Friday, December 16, 2011

الشهيد

شهيد الأزهر الشيخ عماد عفت- استشهد يوم 16 ديسمبر 2011  

أحمد غريب
إذا عددنا أربع أو خمس مهمات رئيسية للجندي في أي جيش سيكون القتل في مقدمتها؛ مهمة الجندي أن يقتل، ولكي لا يعد قتله جريمة لابد أن يكون القتال ساحة معركة، وأن يكون لفعل القتل شرعية كالدفاع عن الوطن أرضه أو شرفه أو أبنائه وبناته أو مقدراته. غير ذلك فالقتل جريمة وإذا علم الجندي أن الأوامر الصادرة تخالف القانون فعليه رفضها أو التحايل عليها حتى لا يكون شريكاً مع قائده في الجريمة. القائد هنا شريك أصلي.

ثورة يناير حقوقية، ضد التعذيب وضد احتكار السلطة، وضد احتكار المنافع. ثورة يناير لاتزال تمنحنا الشهيد تلو الآخر، بينما تتضاءل صورة بعض ممن يلبسون رداء الدين وقناعه؛ فهم من كنا نظن أنهم يحبون الآخرة بنفس قدر محبة الدنيا، وأنهم حقوقيون حتى النخاع يقولون الحق عندما يجور السلطان، لكنهم خافوا حتى في تقديم بلاغ بصفة "نائب برلماني" ضد أي شخص في السلطة، ولو ذراً للرماد  في العيون.

 ليس المطلوب أن نكون كلنا على نفس القدر من الشجاعة أو التضحية، لكنه "الاعتراف"؛ تلك الشفرة الاجتماعية التي تجعلنا نقول أن فلاناً شهيد، لأننا نشعر بتضحيته، أو بأنه فقد حياته ظلماً وقت أن رفع رأسه وصوته مطالباً بحقوق عامة تعنيه وتعني غيره من أبناء الوطن.
حتى الآن، كل اعتصامات ثورة يناير حقوقية، سواء التي مهدَّت لها، مثل الاعتصامات أمام مجلسي الوزراء والشعب في آخر عامين من حكم مبارك، أو اعتصام الثمانية عشر يوم ذلك الاعتصام الكبير الذي أسقط مبارك، أو تلك الاعتصامات التالية سواء كانت فئوية تنظمها جماعة تتعرض لظلم وإجحاف، أو جموع متنوعة من الشعب تطالب بإصلاح وزاري أو قانوني أو سياسي، أو حقوق مهدورة تتعلق برعاية المصابين وأهالي الشهداء.

ها قد عدنا لكلمة "شهداء". ذلك الختم الاجتماعي الذي يحمل قداسة وتكريماً من أبناء الوطن الأحياء لمن فقد حياته وهو على طريق المطالب بحقوق أبناء الوطن. كم يجرح مسمَّى "شهيد" مَن قتل! كم تخيفه، وتنفي عنه مؤهلات الانتماء للوطن! كم تسحب منه شرعية مشاركة الآخرين نفس الأرض وخيراتها؛ حتى لو أدين وحوكم وسجن، بفرض أن السجن هو العقوبة، لا يُحدِث السجن مفعول التطهير في أعين المجتمع لأنها ليست جريمة عادية، ليست جناية، ثمة مرتبة أخرى لمن يقتل شهيداً ربما لم ينحت المجتمع تسمية لها، لأنه لم يتعايش مجتمع مع مثل هذه الحالة؛ حتى كلمة "خائن" لا تدل لعموميتها.

 أن تقتل ضحية غير أن تقتل شهيداً.

لم أكن أعرف الشيخ الشهيد عماد عفت قبل اليوم، فقط اليوم بعد أن غادرتنا روحه عند الاشتباك بين جنود تابعين للسلطة الحاكمة في مصر والذي تطور إلى عقاب جماعي مؤلم بدنيا ونفسيا، ثم قتل وسحل وتنكيل وإهانة، فقط اليوم استمعت لبعض من أحاديث هذا الأزهري الدينية ومواعظه، رحمه الله، هذا داعية حلو الحديث يبسط الأمور ليزداد حب المستمع في العبادة؛ بالتأكيد "خسارة" أنني لم أعرفه من قبل، وخسارة أنه غادر دنيانا فلن نستمع لأحاديثه، وبالتأكيد خسارة أن نفقد إنساناً وطنياً فدائياً يمنح نفسه قولاً وعملاً لغاية أسمى.

 وبالتأكيد خسارة أن نفقد الأشخاص الذين يجسدون القيم؛ فما أندرهم. رحمه الله لأمثاله الشهادة ثوب. فكم احتار الشيخ عماد بين ارتداء زي الأزهر ليلقي المواعظ أو ارتداء البنطلون الكاجوال في الميدان.. وها هو يرتدي ما يليق به الآن.

في مجتمعنا تمتد جذور عهد الشهداء إلى التاريخ القبطي، ويسير المفهوم رحلة تتشعب فيها معاني ومسببات الشهادة مع التاريخ الإسلامي، دفاعاً عن العقيدة أو الأرض أو...، ثمة ألم نعيشه نحن معاصروا الزمن الحالي، فشهداؤنا تعصرهم القطارات غير المُصانة، المهملة بوضوح لأنها ليست قطارات "الناس اللي فوق". وتغتالهم السفن المهترئة، لأنها ليست ما يستخدمه القادرون، كل ما يرتبط بكفاح الإنسان المصري من أجل عيش كريم يشبه أمثاله من المجتمعات العريقة ذات الثروة البشرية الجيدة والموارد القابلة للتنمية، كل ما يرتبط بكفاح الإنسان المصري لتحسين حياته يوضع على حافة الموت، وما أسهل أن يسقط.

الشهيد لعنة على قاتله. ومجتمع المظلومين الذي عاشه المصريون من خلال علاقة "الجلاد والضحية" منذ معتقلات الخمسينات غير مجتمع الشهداء والمصابين. لا يمكن أن يتعايش القاتل والقتيل معاً تحت السقف نفسه. انتبه يا من تستسهل القتل وتستبيح الروح.

 وحذار يا من تنتوي التلاعب بكلمات الدين فتصنف هذا شهيد وهذا غير ش...؛ من يمنحك مكافأة مقابل تلاعبك ذلك يملك من الشرعية لقتلك أكثر مما حصل عليه منك كتبرير لقتل الشهيد.

يا قاتل الشهيد، لا يمكن أن يمنحك أي جهاز إعلامي مهما كانت مصداقيته حقاً في هذا النوع من القتل. ولم يعد الأمر قابلاً للتستر بتفسير الأمر كقتل خطأ. ليس هناك خطأ فيما يحدث. هناك فقط مفاجأة يتلقاها القاتل أنه لا يحقق أهدافه. هدف القاتل من عملية تخويف جماعي هي أن تنسحب الجموع، فتتوارى جريمته، إنها الطريقة الوحيدة التي يهرب بها من معايشة الجريمة، القضاء التام على خصمه، ليس بقتل الجميع، ولكن بدفعهم إلى نسيان القضية وسحبها من الساحة خوفاً.

ثورة يناير ضد الخوف. وهي ليست برلماناً فقط أو انتخابات يتسلم بعدها مجموعة من الأشخاص مفتاح إدارة مطلقة للبلد ليحكموا شعباً خائفاً.

ثورة يناير ثورة حقوق، وممارسة مستمرة لهذه الحقوق، ولن يحصل أحد على شرعية سياسية بالخوف، لقد مضى هذا الزمن، لم يعد هذا الإنسان الخائف موجوداً، وكلما تم تفريق جموعه احتشد مرة أخرى بطريقة غير التي سبقت. لقد انتهت علاقة الجلاد والضحية التي أصابت المجتمع بفصام في الشخصية عانى منه عقوداً. فكيف يتخيل هؤلاء الحمقى أن يقبل الشعب الذي رفض الجلاد والضحية علاقة القاتل بالشهيد؟

الشهيد علاء عبدالهادي

1 comment:

  1. هي كلمة واحدة :أينما وجد شهداء الحق ولد النصر

    ReplyDelete