Thursday, November 29, 2012

مليونية 27 نوفمبر.. الكتلة الحرجة

 تحديث 4 ديسمبر: اشتركت حشود جماهيرية غير مسبوقة في أطول مسيرة شهدتها مصر وصلت إلى قصر الاتحادية الرئاسي يوم الثلاثاء 4 ديسمبر 2012، بعد اسبوع واحد من مليونية الكتلة الحرجة يوم 27 نوفمبر، حيث انضمت جماهير تشارك لأول مرة في المظاهرات، لتنقل الاحتجاج إلى القصر الرئاسي نفسه وليس ميادين التحرير على امتداد مصر، وقد شاركت في نفس اليوم حشود في محافظات عدة منها الإسكندرية، أسيوط، أسوان، الدقهلية، الشرقيّة، المنيا، 6 أكتوبر، بورسعيد، السويس، دمياط، المحلّة، الأقصر، دمنهور، الغردقة، شرم الشيخ، اﻹسماعيليّة
 
منذ 25 يناير 2012 لم تستجب الحشود الشعبية لأية نداءات من ثوار الميدان، أو من التيارات السياسية، كان خروجها في الذكرى الأولى للثورة حاسماً لمسألة إنهاء الفترة الانتقالية، وضرورة عقد انتخابات رئاسية ونقل السلطة من المجلس العسكري لرئيس منتخب.
 
ربما تكون دعوات الاحتفال بالذكرى الأولى لأحداث محمد محمود (19 نوفمبر) هي بداية الظهور الحالي للحشود الشعبية، لكن المشاركة في ذكرى 19 نوفمبر كانت شبه مغلقة على دوائر النشطاء والذين سبق أن شاركوا في الأحداث نفسها قبل عام،وأعداد من الشباب الذين أبدوا اهتماماً كبيراً بالعمل السياسي بعدما فتحت ثورة يناير أبوابه الموصدة. 
 
خروج الملايين يوم 27 نوفمبر  2012 (في القاهرة والإسكندرية والدقهلية والغربية ومحافظات أخرى عديدة) خلال منتصف الأسبوع وفي يوم ليس عطلة (الثلاثاء) استجابة لنداءات القوى السياسية لرفض الإعلان الدستوري المستبد قلب الحسابات كلها؛ فهو أولاً: مفاجأة سارة للغاية للقوى السياسية المعارضة لمرسي، والتي كانت هدفاً للهجوم طوال العامين الماضيين، هجوم المجلس العسكري ورجال النظام القديم، وهجوم المعارضة التقليدية التي تعايشت مع النظام القديم (الإسلاميين وفي طليعتهم الإخوان) لكن تمتع هذه المعارضة الجديدة بقدر من التأييد الشعبي - ورصيد قوي في تفجير الثورة- جعلها "كتلة حرجة" غير قابلة للابتلاع، وغير قابلة لللإقصاء، فتم استدعاء الحشود الشعبية للإدلاء بأصواتهم في صناديق الاقتراع بواسطة سياسيي النظام القديم ومعارضته للتصويت، وقد اختيرت موضوعات الاقتراع في كل مرة تقريباً بحيث تكسب عمليات ترميم النظام شرعية سياسية تفرمل أو تكبح حركة التغيير من الشارع.

  ظلت "الكتلة الحرجة" غير قابلة للابتلاع طوال عامين تقريباً، وأدت مصادمات مسرح البالون وماسبيرو والعباسية ثم أحداث محمد محمود الأولى لاستنفار الحشود الشعبية، فخرجت مرة أخرى في 25 يناير 2012 تأييداً لفكرة تحديد موعد لانتخابات الرئاسة، وهو ما تم فرضه على طرفي النظام القديم (العسكر وريث مبارك ومعارضته ممثلة في الإخوان) نتيجة التأييد الشعبي لفكرة انهاء المرحلة الانتقالية، فكان أن تكيف النظام القديم مع ما فُرض عليه، وتم تبادل المواقع بين العسكري والإخوان، فحصل الإخوان على الرئاسة، ونال العسكر السلطة التشريعية -بشكل مؤقت وغريب- التي مكنتهم من التفاوض لترتيب خروج آمن لهم مع السلطة الجديدة التي لم تقصر بدورها في تكريم أو تجديد صلاحية العمل مع بعض أبناء النظام القديم.

 
من حشود الثلاثاء 27 نوفمبر 2012

، تجدد خروج الحشود الشعبية يوم 27 نوفمبر 2012 هو "ثانياً": عودة  للشعب كرقم مميز وحاسم في المعادلة السياسية بعدما ظن كثيرون أن استدعاءه لصناديق الاقتراع كل هذه المرات سيعفيه من الخروج إلى الشارع بعد ذلك. وهو ثالثاً: استجابة أولى من نوعها من الجماهير للقوى الثورية التي طالما شكلت "كتلة حرجة"، أو أقلية غير قابلة للابتلاع أو الإقصاء، لكنها غير قابلة على فرض رؤيتها، وتتضمن هذه الكتلة قطاعاً إسلامياً ثورياً يراوح أحياناً بين المعسكرين، ويتمثل في تيار عبدالمنعم أبوالفتوح وحزبه مصر القوية، وبعض ائتلافات الشباب السلفي المستنير إلى جان التيارات المدنية بمختلف توجهاتها الليبرالية واليسارية.

 رابعاً: أكد خروج الحشود الشعبية على أن الشرعية الانتخابية ليست بديلاً عن الشرعية الأصل للشعب، وجمعيته العمومية التي يعقدها في ميادين المدن الكبرى وقتما يشاء، حتى ولو في منتصف الأسبوع ودون وجود عطلة.

 خامساً : تعتبر تلك الاستجابة الشعبية ضربة موجعة لفكرة احتكار التيار الإسلامي للجماهيرية؛ لقد دللت الجماهير سياسيي هذا التيار طوال عامين منذ اندلاع الثورة، فتركت الجماهير الميدان بعد إزاحة مبارك استجابة له، ثم اتبعت سبيله في كل مرة استدعيت فيها لصندوق الاقتراع أو الاستفتاء، صحيح أن الميزان الجماهيري ظل يتعدل وسمح لشخص مثل حمدين صباحي بالحصول على خمسة ملايين صوت وسط منافسة حامية مع أربعة مرشحين آخرين حصل كل منهم على أرقام مليونية، إلا أن التوجه الإسلامي حاز نصيب الأسد في كل مرة، ومنحه الشعب الفرصة تلو الأخرى، لذا ارتأت قطاعات جماهيرية تنبيهه، أو محاسبته، أو التلويح بحرمانه من تأييدها، فالملايين التي انتخبته مرة تلو أخرى ليست كلها من المنتمين للتيار الديني، بل إنها تتمتع بسمة مصرية شعبية هي المرونة وعدم الحماس للإنحياز الأيديولوجي المطلق.
 
 
حشود غير مسبوقة حول قصر الاتحادية الرئاسي يوم 4 ديسمبر 2012 ومشاركة أولى لجماهير اعتادت مشاهدة التظاهرات عبر التلفزيون
 
 رسالة الميادين للإسلاميين أن التأييد الشعبي ليس مضموناً وليس حكراً على جهة بعينها، وليس ممتد الصلاحية إلى الأبد ( تُظهر  صور المسيرات في الإسكندرية والدقهلية التي اطلعتُ عليها مشاركة أعداد غفيرة وتفاعلاً حيوياً من الأهالي مع هتافات المسيرات عبر النوافذ والشرفات). جوهر هذه الرسالة عدم الرضى عن الأداء السياسي والأداء الإداري للحكومة، فقد شاركتْ في هذه المليونية جموع سبق أن منحتْ أصواتها لمرسي أو لنواب البرلمان من جماعة الإخوان المسلمين، هذه الجموع لا يأتي شكل النظام السياسي أو حدود صلاحيات الرئيس وسلطاته على رأس أولوياتها، بل تهتم بأمورها المعيشية، وتستطيع أن تعي وتدرك العلاقة بين مصالحها وبين النظام السياسي العام للدولة، وقد أحبطت من عدم قدرة الإخوان على إنجاز التغيير بعدما أوكلتْ أغلبية الناخبين لهم قيادة عملية التغيير في الدولة. ولأن هذه الجماهير لم تجد ولم تشعر بتحسن في مسار الأداء، بل وجدت الرئيس يشطح باتجاه إعلاء سلطاته فوق الجميع بما في ذلك القضاء استجابت لفكرة العودة للميدان واعية بأن الميدان هو الجمعية العمومية للبلد؛ وهو أصل الشرعية.
 
 يختلف ذلك المشهد الذي فرضته هذه المليونية عن المواجهة الأولى بين الحشود وبين آلة الدولة التي كانت خاضعة لمبارك، فاللإسلاميين جمهور من الأنصار والمؤيدين لم يتوفر لمبارك، بينما تمتع مبارك بولاء كامل من آلة القمع التي كانت على استعداد لمصادمة الجماهير على نطاق واسع، لكن فشل تجربتها مع الثورة، وسقوط مبارك، جعلها تتجنب المواجهات الواسعة، لتخوض مصادمات محدودة مع الناشطين السياسيين فقط تمارس فيها قسوة مفرطة.



كيف سيرد الإسلاميون على نقطة التحول في مسلك الجماهير؟

تكشف هذه الأزمة عن مستويات متعددة مؤثرة على القرار السياسي للتيار الإسلامي لم يكن ممكنا التمييز بينها قبل هذه الأزمة السياسية، خاصة أن الملامح والمعالم قبل ذلك لم تتميز إلا بالتوجهات الأيدولوجية. لدينا الآن "الرئاسة" وهي مزيج بين مستشارين من نفس التيار، وأداء تفرضه طبيعة مؤسسة الرئاسة نفسها، وأطياف من المستشارين والمساعدين الذين يستكملون "المطبخ السياسي" وهم موضع ثقة الإسلاميين لكنهم ليسوا من داخل التيار، كالصحفي أيمن الصياد مثلاً.

هناك "مكتب الإرشاد"؛ الذي يلعب دوراً أوركسترالياً في قيادة كل الأطراف -بما فيهم الرئيس- لترجمة مصالح "الدعوة" ومصالح "الجماعة" إلى مكاسب سياسية وإقتصادية وجماهيرية على أرض الواقع، من خلال التنسيق مع أبناء الجماعة المتواجدين على رأس مناصب عليا أهمها رئاسة الدولة. وهناك طبقة أو شريحة الإخوان الفاعلين المكونة من التجار والتكنوقراط، الذين قدموا في سنوات المد الإسلامي صورة جيدة مطمئنة للإخوان، فهم جامعيون مجتهدون وناجحون في عملهم ( وقد حاز بعضهم على سمعة نقابية) وليسوا متعصبين كالسلفيين أو منتسبي تيارات العنف. وهناك الحلفاء من التيار الإسلامي وأهمهم السلفيين. وهناك القواعد الجماهيرية ومعظمها ريفية حيث يذيب زحام وتنوع المدينة مظاهر التركز الجماهيري لأي فصيل.

 لكل شريحة من تلك مصالح داخل الإعلان الدستوري، وزاويتها الخاصة في رؤية هذه المصالح.

يهدف الإعلان الدستوري إلى إنهاء الشكل الذي ترك عليه نظام مبارك السلطة القضائية، وهي السلطة التي تمتعت بقدر نسبي من التحرر من قبضة الديكتاتور، فكانت ساحة للمعارضة السياسية للطعن على القرارات الجائرة، واستطاع النشطاء الحقوقيون إيقاف بعض قررات مبارك خاصة في خصخصة بعض الشركات، وسجلوا بذلك نوعاً من الانتصار فلم تستمع أيه سلطة او جهة فرض رأيها على مبارك إلا القضاء، رغم ندرة الحالات. يفرغ إعلان مرسي هذه الساحة المتبقية لمعارضته هو حيث يقضي الإعلان بتحصين قراراته ضد القضاء، وكذلك اللجنة التأسيسية وأيضا مجلس الشورى.، كما أنه بموجب هذا الإعلان يكون قد امتلك ولو بشكل مؤقت حق تعيين وعزل النائب العام، بينما تمتع مبارك بنصف هذا الحق فقط؛ التعيين دون العزل. وبذلك يكون قد جمع مرسي كل السلطات تقريباً بشكل مباشر، أو من خلال سيطرة الإسلاميين على غرفتي البرلمان ويكون "قد أغلق حتى الطرق الصورية لمعارضته" بحسب تعبير الكاتب محمد خير.

وضعت مشاركة الحشود في مليونية الثلاثاء 27 نوفمبر مؤسسة الرئاسة في مأزق، فمكسب تدعيم الحكم الذي تطلع إليه الرئاسة وفرض استقرار دستوري يؤدي لطمأنة المستثمرين ورأس المال لتحريك عجلة التنمية المتوقفة، هذا المكسب مهدد بعدم التحقق بعد انحياز قطاع جماهيري غير قليل إلى صف المعارضة، وبعد أن ترسخ في وعي الشارع أن مرسي قد أغلق حتى الطرق الصورية لمعارضته، مما يمنح شرعية قوية لحق التظاهر والاضراب، والاحتجاج، والتضامن مع أية احتجاجات نقابية أو فئوية، نظرا لغياب صور المعارضة الرسمية،وهو بالضبط عكس ما يحقق مصالح الرئاسة من الإعلان الدستوري، وعكس ما يطمئن الطبقة الوسطى التي تميل دائما للاستقرر وعدم الاستقطاب الأيديولوجي.

ويكاد أن يكون مقترح العودة لدستور 71 المعدل باستفتاء مارس 2011 أفضل الصيغ لإنقاذ مصالح "الرئاسة" التي تشعر بحرج في التراجع عن القرارات. لكن مصالح الشرائح والمستويات الأخرى من التيار الإسلامي لا تتفق مع مقترح العودة لدستور 71، بل إن الصوت الوحيد من داخل المطبخ الرئاسي الذي تحدث عن هذا  الموضوع هو أيمن الصياد، أحد المستشارين غير المنتمين للتيار الإسلامي، ويعتبر تحدثه للإعلام دليل على عدم انصات الرئاسة لهذا النوع من المستشارين!
حشود جماهيرية في مليونية رفض الإعلان الدستوري المستبد 27 وفمبر


أخذ مكتب الإرشاد الجماعة في مغامرات سياسية عديدة منذ الثورة، وحقق مكاسب كبرى، وكلف الجماعة إنفاقاً باهظاً على الانتخابات، وهو مطالب بترجمة هذه المكاسب إلى فوائد عملية لصالح "الدعوة" والانتشار، وهو ما تحقق بشكل جيد في الأشهر الأولى للثورة عند الانتقال من العمل المحظور إلى العلن، فأقبل الناس العاديون لاستكشاف ما كانت تحذؤهم منه السلطة، لكن بعد موجة الرواج الأولى زادت مغامرات مكتب الإرشاد السياسية، وزادت الاستدارات السياسية وتبدلات المواقع وعبء تبرير المواقف، وتعرض مكسب البرلمان إلى خسارة عميقة، من الناحية المالية خاصة، فلم يسترد البرلمانيون الإخوانيون شيئاً مقابل ما أنفقوه، سواء كان هذا المقابل راتباً وبدلات، أو حظوة وقوة ونفوذ يمكن استخدامه في ترسيخ علاقة البرلماني بدائرته، وتوسعتها، أو في مكاسب اختراق مناصب ولعب أدوار كانت أبوابها مسدودة وقت سيطرة الحزب الوطني المنهار. بل إن هناك تساؤل عن جدوى وصول إخواني للرئاسة كان قد طرحه المرشد السابق مهدي عاكف، تساؤل عن مدى عائد ذلك على "الدعوة"، وهو ما يسعى مكتب الإرشاد لإثبات صواب رأيه وفعالية مغامراته السياسية وفتوحاته في مجال الاستحواذ على السلطة! وكذك تعويض البرلمانيين المتضررين من حل البرلمان من خلال تحصين مجلس الشورى، ليلعب الدور التشريعي عقب إقرار الدستور الجديد، فيقبل الناس على البرلمانيين لتسيير مصالحهم وخدماتهم، فتتسع فرص ضم أنصار جدد، وإلا فأساليب الدعوة التقليدية التي تتم من خلال نشاطات وفعاليات تم إتقانها أفضل من تلك التي تجلبها إدارة الأمور السياسية.

تتحمل طبقة الإخوان الفاعلين عبء مغامرات مكتب الإرشاد وسعيه نحو السلطة التي وجد أبوابها مفتوحة بعد انهيار مبارك، إنها مطالبة بالتمويل، والتبرير، والنجاح في كسب الأنصار، والحفاظ على الصورة التي أوحت للناس بـ "المدنية" والعصرية، لكنها تتعرض مع كل موجة شد وجذب سياسي مع القوى الثورية إلى قدر من التآكل في الثقة، ليست ثقتها في القيادة أو في أي من الثوابت التي بنيت عليها الجماعة، لكنها الثقة في النفس؛ تلك التي تراكمت مع سهولة الرواج الجماهيري رغم الحظر الرسمي. تخصم المعارك السياسية -إن صح التعبير- من تلك القدرة السلسة على الانتشار، كما أنها تختبر تلك القدرة بنوع جديد ومرهق من الاختبارات، فـ "الدعوة" لا تُمارس في أجواء هادئة محايدة، إنها أجواء عراك وتنافس، وهناك منافسون طوروا أدوات ترويجية جذابة من خلال العمل الثوري في الميدان، وعندما تجري المنافسة في أجواء معارك سياسية ذات طابع حزبي تتحول صورة المكاسب الدعوية  من ضم مزيد من الأنصار إلى تبرير مواقف، او مجرد اقناع الجمهور المستهدف، كما أن الانتصار في المعارك لا يأتي لك بأعضاء جدد يزيدون من جماهيرية الجماعة، انه يظهرك فقط في مظهر القوي،وهو منظر قد يلجم غير المدربين سياسيا عن المعارضة فيبدو المشهد كنوع من الصمت والقبول، لكنه لا يزيد عدد الأنصار الحقيقيين!

 
من حشود الثلاثاء 4 ديسمبر 2012

أما حلفاء الإخوان من التيار الإسلامي فتتركز مصالحهم في تحصين التأسيسية وفاء لوعودهم الانتخابية الخاصة بموضوع الشريعة الإسلامية، يلي ذلك مكسب مجلس الشورى ودوره التشريعي في الدستور الجديد، لكنهم ليسوا على استعداد للتوافق الكامل مع الرئيس في قراراته كلها، سيدافعون عن شرعيته في حال طورت المعارضة أساليبها صوب نزع شرعيته الدستورية، وهو أمر ليس معروفاً حتى الآن.

الهروب إلى الأمام من مأزق الرئاسة مع الكتلة الحرجة التي عادت مرة أخرى للنمو يبدو أفضل الحلول لهذا الخليط من مؤثرات صنع القرار، رغم أن إعادة تشكيل التأسيسية بصيغة مرضية لمعظم الأطراف، وإسناد الدور التشريعي إليها بشكل مؤقت يبدو أفضل الحلول، يليه حل العودة لدستور 71، لكن ضغوط مكتب الإرشاد، والحلفاء، وأهم من ذلك الطبقة الفاعلة داخل الإخوان، التي ترى أن معركة واحدة كبرى وأخيرة هو ما تحتاجه لترتاح من عناء العراك السياسي،  وتتجه لجني المكاسب التي استثمرت فيها عامين، كل ذلك يدفع إلى الهروب إلى الأمام صوب انتاج سريع للدستور وفرض الأمر الواقع، لكن نظراً لأن طريقة الهروب إلى الأمام نفسها تغلق الباب أمام أية معارضة، ولو صورية على طريقة مبارك، ستكتسب الكتلة الحرجة شرعية كبرى في نظر الجماهير للعمل من الشارع وليس من داخل مؤسسات سياسية  تم تحصينها وإغلاقها على السلطة.

هنا يمكن للكتلة الحرجة العمل بحرية وعلى نطاق واسع لتأييد كل أشكال الاحتجاج السلمي، كماسيتم إعفاءها لبعض الوقت من شروط العمل الحزبي الخدمي في دوائر انتخابية إلى أن يشتد عودها وتكتسب مزيداً من الخبرة؛ شرط ألا يتم استدراجها لأعمال عنف كبرى؛ يمكنها بالطبع الدفاع عن نفسها لو حاولت القوى المؤيد للسلطة ضربها، لكن التأكيد على سلمية الاحتجاج والرفض والمعارضة سيكون بوابة كبرى لتوسعة الكتلة الحرجة وكسب المؤيدين بدرجة غير مسبوقة.
 

Sunday, November 11, 2012

أيقونات محمد محمود


 شروق الختام.. من أيقونات محمد محمود
 
ذكريات "محمد محمود" محفورة، صور كثيرة، كلها أيقونات، من لحظة الألم الأولى بإلقاء جثث في الزبالة، مرورا بومضات المجد التي كانت تلمع مع فقأ العيون، مجد هذا الجيل المستعد، والقادر على التضحية، مجد نبلاء اكتشفوا كم هم أحرار من الداخل، وكم يستحق أقرانهم الذين تخاذلوا عن التواجد- مجرد التواجد ولو المعنوي- شفقة خاصة بعدما  استمعوا لتوجيهات تنظيمات سياسية تتحكم فيها أطماع السلطة. وكم يكسوالخزي فريقاً آخر من شباب تربوا على الأنانية، وحق الانتهاك، فقاموا بإطلاق أعيرة الخرطوش على أعين شباب مثلهم انتفضوا ضد إهانة القاتل للجثث!

 تحولت معركة محمد محمود لأيقونة وملحمة حسمت في وعي الكثيرين ضرورة إبعاد العسكريين بكل أشكالهم عن السلطة. أغلقت ملحمة محمد محمود الباب في وجه تقبل القمع كأداة للسلطة، هناك قمع هنا وهناك، لكن شرعيته تعرَّت وسقطت تماماً، ووحشيته أصبحت محط كراهية جماعية من كل جيل الشباب، من شارك، ومن جلس متألماً ينظر من بعيد، مستمعاً للقيادات الطامعة في السلطة التي أرادت أن تظهر بمظهر المحايد، حتى تقطف الثمرة! 
 
محمد محمود ملحمة مصرية كبرى، نحتت خريطة السياسة بسكين، خريطة ستظل تطل، وتطل، على المستقبل بألوان وخطوط من الدم، والخزي، والمجد، والألم، والتضحية، والفداء، والبساطة، والخسة، والطمع، والإرادة.. هي  تضاريس الثورة التي لم تكشفها أيام التحرير الأولى التي سقط فيها مبارك حيث بدى الصراع وقتها بين صدق وكذب، أما "محمد محمود" كان الجميع صادقين ومتسقين مع أنفسهم: من مضى مع شهوة السلطة، ومن اندفع بشهوة السيطرة والقمع، ومن ضحى مستمتعاً بحلاوة الحرية.
 
 
ذكرياتي الشخصية حفرها في ذاكرتي سؤال سألني إياه أحد نبلاء "محمد محمود": هل تعتقد أن شعبنا سيقدر ما فعلنا من أجله؟
كنت لطيفا - قدر استطاعتي- في ردي، لكني لم أمتلك إجابة، ولا يعرفها أحد بعينه من أبناء هذا الشعب الحائر.
 
أيقونات "محمد محمود تشكل تضاريس عميقة؛ محفورة. ذاكرة الألم لا تمحي. إنها تنغص على كل من يكذب، تنغص على كل طامع في سلطة ضحى من أجل تحريرها هؤلاء النبلاء.
 
أين أنت من محمد محمود؟ يكفي هذا السؤال.