بعض منهم حتى الآن محاولين الحفاظ على تراث وثقافة ونمط حياة يستند إلى قيم أكثر إنسانية من تلك التي تحرك الرأسمالية الغربية، وأكثر توافقاً مع دورات الطبيعة.

يبلغ عدد السكان الأصليين في كندا أكثر من مليون وستمائة ألف شخص (1673785) منهم 977230 من الهنود الحمر، و587545 من الميتز، وهم أوروبيون جاءوا مشياً عن طريق القطب الشمالي قبل أكثر من ألف وخمسمائة عام، أي قبل اكتشاف كريستوفر كولومبس الطريق البحري إلى الأمريكيتين، وقد استوطنوا واختلطت أعراقهم بالهنود الحمر منذ قرون قبل هجرات الأوروبيين في عصر ما بعد كولومبس. هذا الموضوع عن بعض الأعمال الفنية والمشغولات اليدوية في متحف أونتاريو الملكي للهنود الحمر.
من بين الـ 977230 اختار 673660 تسجيل أوراقهم بهوية "سكان أصليين"، ويعيش نصفهم تقريباً في تجمعاتهم الخاصة، وليس في المدن الكندية ذات الطابع الغربي.
(ملحوظة: بعض الأرقام قد تتطلّب التحديث مع مرور الوقت). 




في مدخل الجاليري الخاص بسكان كندا الأصليين داخل متحف أونتاريو الملكي تتصدر لوحة هجرة للفنان موريسمو نوفال، مصحوبة بعبارة: نحن لا نعرف كيف وصل الأمريكيون الأصليون إلى هذه الـ (كندا). ربما جاءوا تدريجياً كمجموعات عبر مضيق بيرنغ الذي يصل ألاسكا بشمال شرق آسيا. هناك الكثير من الأساطير حول هجرتهم كمجموعات من العائلات معاً، أو فرادى؛ هذه اللوحة تحاول استعادة تلك الأسطورة.

الاسم الأصلي للفنان نورفال موريسيو في لغته الأصلية يعني "طائر الرعد النحاسي"، ويعتبر طائر الرعد من أشهر المخلوقات الأسطورية في ثقافة الأمركيين الأصليين، وهو طائر أشبه بالنسر يمكنه إطلاق الرعد، ولا يخشى سوى عدواً واحداً هو وحش الماء. لذلك ليس غريباً أن يكرّس موريسيو فنه للأساطير واسمه كذلك، لكن من الهام الإشارة إلى أن مكانة موريسيو الفنية التي جعلت لوحته تتصدر أهم الجاليريهات عن الهنود الحمر في شمال أمريكا منحته لقباً آخر منذ سبعينات القرن الماضي هو: بيكاسو الشمال.

الهجرة محور أساسي في تشكّل ثقافة الهنود الحمر وفي توثيق تاريخهم، وصولاً إلى مرحلة اضمحلال وأفول هذه الثقافة بفعل مجيء هجرات واسعة من أوروبا، وهو ما تحاول مقتنيات الجاليري أن تعكسه.

لكن هناك الكثير من السياسة في خلفية وصول هذه المقتنيات الأصلية من هؤلاء السكان الأصليين إلى المتحف قد لا تُظْهِرُه المقتنيات نفسها بوضوح، كما يقول أرني براونستون المشرف على الجاليري والمتخصص في تراث جماعات الهنود الحمر الذين عاشوا في البراري.

من ناحية أخرى هناك الكثير من السياسة أيضاً في محاولة الحفاظ على بقايا هذه الثقافة الآن من خلال الفن.


من أعمال بول كين 1849


في الجاليري أيضاً مجموعة متكاملة من صور الفنان بول كين وهو من أوائل الفنانين ذوي الأصول الأوروبية الذين اهتموا برسم عالم السكان الأصليين. وتجمع لوحاته ما بين فن البورتريه والمناظر الطبيعية التي توثق نمط حياة الهنود الحمر قبل أن يندثر هذا النمط في كندا خلال النصف الثاني من القرن الـ 19. كما تتضمن رسوماته الصيد البحري والبري، وتصوير الشلالات المتنوعة التي تنتشر بفضل العدد الكبير من البحيرات، وأشهرها شلالات نياجرا، وهي أعمال تستفيد من خبرة الرسم الأوروبي لكنها تصوّر مناظر شديدة الأصالة ما يجعلها وثيقة فنية بامتياز.


.قتْل ثقافة حية
تاريخياً بدأت إزاحة الرجل الأبيض للهنود الحمر من أماكنهم الأصلية في كندا منذ القرن الـ19، عندما توسع اقتصاد الأوروبيين، وتم تأسيس دولة كندا (1870) وحصولها على الاستقلال من الإمبراطورية البريطانية، فحدثت إزاحة لهم - كما يقول براونستون- “من الشرق إلى الوسط والغرب ضيّقت مصادر الرزق عليهم، وبحسب المعاهدة المبرمة مع زعماء قبائل الأصليين عام 1873 أصبح الأوروبيون ملزمين بتزويدهم بالغذاء والطعام لأنه تمت إزاحتهم عن أماكن الصيد التي يعرفونها".


من ناحية أخرى كانت هناك أعداد كبيرة من الجاموس تعيَّش الأصليون على صيده، لكن قام الأوروبيون بصيد أعداد هائلة منه "نتيجة الاعتماد على الجلود في صناعات عديدة خلال القرن التاسع عشر (قبل البلاستيك). فأدى الصيد المكثف إلى تناقص الجاموس ونقص المصادر الغذائية للأصليين، ووجد الأوروبيون أن أفضل الطرق هي دمج الهنود الحمر في الاقتصاد الغربي الحديث ليعتمدوا على أنفسهم في الرزق".
لكن لأغراض سياسية لم يعلّم الأوروبيون الهنود الحُمر الزراعة، والسبب غالباً الرغبة في عدم تمكينهم من حرفة تربطهم بالأرض. ومن جانبهم -كما يوضح براونستون- “الأصليون احتفاليون، يحبون الموسيقى والرقص، وقد فكّر الأوروبيون أنه إذا تم إبعاد الهنود الحُمر عن هذه الاهتمامات الفنية الخاصة بهم سيمكنهم الاهتمام بالإقتصاد الجديد من السيطرة على المنطقة وعاداتها، ويكون دمجهم أسهل في الثقافة الغربية".
وقد اعتمدت عملية تحويل الاهتمام الثقافي للهنود الحُمر على التبشير لسهولة تمويله من الكنائس في أوروبا، وتم التركيز على التبشير بين أطفال الهنود الحُمر بكثافة، وكانت الحكومة الكندية سعيدة للغاية بهذه العملية لأنها غير مضطرة للإنفاق على تعليم هؤلاء الأطفال كما تلزمهم بذلك المعاهدة التي انزاح الهنود الحمر بموجبها طوعاً من شرق كندا باتجاه البراري في وسط القارة".

في هذه الأجواء جاءت مقتنيات المتحف عن الهنود الحمر؛ مثلاً بعض المعاطف الثقيلة التي تبادلها زعماء الهنود الحمر مع تجار أوروبيين تعود إلى طقس احتفالي تواصل فيه الطرفان بنجاح، وسط تعذّر التواصل الثقافي بين أبناء عالمين مختلفين.


الباحث أرني براونستون



 كان الأصليون يقدّرون تبادل الأشياء الشخصية بشكل احتفالي كتعبير عن المودة، بينما يريد التجار الأوروبيون التواصل التجاري معهم وسط تعثر الاتصال لغوياً من ناحية، ونتيجة عدم تفهم العادات من ناحية أخرى. فاكتشف الأوروبيون أن زعماء قبائل الهنود الحمر يحبون تبادل المعاطف تعبيراً عن الود والسلام، ومن ناحيتهم اعتبر البيض ذلك نوعاً من المبادلة التجارية. هكذا وصلت إلى المتحف مجموعة من المعاطف ومعها صور للزعماء يرتدون المعطف الأوروبي دليلاً على الصداقة!
الجانب الطقسي الاحتفالي كان عسيراً على فهم التجار الأوروبيين في بداية التواصل بين الطرفين، فالتجار اهتموا بالأعمال، بينما اهتم الأصليون بالطقوس ومنها الرقص والموسيقى التي يتم من خلالها التواصل الاجتماعي، وكانت إحدى أهم الطقوس نجاحاً بين الطرفين عندما يتبادل زعيم القبيلة معطفه مع تاجر أوروبي، لذلك توجد مجموعة غير قليلة من معاطف الهنود الحمر بين مقتنيات المتحف -كما يوضح براونستون- وكذلك توجد صور التقطها الأوروبيون لزعماء قبائل الهنود الحمر يرتدون معاطف أوروبية وهم يبتسمون تعبيراً عن الرضا لنجاح الطقس الاحتفالي من وجهة نظرهم.
أما معاطف السكان الأصليين فقد وصل بعضها إلى المتحف لأن التجار الأوروبيون أعادوا بيعها للأثرياء الذين حافظوا على الكثير منها.


حزام من الصوف المطرّز يصوّر التقاء طائرين - 1890



خنق الطقوس.
وعندما انتقل الأصليون إلى مناطق جديدة أقاموا في "محميات" عينت الكومة سلطة عسكرية لإدارتها. وكانت السلطات تمنع الهنود الحُمر من ممارسة عاداتهم وطقوسهم الاحتفالية داخل المحميات لتغلق الباب أمام امتداد الإرث الثقافي لهذه الجماعة البشرية؛ فلم تستطع فنون هؤلاء السكان الوصول إلينا إلا نتيجة أن بعض القادة العسكريين كانوا أكثر تفهماً للحاجات الإنسانية وأكثر تسامحاً في تطبيق القوانين التعسفية، فسمحوا بشكل شخصي لبعض الهنود الحمر بعمل آلاتهم الموسيقية، والأدوات التي يحتاجونها لطقوسهم الأخرى.
وهنا يوضح براونستون أن ما نراه من أعمال فنية لم يكن سوى أدوات طقسية يمارس من خلالها الهنود الحُمر صلواتهم وطقوسهم الاحتفالية، بما فيها تدخين التبغ، حيث كان الأصليون يعتقدون أن الدخان الذي ينفثونه نوعاً من الصلاة أو الرسالة التي يرسلونها إلى الخالق!


النجمة المغربية. أما تفاعل هؤلاء القبائل مع بعضهم البعض فقد أثمر مجموعة من سروج الخيول ذات الأشكال الجميلة. كان الأسبان قد عرّفوا السكان الأصليين على الخيول، وتحديداً قبائل الأزتك، الذين نشروا الاهتمام بالخيول بين قبائل الهنود الحمر الأخرى في مناطق شمال القارة، فتجد سرجاً عليه شكل تجريدي مستلهم من شكل النجمة المغربية التي اجتلبها الأسبان إلى أمريكا، ونشرها الأزتك بين قبائل الأصليين الأخرى.
ونتيجة تساهل بعض المسؤولين الأوروبيين في تنفيذ أوامر منع ثقافة الهنود الحُمر خلال النصف الثاني من القرن الـ 19 كانت النساء تصنعن الملابس التقليدية خلال الشتاء ليرتديها الجميع في الربيع، وخلال احتفالات العيد الوطني لكندا (1 يوليو) من كل عام، حيث يُسْمَح للجميع بارتداء الملابس التقليدية، ويُسْمَح للأطفال بلعب ألعابهم التقليدية إلى جانب لعب الكرة مع الأطفال الأوروبيين"
تصاميم الأحذية والملابس ذات أشكال هندسية – كما يشير براونستون- ويعتقد الأنثربولوجيون أن لهذه الأشكال معانٍ عميقةٍ في ثقافة الأصليين، مثلاً المثلث هو تجريد للخيمة. كما تستلهم بعض الأشكال أشياء يرونها في الطبيعة كأنياب الحيوانات وشكل الضفدع، حيث تنتشر الضفادع بكثرة حول البحيرات المتناثرة في أنحاء كندا.”

وقد لاحظ أنثربولوجيون أن الكثير من المعاني لا يعبر عنها الأصليون بألفاظ منطوقة، بل باللغة البصرية فقط، مثل الشكل التجريدي لالتقاء طائرين، والذي تبينه صورة حزام من الصوف.

وتمتلئ أساطير الهنود الحمر وبالطبع رسوماتهم بالحيوانات، فقد كانوا يعتبرون أن العلاقة مع الحيوان صلة مع الخالق، ولذلك يحمل كل حيوان أسطوري رمزاً ومعنى.

داخل الجاليري أيضاً مجموعة من أدوات الزينة والتجميل والتي كان يهتم بها رجال الهنود الحُمر أكثر من النساء، بحسب براونستون. فقد كان الرجال يرتدون الأقراط أكثر من النساء، ويهتمون برسم الحاجبين، بينما اقتصر تجميل المرأة على تزيين الشعر وعمل الضفائر

Monday, June 4, 2018

من تاريخ الترحال: القطار لا يعرف قيود النهر

قطار بخاري عتيق


قبل المحرك البخاري وخطوط السكك الحديدية استخدم الإنسان خطوط السكك الخشبية، والتي لا تختلف إلا قليلاً عن مثيلتها الحديدية سوى في استخدام الخشب، وأن العجلات لم تكن تجري فوق القضبان وإنما جوارها من الخارج، وكانت الأحصنة هي التي تقوم بقطر العربات، ومن هنا استخدمت قوة الحصان فيما بعد كوحدة قياس لقوة المحركات الآلية التي حلت محل الحيوانات. ولم تكن القضبان متصلة بالرابط الذي يُعرف الآن باسم الفلنكات، عندما بدأ عام 1800 التفكير الجاد في ضرورة وجود محرِّك غير الأحصنة.

 كانت المصانع تنتشر باضطراد في أوروبا وأمريكا في ذلك الوقت وتريد الحصول على  مواد خام طازجة، ولم تكن سرعة الأحصنة كافية، أما مناجم الفحم فقد كانت الأكثر استخداماً للقاطرات في نقل الفحم، ومن هناك ولد اختراع المحرك الآلي الذي يتحرك بقوة البخار، لكن الغريب أن مخاوف بعض الناس من الأسلوب الجديد في الترحال الذي قد يجعل الإنسان يتحرك بسرعة كبيرة هي 20 كيلومتراً في الساعة أدى لنشر إشاعات خرافية عن الاختراع الجديد!

كان التحول كبيراً، وقد شهدته بريطانيا أولاً عندما تمكن البريطاني جورج ستيفنسون عام 1814 من بناء أول محرك بخاري، وبعد نجاحه في قطر الفحم، حيث كان يعمل مهندساً في أحد المناجم، نجح ستيفنسون في تصميم قاطرة بخارية لسفر الأشخاص وكان ذلك عام 1820 عندما نقل 60 مسافراً من دارلنجتون إلى ستوكتون في ثلاث ساعات تضمنت التوقف في محطات، بعدها بشهر واحد انتظم خط ثابت لخدمة المسافرين بين هاتين المدينتين.

   قطار بخاري

منذ ذلك الوقت أخذت علاقة الإنسان بالقطار مساراً آخر، مادياً وشعورياً، ففي محطات القطار تجمعت أحاسيس الوداع والفراق، وتكثفت مشاعر اللقاء، بعد أن اقتربت المسافات. كذلك تزايدت المخاوف من القادمين الغرباء، وانفتحت القرى والمدن البعيدة أمام أخبار الصحف؛ لقد أخذ مفهوم الانتماء إلى المكان معاني مختلفة لم تعد قاصرة على مساحة القرية أو المدينة أو الدائرة المغلقة، بل مفتوحة أمام العالم للمجيء أو الرحيل.  

لكن علاقة الإنسان باستخدام الخطوط الخشبية قديمة جداً، لذلك لم تُقابَل التغييرات برفض كبير من الناس بقدر ما عبّرت صُحف تلك الفترة عن هواجس القلق من سرعة عبور القطار داخل المدينة، وضرورة وجود نوع من الإشارة لمرور القاطرة. وكان التحول إلى الخطوط الحديدية قد سبق المحرّك، حيث حلّت عام 1740 مكان الخطوط الخشبية لأنها تستطيع تحمل الأثقال بعدما زاد الاعتماد على النقل بهذه الوسيلة، وفي عام 1780 أصبح للقضبان حواف تشبه المستخدمة حالياً، والتي تمكِّن العجلات من الدوران بانتظام فوق القضبان وليس إلى جوارها، وفي ذلك الوقت اختُصرت المسافة العريضة بين القضيبين التي كانت موجودة وقت السكك الخشبية، ليصبح عرض المسافة بينهما 3 إلى 4 أقدام، مما سهل الربط بالفلنكات، وهو ما أدى لزيادة الأحمال والسرعة في آن واحد.

وبالنظر إلى أن الإنسان قد اخترع العجلة قديماً، تُعتبر خطوط السكك الخشبية أو الحديدية قد تأخرت نسبياً، خاصة أن مسارات طرق النقل التجاري وطرق السفر بين المدن كانت مستقرّة ومعروفة منذ مئات السنين، لكن اعتماد الإنسان على المواصلات النهرية في المجتمعات القديمة وفّر وسيلة جيدة وعملية لنقل البضائع، فقط عندما بدأ استخراج الفحم بكميات ضخمة من مناجمه، والتوسع في قارة أمريكا الشمالية انتبه الإنسان إلى أن مسارات الأنهار تسمح له باستخدامها في النقل بين الشمال والجنوب فقط، ولا يوجد أنهار تتحرك بين الشرق والغرب والعكس، هنا بدأ الاعتماد على خطوط القضبان كوسيلة للتوسع في القارة المكتشفة حديثاً، وكذلك مثلت القاطرة وسيلة ممتازة لرفع الأحمال الثقيلة للمعادن المستخرجة من المناجم .

بدأ سباق السرعة منذ أول أستخدام للقطارات في نقل المسافرين، فلم يتم اختيار قاطرة ستيفنسون التي نقلت المسافرين لأول مرة بين دارلنجتون وستوكتون إلا بعد أن تنافست مع أربع قاطرات أخريات، وربحت بسبب السرعة والراحة الداخلية للمسافرين.

ويذكر الروائي تشارلز ديكنز وصفاً لرحلات القطار البخاري في أمريكا الشمالية في القرن التاسع عشر، حيث كان الركاب يستخدمون البخار لتسخين القهوة والشاي وحليب الأطفال، وكانوا يجدون تعاوناً من مساعد السائق المسئول عن الجانب الميكانيكي في المحرك البخاري.

لكن رغم أن السبق في القاطرة البخارية للبريطانيين، وخلفهم بخطوة يأتي الأمريكان ودورهم في تطوير شبكات السكك الحديدية، ونشر القطار كوسيلة قليلة التكلفة ومريحة للمسافرين من حيث التصميم الداخلي للعربات ومقاعدها، إلا أن تسمية Train ذات أصل فرنسي، كما أن الفرنسيين مغرمون بالسباق من أجل وصول قطاراتهم لأقصى سرعة يبلغها قطار في العالم، وتأتي معهم في ذلك ألمانيا والصين واليابان، وكانت اليابان أول من بادر بتوفير خدمة القطارات السريعة التي تجري بسرعة أكبر من 200 كم في الساعة تحت مسمى "القطار- الرصاصة" عام 1964.

ويحمل القطار الفرنسي رقم أسرع قطار يجري على قضبان في العالم حالياً، مسجلا سرعة 574.8 كم في الساعة، وهي سرعة تفوق الموديلات غير الحديثة من طائرة البوينج 727، بينما يحمل قطار ياباني رقم أسرع قطار مغناطيسي (يطير فوق القضبان) بسرعة 581 كم في الساعة، والطريف أن هناك مقالاً قديماً يعود إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر في صحيفة إنجليزية يتحدث عن المخاوف التي يحملها اختراع القاطرة البخارية، ويتكلم كاتبه عن الإنسان سوف يطير على القضبان من فرط السرعة، لكن كاتبه كان يقصد وقتها السفر بسرعة تزيد على 20 كم في الساعة، والتي كانت وقتها مهولة مقارنة بسرعة الأحصنة.

 خلال نقل القطار الفرنسي الأسرع في العالم حالياً

الفنون والقطار. هناك عدد كبير من الروايات والأفلام التي تدور أحداثها في القطارات، نوعيتها لا تقتصر فقط على المغامرات أو الجريمة بل هناك أيضا الرومانسية إلى جانب الموضوعات العامة، ويعتبر الوداع في محطات القطار من المشاهد الكلاسيكية السينمائية، خاصة أن نقل الجنود في أزمنة الحروب الحديثة كالحربين العالميتين اعتمد بشكل رئيسي على القطارات، التي كانت محطاتها فاصلاً ينتقل بعده الشخص إلى حياة الجندية مودعاً أحباءه.

وقد أسهمت السينما المصرية، والفن المصري بشكل عام، في تقديم صور متنوعة عن القطار بداية من أغنية "يا وابور" ومشاهد الموسيقار محمد عبدالوهاب في القطار، إلى مجموعة كبيرة من الأفلام ساهم فيها مخرجون متنوعوا الأذواق من أفلام "سيدة القطار" ليوسف شاهين وعمله الشهير "باب الحديد" الذي قام فيه بدور البطولة ودارت الأحداث في محطة القطارات الرئيسية بالقاهرة والتي كانت تسمى "باب الحديد" واسمها الرسمي محطة مصر، وتقع في ميدان رمسيس.

هناك روايات مصرية وأعمال سينمائية قدمت نماذج بشرية من راكبي القطارات، وأحوال المسافرين، وقد واكبت الدراما المصرية تمدد القطارات داخل المدينة من خلال محطات مترو الأنفاق مثل جوهرة محمد خان "ضربة شمس".

ولعل فيلم "هستيريا" للفنان أحمد زكي نموذجاً عن حالة الاغتراب التي يعيشها الناس في المدن فيصبح التواصل عن طريق عزف الموسيقى هو الأداة للتفاعل مع الحشود التي يجمعها الزحام لكنها تعيش حالات من الغربة والعزلة والانشغال بالذات.

لم تكن السكك الحديدية غائبة عن المواصلات الداخلية داخل المدينة نفسها، فهناك "الترام" الذي تشتهر به مدن عديدة منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الآن، ومنها مدينة الإسكندرية وإسطنبول التي تحتفظ بخط وحيد للترام العتيق يمر بشارع "تكسيم" الشهير في وسط المدينة، وهناك ترام في مدن غربية شهيرة منها تورنتو بكندا وسان فرانسيسكو بالولايات المتحدة. وقد قدمت السينما والفنون المختلفة أعمالاً تبين الشخصيات الاجتماعية من طبقات مختلفة التي تتفاعل داخل عربات القطارات سواء في رحلاتها بين المدن أو داخلها؛ فهذا السلوب الذي بدأ حلماً أصبح من تفاصيل الحياة اليومية، وينتج منه كثير من المفارقات الدرامية.

 تراجيديا القطار. الدراما الإنسانية التي ارتبطت بالقطارات تصل في الواقع إلى درجات كبيرة من التراجيديا، فمد السكك الحديدية ارتبط بالألم، وقد تكلف تشييد خط قطار شرق إفريقيا آلاف الأرواح التي كانت تسقط نتيجة مشقة العمل وإصاباته ولا تجد علاجاً او رعاية، حيث عاملتهم الإدارة الاستعمارية لبلجيكا باستهانة شديدة، وهي الدولة التي كانت تسيطر على مستعمرات في شرق إفريقيا وقت مد خطوط السكك الحديدية، وقد أسرعت من العمل لتمتص خيرات المناجم الإفريقية قبل أن تصل إليها فرنسا، التي أيضاً أدارت عملية مد جزء من هذه الخطوط الحديدية بقسوة شديدة في المناطق الإفريقية التي تسيطر عليها، وهو أمر تكرر أيضاً في أمريكا اللاتينية تحت الحكم الإسباني.

لكن أكثر أشكال الدراما مأساوية تلك الحالة التي شاعت في الصين وقت حكم ماو تسيتونج، عندما كان يلجأ الفقراء إلى الانتحار تحت عجلات القطار ليضمنوا تشييع جثامينهم في جنازات بأكفان جيدة، بعدما ألزم القانون شركة القطارات الصينية بالتكفل بهذه التكاليف حالة وفاة شخص تحت عجلات القطار!

وحمل التاريخ حالة غريبة بخصوص مد السكك الحديدية في سيبيريا بروسيا خلال القرن التاسع عشر، وهي خطوط شاسعة بمعنى الكلمة تمتد على مساحات من الثلوج التي تعصف بها قسوة الشتاء، وكانت روسيا القيصرية تحتاج لهذه الخطوط لنقل البترول وتسريع لحاقها بالعالم الصناعي الأوروبي، ولأنها لم تمتلك الموارد المالية الكافية استدانت من الولايات المتحدة، التي تكفلت بالتغطية المالية لهذا الاستثمار الضخم مقابل تنازل روسيا عن منطقة ألاسكا التي كانت واقعة تحت الحكم الروسي! وبذلك غيرت خطوط السكك الحديدةي الروسية من الجغرافيا السياسية ووضعت أميركا وروسيا على حدود شاطئية يفصل بينهما مسافة بحرية قصيرة، بينما حمت كندا من غزو روسي محتمل في مراحل الحرب الباردة!

محطة النبلاء. أبدع المعماريون في تزيين محطات القطار، خاصة في فرنسا، التي تكاد أسقف بعض المحطات الريفية فيها أن تنافس أسقف الكاتدرائيات بما فيها من إبداع في مجال الرسم والتلوين، لقد اعتبر المعماريون والمصممون أسقف هذه المحطات عنواناً للحداثة والصلابة والنهضة الكبيرة للعالم الحديث، وقدموا أشكالاً من التصاميم الباروكية التي تعبر عن أن محطات القطار هي ما يعادل قصور النبلاء في العصور الوسطى.


  أحد أسرع القطارات الأوروبية



وتعد الرحلة بالقطار الذي يعرف بقطار النوم من أمتع الوسائل السياحية، خاصة تلك الرحلات التي تقطع قارة أمريكا من المحيط إلى المحيط، ليمضي القطار مخترقا الغابات وسهول البراري والجبال، وهناك أكثر من خط بعرض قارة أمريكا الشمالية في الولايات المتحدة وفي كندا، وتوجد مسافات محددة في خط كندا تخترق جبال روكي وصولاً إلى المحيط الهادي تعد فريدة في جمالها، حيث تتجول عين السائح بين مشاهد من أروع ما يمكن أن يشاهده إنسان، بين الوديان والجبال والغابات، ويوفر هذا القطار، الذي يتكون من طابقين، رفاهية فائقة لركابه، ويوجد به عربات زجاجية خاصة في الطابق العلوي لمشاهدة إبداعات الطبيعة الرائعة.

ويبقى أن تعبير "رحلة سعيدة" الذي نستخدمه الآن في وداع المسافرين بالطائرة أو بالبحر ينتسب ألى أدبيات السفر بالقطار.