Tuesday, December 8, 2015

في وداع إدوار الخراط: الأب المراوغ

المقال منشور ضمن عدد خاص لجريدة القاهرة عن الأديب الكبير

في منتصف التسعينات كنت أجري لقاءاً مع مسئول عن مكتبة كاتدرائية العباسية ضمن تحقيق صحفي عن المكتبات القبطية لصحيفة أخبار الأدب، وتطوّر حديثي معه إلى لحظة شخصية ودودة أراد الرجل فيها أن يمد لي خيط التواصل عن طريق الدراسة في معهد الدراسات القبطية، فسألني عن التخصص الذي أود اختياره لو رغبت في استكمال درجة من الدراسات العليا في هذا المعهد، وكانت إجابتي: الأدب، فتغير لونه قليلاً.

 بعد إلحاح منّي أوضح بنبرة رجل دين متحفظ عن السبب، وهو أن المسؤول عن الدراسات الأدبية شخص يكتب كتابات فاضحة، فيتطرق إلى الجنس أحياناً. مع تزايد قلقي الشخصي من سبب كهذا، وفضولي لمعرفة من هذا الشخص أفصح لي عن اسمه: إدوار الخراط.

كنت أسير في ساحة الكاتدرائية في ذلك الصباح باتجاه الباب تحت تأثير الصدمة من كلمات رجل الدين، فقد كانت كتابات الخراط لي متسترة بجماليات اللغة، وكلمة "فاضحة" أبعد ما تكون عنها، كما أني لم أعتد وجود الخراط في هذه الخانة؛ لم أتخيله موضع انتقاد من رجال الدين.

في لحظة الدهشة تلك استوقفتني فتاة في السابعة عشر من عمرها بنقرات على ظهري، فالتفتُّ إليها وعلى الفور باحت لي بحبها وهي تنظر إلى الأرض! وعندما رفَعَتْ رأسها حاولتُ أن أهدئ من روعها خوفاً من أن تصيح عندما تكتشف أنها أخطأتْ الشخص الذي كان يجب أن تكشف له عمّا في قلبها، فيتسبب صياحها في مزيد من الالتباس لم أكن بحاجة إليه في تلك اللحظة!

هكذا، بين المحبة والالتباس كانت علاقتي بإدوار الخراط.

في سن الـ 25 التقيت الخراط، وكان هو في طريقه نحوالـ 70. كان اللقاء على أرضية جيلية؛ كمجموعة كتاب شبان أصدروا كتاباً مشتركاً يحمل تجربتهم الخاصة. تم اللقاء في بيته بترتيب من ناشر الكتاب (حسني سليمان/ دار شرقيات). لم نذهب جميعاً، وكان التوقيت - بعد نشر الكتاب - موضع راحة من الذاهبين للقاء "الأستاذ". القلق من كيف ستكون العلاقة كان شاغلي بشكل شخصي، ولكل قلقه وأسبابه.

كنت في فترة سابقة قد وجدت حاجزاً بيني وبين الاتكاء على كثافة اللغة ومحسّناتها في بعض أعماله؛ مقاطع كاملة كانت هدراً لجماليات أخرى، لكن الأهم – في نظري كشاب – أن تمجيد اللغة فخٌ يُسْلِم إلى نوع من السلطوية، أو البطريركية. حيادية اللغة – وليس كثافتها - وتحريرها من تلك الحرارة الرومانسية، وحمولة الدلالات هي بداية الحرية.

أفكار كهذه، وأخرى عن "ذات" الكاتب قيلت في اللقاء الأول،
لكن على عكس ما يخطر على البال، جرى الحديث في سياق هو فيه محرّكُه باتجاه فهم متحمس للأجواء التي كُتبت فيها نصوص الكتاب المنشور.

   والمثير أنه نحت تعبيرات نقدية – عفو الخاطر- للتعبير عن حيادية السرد مثل "الكتابة في درجة حرارة الغرفة"، وكتابة الفيديو كليب"، وغيرها مما أثار إعجابي، ودفعني، مع تلك الحادثة التي جرت في كاتدرائية العباسية، إلى قراءة أعماله ورؤاه النظرية من جديد.

حماس الخراط للتجديد كما لمسته في تعامله مع بعض أعمال كتاب التسعينات كان نابعاً من أشياء أساسية: ليبراالية عميقة في شخصه وفكره، وغرام حد الولع بالتجديد والإيمان به 
كحتمية، والاعتقاد أن المغامرة الإبداعية هي اليقين الذي يميّز الفنان.



في لقاء تالٍ معه تمشينا حول بيته في الزمالك، وأخبرته عن اهتمامي بكتابة مقال أو دراسة أقارن فيها بين علاقته بالإسكندرية وعلاقة يوسف شاهين بها. راقت له الفكرة خاصة مسألة "ذات الفنان"، ولم أنفذ وعدي، لكن لم أتخل عنه حتى الآن.

في مقال له نشر ربما عام 2005 أو بعد ذلك في جريدة الحياة، دافع الخراط عن حماسه المتواصل واستمراره في الكتابة عن الأدباء الشبان، حتى من كتب قصة أو اثنتين منهم ثم توقف، كانت نظرته أن تلك في حد ذاتها إرهاصات لثورة قائمة أو قادمة، في الأدب أو المجتمع، بحسب تعبيره "كل منهم يلقي حجره" وقد يمضي.

أحد المشاكل التي أجدها في كتابة هذا الوداع للخراط أنني لا أتخيل أننا نكتب عنه؛ فدائماً ما يكتب إدوار الخراط عن الآخرين. رؤاه النظرية وتحليلاته مدخل أساسي لفهم تطوّر الظاهرة الأدبية في مصر خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وهو بارع في نحت المصطلحات والتعابير، ليس لديه تردد الأكاديمي،

بل على العكس، يجني الجانب الإيجابي من الشك عن طريق نقيضه: المغامرة.

الذين التقوا الخراط محظوظون.

 قلة – في كل عصر - من المشتغلين بالأدب يمتلكون المواصفات الموسوعية للعمالقة، وقد فقد الأدب المصري والعربي قامة كبيرة من هؤلاء برحيل الخراط، فربما يكون الأخير الذي كان قادراً على العبور بين الأزمنة واللغات والتجارب بهذه السلاسة، ممسكاً بأدوات أدبية وفكرية كاملة العدة، ومؤمناً بالإبداع كخلاص.