Thursday, September 12, 2013

ملاحظات على اقتراح استبعاد الأميين من التصويت



نشرت جريدة الوفد أول أمس خلاصة مناقشات واقتراحات القراء لتعديل الدستور، وبلغ عدد الاقتراحات الهامة التي تم نشرها ما يزيد عن دستة من الاقتراحات، منها ما يتعلق باستقلال البنك المركزي، ودعم الدولة للعاملين في القطاع الخاص الذين يخوضون معركة غير متكافئة مع رأس المال دون أي سند أو حماية، وفي ظل معايير شرسة لسوق يمتص عطاء العامل ثم يلفظه عندما يضعف أو عندما تتخلف قدراته عن متطلبات التنافس.
من الاقتراحات الجذابة التي لقيت تأييداً النص في الدستور على انتخاب المحافظين والإدارات المحلية. لكن من الاقتراحات التي استوقفتني، ووجدت نفسي أتجادل حولها مع أصدقاء وزملاء أكن لهم التقدير موضوع استبعاد الأميين من التصويت على الدستور، بحجة عدم استطاعتهم فهم النصوص المعقدة ودلالاتها، والتي يكون فهمها وإدراك دلالتها عند التطبيق صعباً على بعض المتعلمين أيضاً.
موقفي ضد الاستبعاد، لكن المنطق والفكر وراء تبلور قناعات بتأييد هكذا اقتراح أو معارضته، أهم من الموقف نفسه.
مبدأ وصاية المتعلمين على الأميين أكثر من خطير، وهو نفسه منطق وصاية الدائرة التي تحلقت حول قيادة ثورة يوليو سابقاً بحجة أنهم أدرى بمصلحة الوطن. وهو ما تطور بعد عهد ناصر الذي كان مدفوعاً بنزعة التحديث ومناطحة الغرب الاستعماري، وشد البلاد من قاع التخلف ونشر التعليم بسرعة لضمان قوة المجتمع، لينتهي الأمر بعد تلك الموجة إلى أن "الجهات السيادية" أو المخابرات وأجهزة الأمن القومي، هم الأدرى بمصلحة البلد. ولمن يخامره الشك في ذلك، ويدعو إلى موقف سياسي مغاير يقوم رجال أحد هذه الأجهزة القومية (وهو هنا أبانا الذي في مباحث أمن الدولة ) بكسر عنفوان الشخصية المعارضة وإخضاعها لسلطة الجهات السيادية.
من الحجج التي فاجأتني الاستدلال بأنه من الصعب الثقة في ناخبين صوتوا في استفتاء مارس بـ 77 في المائة لخيار تم تصويره على أنه يدخلهم الجنة وبالتالي يمكنه إصلاح أحوال الدنيا، هؤلاء لا يمكن الثقة في اختيارهم. ورأيي أنه بغض النظر عن عنصرية هذه الحجة، فإن تجربة الشعب المصري مع الصندوق كانت عظيمة بكل المقاييس لأن الكتلة الحرجة التي خرجت عن المسار التقليدي بالتصويت بنعم في الاستفتاءات في تزايد.
خير دليل على ذلك الفارق بين الـ 22 في المائة الذين قالوا لا في استفتاء مارس، والـ 35 في المائة الذين رفضوا دستور الإسلاميين؛ رغم عدم الثقة في أمانة نتائج هذا الاستفتاء الذي تم تحت إشراف الإخوان وبمقاطعة نسبة كبيرة من القضاة، فالمعارضة كانت أكبر من 35 بالمائة، وإلا لما لجأت إلى وسائل مثل "تمرد" واضطرت للعودة إلى الشارع في 30 يونيو لتكشف عن حجمها الحقيقي.
لقد قامت جموع عريضة من الشعب بالتوقيع على استمارات "تمرد"، والنزول يوم 30 يونيو و3 يوليو، لتصحيح مسار سياسي ظن من اختطفوه أنهم أوثقوا الحبل عليه بواسطة شرعية الصندوق. مثل هذا الناخب لا يمكن إهدار تجربته الفريدة والقوية ووأدها بحجة أن بين صفوفه قطاع لا يملك أحد الأدوات المعرفية وهي القراءة والكتابة، مهما بلغت أهمية تلك الأداة.
من الحجج التي سُقتها في النقاش، أن الناخب الذي يقبل ببيع صوته مقابل أن ينقله حزب في أتوبيس لمقر اللجنة الانتخابية، ويعطيه عصير وسندوتش أو أية منافع مادية (سلع تموينية)، هذا الناخب لا يقل احتراماً في نظري عن احترامي لمن ذهب ليبطل صوته ويكتب يسقط حكم العسكر وتجار الدين على بطاقة انتخاب عليها صورة شفيق ومرسي، كلاهما احتقر بطريقته اللعبة التي همشته.
ما الفرق في طريقة تعبير كل من هذين الناخبين عن احتقاره ويأسه من المؤامرة السياسية الدائرة حوله؟ الذي أبطل صوته قام بسب المتآمرين ويعلم أن بطاقة تصويته باطلة، والآخر حصل على منفعة (في الحقيقة هو مارس ابتزاز بنفس طريقة من يسرقون صوته) واستطاع أن يخرج من جيب هؤلاء الفسدة ما لا يخرجونه إلا عند الحاجة، وفي كل الأحوال هو يعلم أن صوته مجرد تحصيل حاصل من وجهة نظره، ووفق ووعيه السياسي بأنه مهمش ومستبعد ومتآمر عليه.
لا أبرر لأحد هنا، لكني ضد تعالي المتعلمين الذين يعتقدون أن إبطالهم للتصويت على طريقتهم الخاصة هي الطريقة الوحيدة للاحتجاج والسخرية السياسية من نظام يغتصب إرادتهم السياسية. من قال لك أن ذلك الشخص البسيط لم يسخر من ضعف هؤلاء المتحكمين في أموره وهم يعطونه منفعة مادية صاغرين من أجل الحصول على صوته؟ هل جربنا وسألنا أحد هؤلاء البسطاء؟ هل تحاورنا معهم؟
في كل الأحوال هذا شعبنا، هذه صورتنا وحقيقتنا؛ وأهم ما في هذه الصورة والحقيقة أن الفاشية المتغلغلة في ثقافتنا المعيشية كلها تزداد خطورة بين المتعلمين؛ الذين يبدون أكثر استعداداً لتأصيل وتقنين "حقوقهم" الفاشية في استبعاد الآخرين من غير المتعلمين.
فكرة منع الأميين من التصويت كان قد طرحها الكاتب علاء الأسواني، للأسف، وهي سقطة كبيرة في تاريخه مهما سيقت مبررات طرحها.
دور المتعلمين هو التواصل مع غير المتعلمين، شرح ما استغلق عليهم، فالأمّي تنقصه قدرة القراءة والكتابة لكن قدراته على التفكير والإبداع اليدوي والحرفي والوعي بمصالحه لا تتأثر أبداً، بل ربما تزداد.
الوعي السياسي بالمصالح موجود لدى الجميع، ما لا يعرفه بعض المتعلمين هو تدريب أنفسهم على الاستماع للبسطاء وفهم طريقتهم في الوعي بمصالحهم. وحجة أن الاستبعاد يقتصر على الدستور دون غيره من الاقتراعات الأخرى غير مقبولة، لأن المواطن الذي نسميه "مواطناً بسيطاً" ليس بهذه البساطة يا سادة، هناك 20 مليون شخص قاطعو الخمس اقتراعات التي تمت عبر استفتائين وغرفتي برلمان ورئاسة. أما من يشارك ويبيع صوته فهو جزء من اللعبة، ووعيه بها عميق بقدر قذارة اللعبة واللاعبين.
ببساطة إن الدعوة إلى إقصاء الشريحة الجماهيرية التي يستعين بها اللاعبون القذرون ليست إلا نتيجة فشل الطبقة السياسية في تحجيم هؤلاء اللاعبين، من خلال فرض أنفسهم وبرامجهم على الساحة، وطمأنة المحتاجين إلى أن مطالبهم يمكن تحقيقها من خلال الانحياز للطبقة السياسية غير القذرة. لماذا فشل السياسيون والنشطاء في إقناع المحتاجين الذين انحازوا لعبدالناصر يوماً ما بأنهم قادرون على بناء دولة العدالة الاجتماعية بطريقة أنجح من الطريقة الناصرية؟
أين النشطاء السياسيين من مخاطبة القطاعات الجماهيرية خارج ميادين الثورة والظهور الإعلامي؟ أين برامج محو الأمية التي تنظمها الأحزاب وتحشد لها المتطوعين؟
في مراحل التحول الديموقراطي تزداد أهمية الإعلام، ولا حجة للمتعلمين في ظل انفتاح المجال الإعلامي أن شخصاً مثل "توفيق عكاشة" يستطيع مخاطبة قطاعات جماهيرية بسيطة، فطريقة حكي المصاطب ليست حكراً عليه وحده، وهناك من لا يتجاوز أسلوبه الإعلامي مستوى المصاطب إلا من حيث بعض الحركات الاستعراضية الشكلية التي تعجب شرائح اجتماعية أعلى، لكن منهج تعاطيها مع الوعي لا يختلف كثيراً.
الثورة نجحت في خلق أدواتها الإعلامية ورصيدها الإعلامي، فالحراك السياسي والإعلامي الذي أفرز قنوات وبرامج وصحف وقبلها صفحات على الإنترنت، ومواهب مثل باسم يوسف، لا يمكن تأطيره أو تحجيمه، فكل محاولات حبسه تؤدي إلى تمدده وظهوره بطريقة إبداعية جديدة، وفكرة "تمرد" وتأثير برنامج باسم يوسف نموذجان جيدان لقدرة هذا الحراك على مفاجأة السلطويين.
لقد نجح الناخب المصري في تجاوز نفسه، وتصحيح خياراته، ولا يمكن لومه على ثقته في تيار الإسلام السياسي وسط فساد الحزب الوطني ونظام مبارك، ووسط غياب مفجع لطبقة سياسية فاعلة، وفي ظل تركيز كبير من شريحة الشباب التي قامت بالحراك السياسي على النشاط في المدن، بل والمناطق الحيوية من بعض المدن دون غيرها.
إن نجاح حملة إسقاط مجلس طنطاوي وطغمة مبارك، ثم نجاح حملة إسقاط الإخوان بعدما انتهجوا نفس السياسات يجب أن يكون مدعاة للثقة بالنفس، والثقة في الوعي الشعبي.
الطفرة التي قام بها وعي الناخب، والحراك الإعلامي الذي أفرز مجموعة من الإعلاميين ارتبطت متابعة الجماهير للثورة ببرامجهم، والتجربة السياسية الخصبة التي يعيشها الشعب منذ 25 يناير، كل ذلك لا يدعو إلى إقصاء أحد، بل إلى استكمال التجربة، وبذل المتعلمين مزيداً من الاهتمام بالتواصل مع غير المتعلمين، وتشجيع الأحزاب على اختراق الشرائح المهمشة والبسيطة، لا هجرها والحجر على إرادتها.