Wednesday, July 25, 2012

الرابطة الإخوانية والعمل السياسي

تصوير: محمد زهير

تشعر القوى السياسية غير الإخوانية بخذلان نتيجة سياسات الإخوان، هناك دائماً توقعات أعلى مما يصدر عن الجماعة، توقعات ربما تكون مبالغة من أصحابها أو نوعاً من التدخل في الشأن الخاص لهذه الجماعة، وكأن الآخرين يريدون وصاية عليها! من ناحية هؤلاء الآخرين –المخذولين – لا يتجاوز الأمر في أحيان كثيرة مجرد غموض الطريقة التي يفكر بها الإخوان، ويحددون مصالحهم وفقها. ولهذه الفجوة المزمنة أسباب عديدة، من بينها فكرة الرابطة الإخوانية نفسها.

الإخوان المسلمون رابطة أخوية، تقوم عمليات التأهيل النفسي والعلمي فيها على تحفيز مبدأ الإيثار والتعاون والعمل الجماعي، داخل الرابطة بالأساس، وخارجها بالدرجة الثانية من أجل كسب مزيد من الإخوة، بهدف ضم أغلبية المجتمع لها، ثم الأمة الإسلامية كلها. مما سيؤدي لأن يعيد هذا المجتمع، ومن بعده الأمة، تعريف أهدافه العامة لتصبح شبيهة بمراحل نشر الدعوة كما شهدتها موجات التمدد في المائة عام الأولى من الإسلام وبناء إمبراطورية انطلقت من مدينتي مكة والمدنية المنورة.

هذه تركيبة أشد إنغلاقاً من فكرة ديكتاتورية الحزب الواحد، إنها تهدف إلى تنميط الإنسان نفسه بلون واحد وليس فقط أن يستستلم لتفوق هذا الحزب بعد أن يكون حزباً حاكماً، ويرضى بسياساته، إنها تطلب منه الانتماء للرابطة نفسها والعمل من داخلها لضمان عدم التعرض للأحاسيس السلبية التي لخصها شباب الإخوان بـ "موتوا بغيظكم" حين قيلت في مواقف شعر فيها من هم خارج الرابطة بغرابة في حسابات وتقديرات واختيارات الرابطة الإخوانية، ولم تكن الجملة مقصوداً بها الصدام، ولكن أن تشعروا بالفرق، وتنضموا إلى الرابطة، فهذا التنظيم سيعمل بكفاءة وتعاضد دائماً ليشعركم بهذا الفرق؛ اختصر على نفسك وانضم داخله، وستجد مكسباً إضافياً هو راحة ضميرك لأن كل ما ستفعله يقال لك أنه في خدمة الدعوة إلى الله، وإذا قبله الله سيضاف لميزان حسناتك!

لهذا اختار الإمام المؤسس حسن البنا ألا تكون الجماعة حزباً سياسياً، وكتب عن ذلك وشرح خطورة تورط الجماعة في صراع  وتنافس سياسي لأن ذلك سيعرقل الهدف الأساسي: الانتشار والاحتواء. ولم يكن بالسهل قبول قيادة الجماعة بإنشاء حزب كمخرج من حالة الحظر التي عاشتها عقوداً، فقد كان عليها أن تضمن ألا يؤدي ذلك لنقد من الداخل واعتراض على تغير مكوِّن أساسي في تركيبة الرابطة الإخوانية كما اسسها البنا، لكن حالة الحظر كان شديدة، وبدت لا مخرج قانونياً منها إلا بقبول فكرة الحزبية وما تعنيه من تداول السلطة والمشاركة فيها دون استحواذ أو إقصاء.

كانت هناك مبادرات من مجموعات إخوانية لتأسيس أحزاب وعدم الاستسلام لتعنت الجماعة ومقاومة الفكرة، وقد جسد حزب "الوسط" ومؤسسه المهندس أبوالعلا ماضي هذا التوجه الانفتاحي على أدوات جديدة باعتبارها بديهيات في العصر الحالي كفكرة الأحزاب وتداول السلطة، لكن تأخر الجماعة عن مجاراته في السرعة لم يمنع من فصله منها وعدم الاعتراف بأن موقفه كان سليماً وسباقاً وأن القيادة تأخرت في القرار، وإن ظل انتماءه وتوجهه وتعاونه معها سارياً.
"المحظورة" كان مسمى استثنائياً، وتستحق ممارسات الإخوان للعمل السياسي لعدة عقود تحت هذا المسمى، وتحت ما يترتب عليه من إجراءات تعسفية، تستحق تأليف كتب وحكايات عن غرائبيته، وعن آلامه!

لكن فكرة الحظر نفسها كانت أكبر وأعمق من قرار الحظر القانوني نفسه الذي تولد نتيجة صراع سياسي  بين الإخوان وجمال عبدالناصر على قيادة دفة ثورة يوليو، وقد أخذ الصراع منحى اتهامهم بمحاولة اغتياله، وضياع كامل للثقة التي كانت بين شريكين: واحد قام بالإنقلاب العسكري على السلطة، والثاني ساهم في توفير أرضية شعبية للتغيير وتأمين التغيير من التهمة الدينية بالخروج على طاعة الحاكم ولي الأمر.
 ا
نتهت الشراكة، لكن نهايتها لم تكن سبباً في امتداد الحظر إلى ما بعد الإفراج عن معتقلي الإخوان في عهد السادات وامتدادها طوال عهد مبارك، كان هناك قبول لدى قطاعات من الشعب لفكرة "حظر" الإخوان من العمل السياسي، وتقبل نشاطهم الاجتماعي والدعوي التربوي. أو على الأقل كان هناك ما هو أقل قليلاً من تقبل الحظر؛ التشكك في نوايا لاعب سياسي هدفه الاحتواء ومن ثم ابتلاع النظام بالكامل، اجتماعياً وسياسياً وتنظيمياً، وليس مجرد التنافس على الوصول للسلطة فيه. هذه الفكرة تطل كثيراً منذ اختيار الإخوان لمسار: الانتخابات البرلمانية أولاً، واستعجال إنهاء الثورة وحملات التغيير التي كانت تنطلق من ميدان التحرير.

من جانبها لم تتخذ الجماعة ما يطمئن الآخرين أنها لا تسعى لابتلاع النظام، لم تستطع مثلاً تكوين تحالف قوي يجعلها مقبولة مثلما تم تقبل حزب الوفد بقيادة سعد زغلول من قبل شركاء آخرين في الثورة شكلوا أحزاباً أخرى لم تكن بجماهيرية الوفد. اذكر عبارات المستشارة نهى الزيني التفاؤلية عند انتخاب سعد الكتاتني رئيساً لأول برلمان منتخب بعد ثورة 25 يناير، تفاءلت بأن اسمه سعداً، لكنه بدا قزما مقارنة بسعد الأول (سعد زغلول)، والحقيقة أن الرجل وجماعته لم يتطلعا إلى هذا النوع من القيادة الشعبية باالتحالف مع الآخرين، وقبول الآخر، فالهدف هو ابتلاع النظام بالكامل من قواعده، بتجنيد أفراده ضمن نفس الرابطة الأخوية.


لم يكن رفض "الآخرين" سلوكا جديداً على الرابطة الإخوانية، لكن تم تجديد الرفض عندما استبعد الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح من الهيئة القيادية للإخوان، بعدما احتل موقعاً مميزاً فيها جعله مرشحاً للوصول لمنصب المرشد العام للجماعة، وبعدما أبدى مبادرة غير مسبوقة بالانقتاح والاعتراف بقيمة ووطنية التيارات الليبرالية واليسارية، كان توجهه غير المسبوق منطقياً بعدما تعاظمت قوة الجماعة لدرجة أصبحت معها التنظيم السياسي الأقوى والأكثر فاعلية، وأصبحت فكرة "الحظر" هزلية ممسوخة، لكن جرت انتخابات داخل الإخوان استبدلت كثيراً من التوجهات داخل القيادة، وتم استبعاد أبوالفتوح رغم مؤهلات القيادة الواضحة والمميزة لديه. تم التضحية بالرجل وإمكاناته، وغلق باب الشراكة مع آخر ستكون سببا في عدم مواصلة مسار ابتلاع النظام.

لم يصدر رد فعل من أبوالفتوح وقتها، تقبل المسألة، لكن يبدو أنه لم يهضمها، فقام بنقلة شطرنج ذكية عندما أعلن ترشيح نفسه للرئاسة في وقت مبكر، لينال استبعاداً صريحاً من الجماعة يجعل خروجه بهذا الضجيج نوعاً من التكريم، ويظهره بمظهر سمح مقابل صورة المتعسف التي وسمت قرار قيادة الإخوان الحالية.

كان لمبادرة أبوالفتوح أن تكون اكثر إيجابية لو ظل يعمل من الداخل، ليمثل جناحاً ليبرالياً داخل التنظيم، لكن لم يكن هناك متسع لمثل هذه الصيغة. لا مجال للآخر حتى من الداخل، ومثال أبوالعلا ماضي كان الأسبق. الآخر هنا ليس ليبرالياً بالمعنى الحرفي للكلمة، إنه من حاول إقامة جسور للتعايش مع التيارات الوطنية غير الإسلامية!

في يوليو 2011 كتبت مقالاً ناديت فيه الإخوان بألا يشكلوا حزباً سياسياً واحداً؛ أن يتركوا لأعضائهم حرية الانتماء لأي من الأحزاب على الساحة وتلعب الرابطة الأخوانية دور جماعة الضغط التي تستطيع أن تحقق مطالبها وأهدافها وتفرض على الأحزاب تبنيها، أو تشكيل أكثر من حزب والاعتراف بانتماء حزب الوسط لتوليفة أحزابهم التي ستجسد في هذه الحالة تعددية سياسية، وتطرقت للمشكلة الفكرية الكامنة في مناهجهم والتي أدت لخروج الفكر المتطرف (والتكفيري) من تحت عباءتهم، حتى ولو رفضته الجماعة، فحقيقة أنه ولد من الداخل وخرج من تحت عباءتهم معطى تاريخي لا يمكن إنكاره، كما تطرقت إلى تجارب المخاوف من نمط الابتلاع، ورفضه العنيف كما جرى في الجزائر (1).
ربما يسيطر الخذلان على مشاعر الكثيرين ممن توقعوا أن تكون تجربة الثورة، التي شارك فيها الإخوان تلبية لدعوة من قوى أخرى، عاملاً مساعداً لهذه الرابطة على تطوير حالة الإنغلاق السياسي الذي تعيشه منذ نشأتها، والتي جعلت مؤسسها نفسه يتجنب المشاركة المباشرة في العمل السياسي الحزبي والاكتفاء بلعب دور جماعة الضغط. وقد زادت وتعمقت حالة الانغلاق بعد تجارب صراع سياسي تضمنت وجود جهاز للاغتيالات أسسته الجماعة في عقد الأربعينات ليعمل لحسابها، وتعرضها هي الأخرى لعنف مضاد نتج عنه اغتيال المؤسس واعتقال وتعذيب الجيل التالي له. ثم امتد هذا الانغلاق خلال سنوات الحظر من العمل السياسي، وللأسف لم يستفد من مبادرة أبوالفتوح الانفتاحية، والتي انتهت بتعثر شديد لم يسفر عن وضوح ملامح المبادرة نفسها، حيث تحول الأمر إلى مجرد بحث شخصي منه عن مكان وموقع للعمل السياسي العام!

لقد ألقت الحالة الإخوانية ظلها بشدة على مسار الثورة، في الوقت نفسه لم تظهر من داخل الإخوان أية بوادر تغيير وتطوير لأدواتهم ونظرتهم للمجتمع، رغم ما لمسوه من خوف شديد تمثل في تقبل 47% من الناخبين لشخص مثل أحمد شفيق. لقد قاد التحف الشديد من قبل قيادة الإخوان، وعدم قدرتهم على التحالف مع الآخرين، بمن فيهم المنتمين لهم فكرياً مثل أبوالفتوح، غلى حافة هاوية، كادت فيها الثورة أن تنتهي بنتخاب "أحمد شفيق" انتخاباً ديموقراطياً، بعدما نكث الإخوان وعدهم بعدم ترشيح شخص منهم للرئاسة حينما فرضوا على الآخرين مسار "الانتخابات البرلمانية أولاً"!

 وصولنا إلى حافة الهاوية لم ينته، إننا نسير فعلاً على الحافة، في مسار ضيق من تطوير وإنتاج نظام سياسي، تصر فيه الرابطة الإخوانية على ابتلاع النظام، مما يهدد الهدف من الأساس، ويسوغ التدخل في شئونها: نريد أن نعرف مناهجها التثقيفية بدرجة أهم من معرفة الدورة المالية لمواردها، نريد أن نعرف العقلية التي تقود، والتي تستبعد كل مخالف وتفشل في التحالف حتى مع البرادعي الذي مد يده إليهم للمشاركة في الثورة، ورغم ذلك ظلوا يرفضونه مرة بعد مرة، برفض توليه وزارة إنقاذ وقت أحداث محمد محمود، إلى تجاهل أطروحاته الخاصة بمحتوى الدستور الذي نتطلع لكتابته!

أليست نتائج الانتخابات كفيلة بمساءلة مشروع "ابتلاع النظام"؟ أليست جرس إنذار لهؤلاء الذين لا يرون في الآخر سوى شخص "غير ملتزم" دينياً مثلهم، ولو أصبح مثلهم لانتهت أية خلافات معه؟!

أحمد غريب

1- للاطلاع على المقال: