Thursday, September 29, 2011

فن الجماهير.. كلمة السر: منقول

من وسط البلد وقت الاعتصام الكبير بعد 28 يناير 2011- جرافيتي: التنين- تصوير مايا الجويلي

أحمد غريب

الفيضان الإبداعي لثورة 25 يناير أسقط الإعلام الرسمي بالضربة القاضية؛ منذ تصاعد الدعوة للثورة، وانطلاقها، وتتابع فعالياتها في اعتصامات أو حشود أسبوعية، تدافعت التعبيرات والجمل المكتوبة على صفحات الفيسبوك وتويتر، وأفلام اليوتيوب، وتصميمات الجرافيك الخاصة بالكومبيوتر، والرسومات الشعبية التي رسمها ثوار مصر على حيطان كل المدن والقرى أو في ميدان التحرير، وأعادت مواقع التواصل الاجتماعي نشر بعضها كصور فوتوغرافية وإيصالها لكل جمهور الثورة وأنصارها، أو تلك التي انطلقت من الفيسبوك نفسه مباشرة.

من المبدع؟ وكيف يتم هذا التوافق الجمالي على شفرات وسمات جمالية، تجعل من المعنى والقالب الفني مضموناً واحداً متعدد المستويات؟ وكيف أسهم كل أبناء الوطن في هذا الفيضان الإبداعي بهذا القدرالفائق من التناغم والعفوية والسرعة؟ حتى وقت الاختلاف على الاستفتاء بنعم ولا استخدم الطرفان نفس الشفرات ولكن بلونين مختلفين!

كيف أصبحت كلمة "منقول" بمثابة كلمة السر في إعلام وثقافة الثورة اللذين أطاحا إعلام وثقافة السلطة؟ ماذا تشعر وأنت تنقل عبارة مذيلة بكلمة "منقول"؟ هل أصبحت بمثابة هتاف إليكتروني؟ وهل يمكن للنقد الفني رصد تيمات جمالية الآن بعدما أصبح لدينا رصيد كبير أثمرته الموجات الثورية الأولى (حتى التنحي)، والثانية التي تمضي بنا نحو إسقاط بقايا النظام وتأسيس جديد محل؟

كيف نتلمس طريقنا لفهم كل هذه الخطب والأشعار والأهازيج والأغنيات والرسومات التي يفيض بها ميدان التحرير، مركز الفعاليات الثورية، وتردد أصداءه في ميادين وشوارع مصر، وتنتشر عبر البث الإليكتروني مؤسِّسة لعقل حُرٍ بديلٍ لذلك الذي تهاوى؟


يقول الناقد السينمائي أحمد يوسف، وكنت قد وجهت له أسئلة هذا الموضوع من خلال نقطتي الهتاف الإليكتروني "منقول" والبحث النقدي عن تيمة جمالية رابطة بين المنتجات البصرية: (كلا النقطتين اللتين تقترحهما ينبعان من مصدر واحد، ما يحدث الآن تنبأ به روجيه جارودى بشكل ما فى أوائل السبعينيات فى كتابه "البديل"، وكان ذلك نتيجة تأمله لثورة الطلبة فى فرنسا، أضيف له ما ذكره أرنولد هاوزر عن الفرق بين الفن الشعبى والفن الجماهيرى، الأول أنت تعرف من ينتجه لكن قوة البث التكنولوجى تجعله يمضى كالفيضان فى اتجاه واحد، من المنتج إلى قطاع هائل من المستهلكين، وهو يميل إلى خلق مستهلك نمطى يكاد أن يتكرر بالملايين، وهذا ما حدث مع الكاسيت، ثم الفيديو، ثم القنوات الفضائية، أما الفن الفولكلورى فأنت لا تعرف من ينتجه، أو بالأحرى من ينتجه هو من يستهلكه، وكانت التكنولوجيا هذه المرة فى صالحه، من حلال الإنترنيت بشكل خاص هناك الملايين ينتجون صوراً، ومقاطع فيديو، وآراء، ويبثونها، وبعد فترة قصيرة يضيع صاحبها الأصلى وتظهر كلمة "منقول"، ويصبح المستهلك منتجاً جديداً لها، سواء نقلها كما هى أو أضاف إليها أو حذف منها).

ويضيف يوسف: (ببساطة أنت أمام فولكلور يتخلق أمام عينيك فى كل لحظة. إنه نوع من الفن، والممارسة الديموقراطية أيضاً، وليست هناك قوة قادرة على وقف هذا التيار فى اتجاهين، من المنتج إلى المستهلك وبالعكس، وليست هناك قوة قادرة أيضاً على إعادة البث القديم من السلطة إلى المواطن).

إذن كيف تمضي عملية الانتخاب سواء من ناحية الشكل أو المضمون؟ من هو الناقد في هذه العملية؟

الغاية من هذا التساؤل هو فهم هذه الآلة التي أثبتت أنها شديدة الكفاءة، ليس فقط في حشد وتجييش الآراء، ولكن في دقة التعبير عن الموقف السياسي، بالنكتة، وتعليق السطر الواحد الذي يدخل في باب المثل والأمثولة، والأغنية، ومقطع الفيديو القصير سواء كان مونودراما أو شريط من الرسوم المتحركة، وتصميم الجرافيك، والتدوينة التي لا تتجاوز حدود الـ 200 كلمة؟

يقول يوسف: (النتيجة؟ عشرات الآراء، والأعمال الفنية (بالمعنى الواسع للكلمة)، يتجاور فيها اللامع مع التافه، لكن ذلك التجاور هو ما يتيح لها أيضاً فرصة الانتشار والنمو ببساطة، سوف تظهر أعمال وآراء رثة كثيرة، لكن البقاء سوف يكون لأكثرها موهبة، بالمعنى الجماهيرى فى تأثيرها، وربما ضاعت فردية المنتج فى هذه الحالة أو تم نسخها، لكن ذلك يخلق تنويعات عديدة جداً على الفردية، بدلاً من النموذج الذى تريد السلطة أيا كانت أن يسود؛ لأنه الملائم بالنسبة لها لكى تحكمه. سوف يصعب فى الفترة القادمة التحكم فى الناس، لكن على أمل أن يجدوا شكلاً ديموقراطياً حقيقياً لكى يحكموا أنفسهم، ذلك هو رأيى المتواضع جداً، ربما كنت على حق، وربما كنت خاطئاً، الأيام سوف تعلمنى أين الحق وأين الصواب).



الكلام لا صاحبه

تتذكر الفنانة التشكيلية راوية صادق تجربتها مع نقل بعض المقولات ونسبتها إلى شخص قائلها، وتنشط راوية بشكل خاص عبر صفحتها على الفيسبوك في نشر مواد إعلامية وتعبيرات مذيلة بالهتاف "منقول"، ما يجعل صفحتها مرجعاً لتطورات أحداث الثورة: (لست متأكد تماماً من هذه الملحوظة، لكني لاحظت أن الناس كانت تذكر اسم الشخص الذي تنقل كلامه، وأعتقد- والله أعلم - أني ممن اهتموا بذكر كلمة منقول وليس اسم الشخص-باستثناء أن يكون مصدراً إعلامياً- أوأحياناً نوارة نجم، وهو في الأغلب بالنسبة لنوارة لتشجيع الحشد، أما اختياري كتابة منقول فلعدة أسباب: من باب الأمان لصاحب المصدر، من باب الأمانة الصحفية، من باب إن المهم الكلام وليس صاحب الكلام، لإني لاحظت إن البعض يوافق أو يعترض من باب مَنْ قائل هذا الكلام، مثلاً وجدت مقولة الآن على تويتر تعليقاً على تصريح البرادعي عن عدم مشاركته يوم 8 يوليو: "لو كان أحد قيادات الإخوان قاله كان قوِّم الدنيا، بينما مفيش رد الفعل نفسه ضد البرادعي"، وأعتقد إنه على حق للأسف. وأخيراً من باب إنه ليس ضرورياً نشر ما أوافق أو اعترض عليه، وإنما أن يعطي المنشور صورة فيها أكبر قدر من الموضوعية والتفاصيل المختلفة إذا كان يحاول أن يفهم صح".

الحيادية التي تصفها صادق هي جوهر المصداقية التي جعلت من الإعلام الشخصي Personal Media إعلاماً ثورياً جماعياً، وللطرافة فقد جعلت تجربة راوية الغزيرة في نشر مواد منقولة على صفحتها بالفيسبوك وصفحات بعض الجروبات بعض أصدقائها يعلقون وسط موجة من التعليقات المازحة بأنها تستحق"أوسكار أحسن تعبير منقول". لكن ما أشارت الفنانة التشكيلية إليه من تغييب اسم القائل لصالح المعنى والمحتوى إليكترونياً، لا يختلف كثيراً عما فعله الثوار في الميدان منذ خرجوا يوم 25 يناير مغفلين اللافتات والانتماءات الأيديولوجية والحزبية، فلم يقل أحد أنا من 6 إبريل أو ناصري أو إسلامي أو وفدي أو من أنصار أيمن نور أو حزب الوسط، إن هذه  الإشارة تحديداً هي ما تجعلني ألح على السؤال عن تحول كلمة "منقول"  إلى كلمة سر أو شفرة للهتاف في النشاط الثوري على صفحات الفيسبوك وتويتر، لقد أصبح لها دلالة مستقلة بالفعل نحتاج لفهمها، لكن السينمائية صفاء الليثي تلفت الانتباه لزاوية أخرى، فهي ترى تغيير صورة البروفايل على صفحات الفيسبوك مظهراً بصرياً لتعبير "منقول" تحول إلى رسالة وهتاف هو الآخر، ولم يعد مقصوراً على الكلمة.

تقول السينمائية صفاء الليثي: (استبدال الصورة الشخصية بدأ بكلنا خالد سعيد، عندما استبدل كثير من الناس صورة الشهيد خالد سعيد بصورهم، وكأنه شعار حزبى أو علم البلد، إعلان موقف واضح بشكل مختصر وسريع جداً يناسب العصر. رمز لا للطائفية "هلال وصليب" كذلك، فى كل جماعة بشرية تتجاور الرموز ويمكن لكل منا أن يدرك حجم ونوع الاهتمام الآنى في لحظة ما عن طريق صورة البروفيل؛ واحد يصممها وكثيرون ينقلونها، هي نفس فكرة "منقول"،هناك عقل جمعى ولكنه لم ينشأ عن طريق سطوة فرد أو حزب، وإنما اختيار حر. الرغبة فى الانتماء لمجموعة، مثلاً من قالوا "لا" في الاستفتاء، وأحياناً يكتبونها "لع". لذلك يمكن اعتبار هذه الممارسات استكمالاً لـ "منقول" لأننا ننقل رمزاً ما ونضعه كبروفيل، البعض يدعوننا لذلك، وأصبح تقليداً جماعياً سيتحول إلى ثقافة مثل كعك العيد، وزهور عيد الأم).

وتضيف الليثي: (عندما أتصفح الهوم بيج وأجد "ستيتس" حالة اللحظة كما لو أنى كتبتها أنقلها على الفور، أجد أن "عاجبنى" أو "لايك" فقط لا تكفى، صيغة "لا مش عاجبانى وبس" تعبر عن شئ كنت أود أن أقوله، " فى نكتة مصرية احياناً ما تقال كتعليق .." كنت هأقولها " عندما نسمع رأىاً سديداً يعلنه شخص ما. الجملة التى نتداولها "منقول" تشبه الأمثال الشعبية التى لا نعرف مَنْ أول مَنْ قاله. كثيراً ما يكون هناك توارد خواطر يحدث بين الناس واحد منهم يعلن ويعبر ويوافقه آخرون. "منقول" تتحرك مثل الأقوال المأثورة، ولأننا فى عصر يتم فيه تبادل المعلومات على الملأ وتنتشر، نجد من الأمانة أن نكتب بعده "منقول" وأحياناً نكتبها "منقول عن"، غالباً نشعر بضرورة أن نعبر للأصدقاء عن شديد الإعجاب بما كتبوه فننسبه إليهم).


في ذكرى مرور عام على الثورة تم استخدام هذه الصورةة كبروفايل على الفيسبوك
 (الشهيدان: خالد سعيد ومينا دانيال)
تحيلني المشاعر التي تحاول الليثي التقاط موجاتها إلى نص رائع كتبه الأديب هيثم الورداني عن تجربته في اعتصام ميدان التحرير، يرصد فيه سمات واطوار من التحول عكسها الميدان وناسه وهم يتعلمون معنى كلمة ثورة، ولم يخل ما رصده من ملامح أصيلة في ثقافتنا الشعبية، تمازجت مع إرث ممارسات ثورية في بلدان أخرى.

في نصه "ميدان" كتب الورداني في جريدة الأخبار: "أمام مدخل الميدان المُحرّر من ناحية كوبري قصر النيل تربض دبابتان ضخمتان، يجاورهما ثلاثة أو أربعة موتسيكلات توك توك لنقل الداخلين أو الخارجين. المدرعة التي تخترق خطوط الجبهة تقف بسلام جوار وسيلة النقل التي تدور في الأحياء الشعبية، وذلك على مشارف ميدان حداثة المدينة. غرابة المشهد وفانتازيته سترافق من يدخل إلى الميدان، وستظل تمزج بين أماكن وسياقات غير متجانسة حتى يكاد الأمر يختلط عليه. فحواجز التفتيش المحصنة المتتالية التي يتعين على المرء عبورها حتى يصل إلى ساحة الميدان تستدعي أطيافاً من بيروت أثناء الحرب الأهلية، ودقة العمل والتنظيم الذاتي في الميدان بعد أن تبخرت الدولة تستدعي ذكرى كميونة باريس، أما الخيمات المرتجلة من رقائق البلاستيك والعيدان الخشبية، والتي يبيت فيها المعتصمون ليلاً، أو يتمدد جوارها صباحاً رجال ونساء على وجوهم أثر السهاد، فتستدعي أجواء موالد الأرياف التي تقام جوار أضرحة الأولياء. أين القاهرة من كل ذلك؟ لقد انزاحت حدود واقعيتها لتنفتح على أماكن أخرى يختلط فيها الواقعي بالمتخيل".



الوسيط والتمكين

ولكن ماذا عن الجانب البصري؟ ماذا عن رسومات الحائط مثلاً، التي تشكل تفاعلاً بصرياً تقليدياً تربينا عليه نحن المصريون أجيالاً بعد أجيال في كل الأماكن من الأسوار إلى الحمامات العمومية، كيف أصابها المسُّ الثوري؟ وهل نشأ رابط جمالي بين هذه الممارسة القديمة جداً في حياة المصريين وبين "حائط" صفحة الفيسبوك شديد الحداثة؟ هل يمكن أن توحي لنا هذه التصميمات البسيطة لواجهات البروفايل بأول طرف لخيط نفهم منه فن الجماهير في الثورة؟

تقول الفنانة التشكيلية راوية صادق: (لا أوافقك على تعبير "التصميمات البسيطة"،  بل أنا أقرب إلى القول أن شكلها بسيط بسبب هدفها:التعليم والإرشاد. ربما في هذا السياق أفضل الحديث عن السياق العام، والرئيسي الذي حكم أغلب أشكال التعبير البصري خلال الثورة وإلى الآن، وهو حسبما أعتقد موضوع أو مفهوم التمكين. هذه الأعمال تعكس تمكين الناس من وسائلها الخاصة في التعبير، وذلك في أشكال بصرية يتم فيها استخدام تقنيات تبدأ من الأكثر بساطة إلى الأكثر تعقيداً، هذا التمكين انعكس في استخدام الأمكنة العامة التي كان من المحظور استخدامها على الناس حتى لو لجأوا إلى كل الإجراءات البيروقراطية من أجل استخدام أحد حوائط مدرسة أو كوبري مثلاً، أو على أبواب وأسوار الداخلية، فالوسط الذي يضع الناس عليه أعمالهم مقصود ولا يتم اختياره عبثاً، وهو يعكس أيضاً قدرة عالية على المرونة والخيال: مثلا عندما يرسمون على الأرض أو يجمعون رسومات متنوعة كثيرة ويعلقونها على الأشجار أو "بدوبار" ويصنعون منها جدارية. كما أعتقد أن استخدام الناس للجرافيتي، بشكل أساسي، كان مثل إحدى الأدوات التحريضية والنضالية فهو تعبير وتحريض وحرية، وكان هذا نتاج روح إبداعية، استوعبت دروساً فنية استغرق فنانون محترفون، من أجل إبداعها، سنوات).



عندما نأتي لفن الصورة المتحركة لابد أن نستدعي تعبيرات مألوفة مثل "سينما الحي" و"خيال الظل" وحتى "مسرح الشعب"، والأخير  تستحق منصات ميدان التحرير أن تُراجع وتُفهم في ضوئه، لكن ماذا عن فيديو يستعير المشهد الأخير لسقوط نظام هتلر ويركب عليه حواراً يختلف في كل مرة يعاد فيها إنتاج الفيلم مع تطور الحدث السياسي، فقد تم استخدامه للتعبير عن مأزق نظام مبارك بعد انسحاب القوى السياسية من انتخابات مجلس الشعب الأخيرة التي أدارها أحمد عز ببراعة صوب هاوية النظام، ثم مرة أخرى يأتي الفيلم بحوار يرصد حيرة النظام مع انسداد أفق استمراره وقت الاعتصام الأول في التحرير وانتظار التنحي وتنسب فيه جمل حوارية جديدة لشخصيات تمثل "سماح أنور" وموقفها الوحشي الداعي لحرق معتصمي الميدان، ثم يظهر سريعاً بحوارات أخرى أكثر طزاجة تتابع سقوط مبارك وهنا تبرز جمل حوارية أخرى لشخصيات تمثل وزير إعلامه "أنس الفقي" ومأزق مجموعة "آسفين يا ريس". الحقيقة لقد كانت معالجات هذا المقطع الفليمي رائعة، وهي بمثابة مفهوم جديد مبتكر لفنون التقليد تستهدف اليوتيوب وتشحن من قدرته على النشر والانتشار طاقة إبداعية جديدة.

تقول السينمائية صفاء الليثي: (بالنسبة للكليب الذى استعار مشهداً من فيلم هتلر، اللافت أنه ليس نسخة واحدة بل قدم أشخاص مختلفون تنويعات عليه، أحدهم معد برامج وأفلام تسجيلية خريج كلية الإعلام. من المؤكد أن لحظات انهيار النظام وُجِدَت بتفاصيل الصورة فى الجزء المستعار من الفيلم،أما وضع سيناريو وحوار يستبدل المجموعة حول القائد المنهزم فقد استمدوها ممن سموا بعد ذلك، "مجموعة مصطفى محمود". المهازل الإعلامية فى القنوات الرسمية حركت الإبداع الساخر لدى الشباب، سماح أنور استخدمت ببراعة؛ غالباً هذا الفيلم عمل جماعى وكأن الشباب فى فورة الحماس قد أجروا " عصفاً ذهنياً" يشبه التعليقات التى نتعارك للإدلاء بها بعد حضورنا لعرض فيلم جذاب أو ندوة شعرية، الفيلم كان تعبيراً عن الأحداث المتلاحقة التى توالت كهزائم للنظام ، فيلم واقعى أقوى من كل الأفلام استدعى فى ذاكرة الشباب مشهد هتلر فقاموا بدبلجته بالطريقة الطريفة التى أعجبتنا جميعا).
استخدم مشهد آخر من أفلام هتلر لنقد خطاب المشير طنطاوي
بعدما تم استخدامه في تجسيد شخصية مبارك


وتضيف الليثي بخصوص الدبلجة وعلاقتها بالاستعارة وممارسات الفن الجماهيري: (أمر الاستعارات من الفنون الجاهزة قديم جدا قبل الانترنت، المديح النبوى فى الموالد تستخدم فيه ألحان أغانى أم كلثوم، ويستبدلون الكلمات بكلمات فى حب الرسول، هذه الممارسة مستمرة، وسمعت فى برنامج مع يسرى فودة المنشد الصوفى ..التونى نسيت اسمه كاملاً الآن (أعتقد أنها تقصد أحمد التوني) وابنه يستخمون ألحاناً لعبد الوهاب والسنباطى مع كلمات مدح النبى وآل البيت، هم مؤدون ولا يبالغون فى حساب أنفسهم بأنهم مبدعون. حتى فى إسرائيل سخروا من القذافى بوضع كلمات خطبه على لحن أغنية لشاكيرا، على ما أعتقد).

 هذه الممارسات التي تعيد انتاج طرق وعالجات من الثقافة الشعبية، سواء في خيمات الموالد التي رصدها الورداني في نصه الذي راقب فيه تطور الاعتصام، أو في معالجة الفيديوهات، هي تجليات طازجة للإبداع شعبي مغرق في انتمائه. عن ذلك تستدعي الليثي من ذاكرتها: (كنا صغاراً نستبدل كلمات "مصر التى فى خاطرى وفى دمى" بـ "مصر التى بها سمك وجمبرى،أحبها لأكلها يا شيخ على". السخرية من ميديا تلح علينا، أو استخدام قالب ناجح لأننا ببساطة لا نملك الوقت، أو نفس الموهبة. فى حديث مع ابنى طارق أن هذا المشهد - هتلر- استفاد منه المدونون لأنه بلغة غير مفهومة، وغير أنجلوفونية، وتتحمل أن تستبدل بالعربى مع الاحتفاظ بالحالة النفسية للإلقاء، وهو نفس ما يفعله أحمد مكى مع مشاهد أكشن من الهند بسهولة تستبدل وتصبح متطابقة تماماً).

يتطلب إبداع الجماهير في الثورة الكثير الكثير من العمل، وهو عمل قد ينسجم  ويتسق مع نفسه كلما تم بعيداً عن المؤسسات التقليدية، وباستخدام وسائط وأدوات اكثر تحرراً في تقاليد الإنتاج أو ممارسات النشر، إنها ممارسات تجعلنا نكتشف ذواتنا الفردية والجمعية على السواء، أو مثلما قال هيثم الورداني في ختام نصه: (وفي ظهيرة يوم جمعة التنحي خرجنا للمرة الأخيرة من الميدان، إذ قال قائل لم يتبق سوى الذهاب إلى القصر. فأدركنا في الطريق الطويل للمسيرة الصغيرة أن بهجة التمكن من الخروج من الميدان تعادل بهجة دخوله. فقد أصبح مكانا مفتوحا مرة أخرى على الخارج، يذهب إلى المدينة ويسير فيها ولا ينتظر أن تأتي هي إليه لكي تشاهده. فقط عندما خرجنا من الميدان اعتقدنا أننا تعلمنا كلمة ثورة).



للإطلاع على بعض من فيض رسومات الحيطان في شوارع مصر خلال الاسبيع الأولى من الثورة يمكن الدخول على الروابط التالية:







رسومات حائط في مدينة نصر- تصوير مايا الجويلي




سأصطحب معي


أحمد غريب
هل تذكرون تلك الرسائل التي كنا نتبادلها على صفحات الفيسبوك عن ماذا تأخذ معك إلى مظاهرات يوم 25 يناير المرتقبة؟ تلك  الرسائل المشبعة بروح الخفة والأمل ورشاقة العامية؟

الآن ماذا أصطحب بعد 25 يناير وقد فصلتم الزمن بحسم إلى ما قبل وما بعد هذا التاريخ الفاصل؟ وقطعتم ما تلقنَّاه من صور عن تعاقب وجودنا على هذه الأرض مربوطاً بساقية الفرعون وخيمة الخليفة وقصر السلطان!

وحدي منفصلاً عن تلك الجموع التي التقيتها في ذلك العالم التخيلي، الإعلام بأشكاله وخاصة الإنترنت، أتنصت على نبضي في أيام ما بعد الثورة، ما بعد هذا الالتحام الكبير بأشخاص قامت بيني وبينهم جسور قوية من الثقة في ما يحركهم، فأمضي معهم دون أن أعرفهم، أشعر بهم يستجيبون معي لدفقات تحيي في داخلي صوراً تقليدية لمعاني الترابط والوفاء والشعب والوطن، معاني كنت قد انفصلت عنها وسط دوامات الفن الهابط، وسيل الكلمات والصور التي تسيء للبلد.

 ها أنتم تفصلون الزمن إلى ما قبل وبعد تاريخ يناير، وتضعونني في حيرة وأنا أغربل، وأعيد بناء ذاكرتي من جديد، حيرة تبدأ من محاولة إدراك معانى لم تستطع أن تبني لنفسها في ذاكرتي اللغوية سوى ظلال من الشك، معانى لم أمارس وعيي بها إلا مسلوباً من القدرة على تجسيدها. ماذا أصطحب إذن؟

سآخذ معي صورة لأبي وهو يصوِّت لأول مرة في حياته، صورته في السبعين منحت صوته وهو يبلغني "أنا قلت لأ، علشان انتم محتاجين دستور جديد، أنا كبرت خلاص، لكن انتم وولادكم تستحقوا عيشة جديدة" حيوية وتواصلاً جديداً مع فكرة الأب، تواصل لأول مرة يتم في فضاء الحياة العامة بين أب موظف وابن ساخط على الحياة في مصر، مهاجر إلى الخارج بجسده ومعلَّق بروحه وأمله في حب هذا البلد. سأركِّب من صورته وصوته مزيجاً يناسب ما اعتادته ذاكرتي الحديثة، التي أدمنت اليوتيوب، وأصبحت تثق في قدرة الإعلام الشخصي أكثر من إعلام المحترفين، سأصنع تاريخاً جديداً لعلاقتي بأبي عن المستقبل.

سأصطحب معي ذلك النص الجميل عن اعتصام الثوار الذي كتبه هيثم الورداني "الخروج من الميدان" وجملته الحلوة في وصف لحظة استقلال المعتصمين بميدان التحرير: "أين القاهرة من كل ذلك؟ لقد انزاحت حدود واقعيتها لتنفتح على أماكن أخرى يختلط فيها الواقعي بالمتخيل. القاهرة أصبحت مكانا شفافا مملوءا بكافة الاحتمالات، أو لعلها تبخرت أيضا فباتت هي طبقة البهجة التي تلف الميدان الآن" سآخذها كصورة من ميدان التحرير الجديد، الذي التقيت فيه هيثم لأول مرة عام 1991، بصحبة وائل رجب وأحمد فاروق، واقتربنا من بعضنا على مقهى وادي النيل في أمسية باردة من يناير، ومضينا معاً خطوات البدايات الأولى لكتابة القصة، وسأتذكر تلك الرغبة العارمة التي كانت لدينا في تسعينات القرن العشرين بأن نكسر حاجز نشر الكتب العنيد، الذي كان لزاماً أن يمر بآلية النشر في هيئات الحكومة، وكيف نجحنا في إصدار كتاب مشترك انضمت إليه أيضاً قصص لنادين شمس وعلاء البربري، دون المرور بمسارات التدجين.

سأصطحب معي صورة لصالة التحرير في جريدة "أخبار الأدب"، لمحمود الورداني الصديق الكبير صاحب كتاب حكايات الشيوعيين والشيوعية في مصر، والحالم ياسر عبدالحافظ وآخرين، وأصلها ببيان حديث يؤيد موقف صحفيي أخبار الأدب في إضرابهم حرصاً على قيمة تلك الجريدة التي حركت مياهاً في بحيرة الأدب المصري يوماً(1). سأستدعي هنا صورتي الشخصية، شاباً مشبعاً بالحلم يقف على عتبة طريق الكتابة مسلحاً بالعفوية والجرأة، لتلتبس أمامي صورة الصحفي والكاتب في تلك الجريدة بعد ما رأيتها من الداخل متناقضة بين نبلاء يعرفون الأدب والحلم، وآخرين يتمددون بفضل امتهان الكلمة واتقان دور حماة السلطان متسترين بدعاوي "مهارات البيزنس" وهي أمور مرسومة لهم سلفاً.

ستعتريني رغبة في قراءة نصوص جديدة لإيمان مرسال، وأحمد يماني، وياسر عبداللطيف، ومصطفى ذكري، ومنتصر القفاش، وعلاء خالد، ومي التلمساني، وهدى حسين، وأحمد أبوخنيجر، وآخرين عرفتهم في حقبة التسعينات، رغبة في استعادة تلك اللذة الشيطانية، لذة طفل منبوذ ينثر الكلمات بعناية على مواضع الهشاشة، فتنتج صورة قوية كواقع لكنها قابلة للسقوط. وسأبحث في مدونات أحمد العايدي ونائل الطوخي عن إيقاع طازج لمطاردة الخوف، وستظل عيني على مدونات شباب الثورة.

سأواصل قراءة كتاب How To Read A Film الذي نصحني الناقد السينمائي أحمد يوسف بقراءته ذات مرة، وستحضرني مقالاته في مجلة "اليسار" التي تذوقت بواسطتها أول نقد سينمائي حقيقي، وسأصطحب معي إيمانه القوي بوجود مكان لوطننا بين الأمم المتقدمة، إيمان يمزج بين الحلم وشريط السينما. سأقلب كتالوج لوحات راوية صادق المفعمة بدهشة البسطاء، حيث يتحول ميدان العتبة إلى تخطيطات وتصميمات تلمس ذلك الجمال الكامن وراء طبقات القبح التي حاصرته. سأشاهد بدهشة فيديو لفاطمة لوتاه ترسم لوحة "غضب النيل"على خلفية هتافات أصوات المتظاهرين الذين خرجوا بالملايين، وسأقرأ مع ميسون صقر القاسمي أشعاراً لوالدها تبشر بالثورة، وسأعيد مرة أخرى قراءة روايتها "ريحانة" مستجلياً بطريقة أخرى معنى إنسان هذه الرواية بين عصرين وعالمين.

سيطوف في ذهني حلم بالاقتراب من عالم السينما، ذكريات مجلة "الفن السابع" التي عرفت فيها محاولة أخرى خارج مجال كتابة القصة، لإنتاج لغة ونظرة مختلفة لشاشة الأحلام، هناك التقيت شخصيات عديدة تعبر من مجال إلى مجال، من لغة إلى أخرى، ومن نسق فكري لآخر. كان هناك وائل عبدالفتاح في البداية، ونادين شمس، وكانت السينمائية صفاء الليثي تعبر إلى عالم النقد والكتابة بانفتاح روحي نادر، تفتح أمام عيني فتحات سحرية لأطل منها على ما وراء الكاميرا.

سأصطحب معي رغبة لم تفتر في قراءة بعض الكتب، بدأتها برواية "أثر النبي" لمحمد أبوزيد حيث تستمتع بشخصيات شباب عفوي يرتجل الحلم والنكات وسط مرارة تقودهم إلى التظاهر والاصطدام بالسلطة. وأعتزم مواصلتها بقراءة "رسائل عبدالحكيم قاسم" التي أعدَّها محمد شعير، و"أبناء الجبلاوي" لإبراهيم فرغلي، و"بروكلين هايتس" لميرال الطحاوي، و"وراء الفردوس" لمنصورة عزالدين، وكتب أخرى كثيرة. وسأحث صديقي سيد محمود على التفكير في نسخة ثالثة مغايرة من كتابه الشيق "كوبري عباس"، نسخة تربط الحركة الطلابية القديمة في النصف الأول من القرن العشرين التي تناولها كتابه بصورتها الرائعة كما تجلت في ثورة 25 يناير ونجحت في استقطاب كل فئات الشعب وليس فقط الحركة العمالية مثلما حدث في عقد الأربعينات، سأحثه على أن ينفتح كتابه على نماذج من اليوتيوب والفيسبوك، مثلما استعان بقصائد من نوعية "احنا التلامذة يا عم حمزة".­­­

  وسأستمتع هذه المرة وأنا أقرأ "الحرافيش" مخططاً بالقلم تحت بعض الأسطر لأشارك أصدقائي على الفيسبوك تلك الجمل الحاسمة التي صاغها نجيب محفوظ عن عالم الحارة الجديد الذي ولد بعد الطاعون على يد عاشور الناجي. سأكتب الفقرة على صفحتي وسأندهش قليلاً عندما تمازحني صديقة بتعليق كتبته: ع عاشور... ع عمرو موسى، سأدرك من المزحة أنني لا أفضل حرف العين في بداية الكلمة، سيكون رائعاً في منتصف كلمة "شعب"، وأن ذاكرتي التي أحاول أن أشكلها كسفينة نوح في هذه اللحظة تزهد في اللعب بالأحرف والكلمات، وتشتاق إلى المعنى.

 سأقلِّب في مكتبتي الصغيرة التي ارتحلت معي إلى بلاد بعيدة، باحثاً عمَّا أصطحبه معي لعبور ذلك الفاصل النفسي بين إنسان ما قبل الثورة وما بعدها، سأتنقل بين الكتب بينما أتابع على الإنترنت مقالات لـ د.صبري حافظ مشبعة بعنفوان مثقف حالم بعالم جديد، في الوقت الذي تنزوي فيه صورة منافسه العتيد مثقف السلطة د.جابر عصفور بعد أن اختار موقفاً يذكرني بقصة ابن نوح الذي ظن جبل الوزارة حامياً ورفض ركوب سفينة الثورة. هنا ستهوي تماماً من ذاكرتي دعاوى أمثال عصفور عن المثقف الذي يعمل من داخل السلطة بمنهج إصلاحي، ها هي سلطتكم البائسة تسقط بثورة شعبية، وتنكشف أقنعة عبودية المال والشهرة الزائفة لمن هم أرباع مواهب تتدثر بالمناصب، سيشعرني سقوط هؤلاء براحة من تخلص من ورم لم يكن علاجه بمقدور أحد، ولم يكن متاح سوى الهروب منه. سأتذكر الروائي صنع الله إبراهيم، خاصة زيارتي الأولى له في بيته البسيط مع أحمد فاروق، وكيف رأينا فيه نموذجاً للنأي عن السلطة. وسأتذكر كثيرين تأثرت مكانتهم الإبداعية وتأثر إنتاجهم سلباً أو إيجاباً من غواية المؤسسة الثقافية الرسمية، فسادها على وجه التحديد.

 سأواصل تقليب كتبي الأثيرة ومعها صفحات الذاكرة: "طوق الحمامة" لابن حزم أول كتاب أقرأه عن معنى الحب، كم كنت معتزاً به ككتاب أرى منه ذلك البئر العميق الذي يسمى "هوية"، أراه ولا أخافه لأول مرة، بعدما ظل يقذفني بصور تسلط السلطان وحلم المستبد العادل الذي لا يأتي. وستصل يداي إلى كتاب أمين معلوف "الحروب الصليبية كما رآها العرب" لتقفز صورة وقف معلوف نفسه محتاراً أمامها، صورة أطفال عرب يُسلَقون في القدر من قبل كتائب أوروبيين متطرفين شاركوا ضمن الحروب، ارتبك معلوف من وحشية الصورة فذكر مصدرها على الفور، مشيراً إلى أنها رغم مبالغاتها وردت في ثلاث مصادر تاريخية. ستظل ارتباكات العلاقة بين الشرق والغرب تعيد طرح أسئلة عديدة حول الهوية واستخدام التاريخ، والحرية والتطرف وحداثة الدولة، صور وأسئلة ربما يعقدها استدعاء تلك الصورة من كتاب معلوف، لكن ألا نرى في فلسطين صوراً تُشعرنا بنفس الألم وأكثر؟

سأصطحب معي صورة من قصيدة لا أذكر شاعرها، تصف روعة نداء بائع الألبان في الصباح الباكر، والواصف مناضل سياسي من حقبة خمسينات القرن العشرين يستعد للإعدام!

 سأصطحب معي هذه الصورة مطالباً بإعادة كتابة تاريخنا الذي يدرسه الأبناء في المدارس لرد الاعتبار لكثيرين أغفلتهم الكتب المزيفة، ولا نَعِم وزير للثقافة أو للتعليم أو للمجلس الأعلى للثقافة بمنصبه ما لم يعمل كل منهم على إعادة تصحيح التاريخ الرسمي في مصر.

هامش:
1- انتهى إضراب الصحفيين بجريدة "أخبار الأدب" بتولي الكاتبة عبلة الرويني رئاسة التحرير

كُتب بتاريخ: 30-03-2011

Wednesday, September 28, 2011


خيوط على دوائر- قصص- 1995- دار شرقيات بالقاهرة



العنفوان- قصص- 1998- دار نوارة بالقاهرة

Tuesday, September 27, 2011

"المشير"


للَّقب دلالة درامية في الوجدان المصري، لاشك، فهو وضعية استثنائية تقترب بصاحبها كثيراً جداً من السلطة، دون أن تمنحها له كاملة، وضعية ترتفع بصاحبها فوق مستوى أي توتر وظيفي أو شعور بالضغط من سلطة أعلى، إنه لقب يحرر صاحبه من ذلك الخضوع الذي يشرخ الشخصية في ظل أي نظام تسلطي، "المشير" في هذا النوع من الأنظمة التي تحاول الشعوب العربية الآن كبح ظلمها يقف على مسافة قريبة للغاية من الرئيس مصدر السلطة؛ حتى يبدو للناظرين من بعيد من عامة الشعب كأنهما يقفان معاً على نفس الخط والمكانة، ومن هنا تأتي الدراما أو النقص الذي يخلق التوتر؛ فمن بعض الزوايا وفي بعض الفترات السياسية يعادل المشير الرئيس في السلطة فعلاً، لكنه لا يمنحها!

المشير أبو غزالة مثلاً حمى سلطة مبارك بعدما تمردت عصا الأمن الغليظة على قيادتها عام 1986، لكنه لم يستطع احتكار السلطة أو إبقاء منصبه في حوزته، وكان بلوغه تلك الذروة الدرامية إيذاناً بأفول مرحلته. نفس الشيء يعاني منه المشير طنطاوي، لقد أمضى عقدين في المنصب كغطاء تقليدي يحجب صعود أية شخصة عسكرية تقود حركة تصحيح للدور السياسي للجيش الذي هوى به مبارك، ولأن دوره كان ساكناً (استاتيك) تمكن من البقاء في المنصب بالقدر الذي استمر فيه مبارك على رأس السلطة، أما وقد انقلب مصدر السلطة ليصبح الشعب، وطعن هو في السن بما يخل بسمات قائد لمرحلة تحول ثورية (ديناميك)، لم يعد أمام الدور الذي يتقنه كحاجب إلا كبح المؤسسة العسكرية نفسها عن الفوران والمضي مع التغيير الشعبي الذي يتدافع بقوة نحو فكرة المشاركة.

دراما طنطاوي، المشير، تأتي من أنه لا يستطيع السماح لوزير إعلامه أسامة هيكل بنشر صورته مرتدياً سترة غير العسكرية إلا مصحوباً بخبر التقاعد، ومن هنا ينبع التوتر والنقص الذي يؤخر انتقال العملية السياسية صوب "المشاركة"، ويولِّد كثيراً من الحبكات الدرامية الفرعية التي تعيق الانتقال (كالانفلات الأمني)، أو تقوم بتفريغه من مضمون المشاركة (محاولات إعادة الحزب الوطني سواء لمنصة الحوار الوطني أو للبرلمان)، أو تسلب منه الشرعية (كان لافتا أن الإخوان أنفسهم هم من لاحظوا إمكانية الطعن الدستوري في شرعية البرلمان المقبل نتيجة تعدد الأنماط الانتخابية في قانون الانتخاب).

قد يختلف البعض مع هذه القراءة السياسية، ومعهم حق وكل الاحترام، لذا أرتكن إلى التاريخ الدرامي انطلاقاً لفهم اللقب، والدور، في محاولة لوصف مأزق المؤسسة العسكرية المصرية الذي يعسر عملية انتقالها صوب عصر المشاركة السياسية، رغم الثقة الشعبية لكبرى التي عهدت للجيش إدارة هذه المهمة كطرف محايد وقادر على المبادرة والتفعيل، لكن المجلس العسكري بوضعه الحالي انقلب على الهدف أو زاغ عنه في أقل تقدير - ربما دون أن يعي بمخاطر ذلك- في أشهر قليلة نتيجة تناقض جوهري في طبيعة دور المشير. عرفت دولة ما بعد الاستعمار العربية - التي تتساقط الآن - نمطين للحكم: العسكري والوراثي، والأخير كان امتداداً لملكيات تشكلت في القرن التاسع عشر تحت وصاية الاحتلال، واستفادت منه ومن عدم نمو القدرات الشعبية على المشاركة السياسية ولو بالنقد وحرية التعبير، فكانت علاقتها بالألقاب العسكرية نوعاً من الأناقة حصرية على أبناء العائلة المالكة. لكن لدى جيرانهم الذين أسقطوا الملوك الذين يحكمون تحت الوصاية كانت الحاجة جوهرية لارتداء سمات القادة الأوروبيين لإيهام الشعوب بأنها عبرت بوابة التحديث. وكان ميلاد دولة ما بعد الاستعمار على يد عسكريين محليين مدعاة لإضفاء هالة السلطة عبر استعارة ألقاب حظيت برنين خاص في منتصف القرن العشرين، حيث أفرزت الحرب العالمية الثانية حفنة من المشاهير يحمل كل منهم لقب "فيلد مارشال" أو "مشير".

يُمنَح اللقب لعدة أسباب، من بينها أن يتولى القائد العسكري منصباُ قانونياً فيكون حكماً أو قاضياً، أو منصباً مدنياً فيكون بمثابة حاكم لمستعمرة مثلاً، أو أن يكون قائد جبهة في الحرب خاضها وانتصر، وهذه الفئة هي الأشهر في كتب التاريخ والأكثر تمثيلاً للقب، مثل مونتجمري أو رومل، لكن في مصر معظم من نالوا لقب مشير حازوه لأسباب سياسية هي في الأغلب علاقة ولاء وتكامل بين قائد الجيش والرئيس، وليتم استيفائهم الشرط العسكري المهني لنيل اللقب دون خوض حرب يقوم هذا القائد بإعداد وتخطيط وقيادة مناورات واسعة متعددة الجبهات، مثل المشير طنطاوي الذي يرأس المجلس العسكري القائم بالسلطة الانتقالية في مصر.

فقط المشير أحمد إسماعيل والمشير الجمسي استوفيا شرط القيادة والانتصار، ولكن القدر الدرامي أتى أحمد إسماعيل من جهة أخرى غير السياسة هي المرض في العام التالي للحرب؛ بعد بضعة شهور فقط من معركة أكتوبر المجيدة، وكان الجمسي أكثرهم كياسة واتساقاً مع النفس حيث اكتفى بالنصر العسكري ذروة إشباع للذات، واختار الاعتزال بديلاً عن أي طموح سياسي يفتح بوابات القلق ودراما الصراع على السلطة دون ضمان حقيقي لحيازتها. كان هناك، في مصر، المشير عامر والمشير أحمد بدوي (حاز اللقب عقب وفاته في حادث طائرة تحوم حوله شكوك) والمشير أبوغزالة، ثم المشير طنطاوي. وكان هناك أيضاً "فيلد مارشال" حقيقي هو الفريق سعد الدين الشاذلي لم ينل اللقب لاختلافه المهني مع الرئيس السادات، وكان موقفه ورد السادات عليه بمثابة توضيح كاف وشاف لنعرف مقتضيات ذلك اللقب الساحر "مشير" في مصر.

لكل من هذه الأسماء اللامعة في تاريخ مصر المعاصر قصة اقتراب درامي من السلطة، اقتراب يحمل في طياته عوامل الخروج عن المسار المؤدي لكرسي الحكم رغم المضي نحوه. المشير دائماً حامٍ للسلطة، مكمل لها ومتكامل معها إلى حد الشراكة، لكنه ليس حائزاً لها أو مانحاً كالرئيس، حتى وهي تأتي "شبه كاملة" لمشير كرئيس المجلس العسكري الحالي مثلاً (حسين طنطاوي سليمان) لا يستطيع الرجل خلع بزته العسكرية وارتداء واحدة مدنية إلا بصفة عسكري على المعاش. ببساطة لا معنى يقنع أبسط مواطن مصري ممن يسلمون أمورهم للغيب ولطبائع الحياة كما هي، لا معنى بالنسبة له في أن يطيح الشباب المصري برئيس في الثمانينات من عمره ليأتي مكانه آخر تخطى السادسة والسبعين! فما بالك بالضباط من فئة عقيد نزولاً!

بالطبع هنالك عوامل عديدة لعدم استيفاء أي عسكري في مشهد السلطة الحالي شرعية تمكنه من تمديد السلطة العسكرية وتحويلها من انتقالية إلى دائمة، أسباب تتعلق بالحاجة الماسة داخلياً للشعور بالتغيير صوب المشاركة تفوق - حتى الآن- الحاجة إلى الاستقرار مهما تم تثمين قيمة الاستقرار، وتلقى هذه الحاجة اعترافاً دولياً وترحيبا "شعبياً" كبيراً من الجوار الإقليمي.

لكنه ذلك اللقب "مشير" هو ما يمنع الضباط الأقل رتبة في المجلس العسكري من عبور طريق آمن بين مكانهم الحالي كأعضاء في سلطة حكم انتقالي صوب ثكنات الجيش محتفظين بزيهم ومنصبهم العسكري. "المشير" لا يمكنه عبور نفس الطريق؛ حتماً سيأخذ مساراً مختلفاً غير زملائه، وتلك هي العقبة السياسية التي يناور "المجلس" بسببها منذ تولَّى السلطة ولم ينجز الغاية من المناورات حتى الآن، لأنه (مشير المجلس) يصر على إعادة علاقة الغالب والمغلوب بين السلطة والشعب، لذا يواظب منذ امتلك زمام السلطة على إعادة الأساليب الأمنية الاستثنائية، سواء بتسهيل عمل البلطجية من وراء الستار، أو بتعميم المحاكم الإستثنائية العسكرية لآلاف المدنيين، لكنه تجاوز فترة الأشهر الست التي ألزم بها نفسه دون أن يصل إلى نتيجة حاسمة، حيث ظل الأمر سجال فانفضح للجميع، خاصة أن ممارسة أساليب القمع وسياسات تفتيت وحدة الصف الشعبي بدأت تخصم من رصيد الثقة في دور المؤسسة العسكرية نفسها.

لم يكن لقب "المشير" ليذهب إلى رئيس المجلس الحالي، ويستمر بصاحبه أكثر من عشرين سنة على رأس المؤسسة العسكرية، إلا من خلال وضعية التكامل مع سلطة الرئيس المخلوع حسني مبارك. ولم يكن إبقاء مبارك على ضابط تجاوز السن المنطقية لقائد عسكري إلا ستراً لنفس العيب في شرعية مبارك - الطاعن في السن- أمام بقية الضباط. وأود هنا أن أوضح أنني لست ممن ينكرون قيمة الخبرة ودورها، لكني ممن يقتنعون بأن منصب الخبير أو الاستشاري كفيل بمد المؤسسات بخبرات المميزين ممن شاخ بهم العمر ولديهم قدرة على العطاء.

لا نعرف معلومات عن مدى تململ أعضاء المجلس من عبء حمل "المشير" على أكتافهم لمسافة أخرى طال انتظار الشارع لها، مسافة التحول من حكم انتقالي إلى سلطة شرعية منتخبة، وعودتهم إلى الدور العسكري البحت الذي لا يتوقع أن تطلب منهم أية سلطة جديدة التخلي عنه، ولو في الأعوام الأولى من عمر هذه السلطة الناشئة. بالتأكيد هم يعلمون أن رحلة تحول كهذه لن يصحبهم فيها رئيس المجلس "المشير"؛ ثمة محطة للفراق فهناك تقاعد ما بانتظار المشير يتطلب سيناريو يطمئنه هو، ومن ناحيتهم لا يضيف تعقيدات جديدة لفكرة الحصانة التي لا يزال يتمتع بها قادة الجيش، يكفيهم ظهور كبير الضباط "حسني مبارك" في قفص الاتهام أمام أعين الشعب، حتى لو نال براءة مزيفة في محكمة هزلية، ثمة شرخ غير قابل للترميم تعرضت له صورة الضابط مصدر السلطة.

لكن تأخر انطلاق الرحلة السياسية يفاقم الغضب ويعقد من أية صفقة سياسية منتظرة، فقد كانت أقوى صيغ الصفقات ما حاولت بعض البواق الإعلامية ترديده عن دور المجلس والمؤسسة العسكرية في حماية "مدنية" الدولة، ما يستدعي مشاركتها في السلطة، وكان المفهوم متناقضا غلى حد القهقهة، خاصة عندما يطلب المجلس مثلا من المؤيدين السياسيين له كالإسلاميين تأيد هكذا فكرة، بينما يقوم بضرب القوى المدنية في العباسية ومحاكمة ناشطيها امام محاكم عسكرية. هذه الفكرة الكبرى الوحيدة، "الفشنك"، التي تفتقت عنها المؤسسة العسكرية بتركيبتها المتناقضة الحالية تحث الجميع على التقليب في الأوراق بحثاً عن خريطة سياسية حقيقية غير خريطة الطريق التي تضمنها الإعلان الدستوري التي لم يستطع أصحابها المضي فيها حتى الآن فسقط بانقضاء مهلة الأشهر الستة.

في صفحة التعريف بشخص الفريق سامي عنان على موسوعة الوكيبيديا ترد إشارة إلى أنه وقت انفجار الشارع المصري في 25 يناير الماضي كان في زيارة إلى واشنطن، وكان مما طرح ونوقش وقتها مع الضابط المصري الرفيع إمكانية قيامه بدور حاسم في إسقاط مبارك وإجراء تغييرات لتهدئة الشارع، وحيازة السلطة في شكلها الجديد بدعم أمريكي، لكن الغريب أن التحفظ الذي تردد في أروقة واشنطن هو أن السلطة في هكذا حالة ستكون في يد ضابط "سوفيتي" التعليم أيضاً!

الحقيقة أن ذلك الوصف (سوفيتي التعليم) باغتني عندما قرأته لأول مرة، لكنه في الأغلب دلالة على ضيق واشنطن من "عقلية" إدارية سادت مصر وتميزت بعدم قدرتها على المشاركة في السلطة إلا من خلال صيغة الغالب للمغلوب التي جعلت من التعددية السياسية في عهد ي السادات ومبارك مجرد ديكور. تعنت هذه العقلية وعدم نجاحها في تلبية قدر معقول من آمال الشعب بات مهدداً لمصر نفسها وللإقليم، وهذا في تقديري ما عناه التحفظ الأمريكي على سامي عنان أكثر من كونه شكاً في تعاون الضابط الرفيع وزملائه معها. وعموماً تجاوزت تطورات الثورة والتفاعلات التي أدت لسقوط مبارك، خاصة معركة الجمل، وصولاً إلى محاكمته، إمكانية إحياء هذا الاقتراح مع عنان أو غيره، وهو ما يضع مجموعة ضباط المجلس في موضع تفاوض واحد بحثاً عن خروج آمن من موقعهم السياسي الحالي.

إذن لماذا لا يستثمر عنان ورفاقه القدر المتوفر من ثقة أمريكية، مضافاً إليه قبول محلي لدور الجيش في نقل السلطة، بإزاحة معتدلة للمشير لا تلقيه بعيداً حيث قفص مبارك، لكنها تكفي لعبور الطريق الآمن صوب الثكنات؟ إذا كانت السمة المميزة للفريق عنان وسط زملائه هي "سوفيتية التعليم"، حيث قلت الفروق كثيراً بين ضباط المؤسسة العسكرية الكبار نتيجة تصعيدهم وفقاً لمبادئ الولاء ومحدودية الثقافة وانعدام الرؤية السياسية أو الأيديولوجيا، فإن السمة المميزة للمشير طنطاوي أو التجربة الوحيدة التي اكتسبها خارج السياق التقليدي للترقي في الجيش هي ابتعاثه إلى باكستان كملحق عسكري في السفارة المصرية، وهو منصب مكنه من مراقبة صراعين سياسيين عنيفين داخل كل من أفغانستان وباكستان، والتأثر بالمؤسسة العسكرية الباكستانية التي تدير للأسف الصراع السياسي بمنطق المواجهات والتفتيت لا بمنطق التنافس أو تنمية المجال السياسي العام.

لماذا لم يرسل مبارك المشير إلى تركيا؟ وهل كان سيمنحه لقباً يضعه ضابطاً أعلى على كل المؤسسة الأمنية؟ لماذا يصر المشير على إعادة نفس أداء الغالب والمغلوب للمؤسسة الأمنية، وبصيغة ضرب وإهانة أعداد كبيرة من المدنيين بشكل علني؟ كيف أقنع نفسه بأن نشر الخوف لدى طرف لا يرتد شعوراً بالرعب على الطرف الآخر؟ كيف أوهم نفسه أن المؤسسة الأمنية ستظل "الشرطة" فقط في وعي الشعب؟ وكيف غاب عن أعضاء المجلس الآخرين أنهم يخوضون معركة لا تخصهم؟

ينبئ الاحتقان السياسي بشلل، حتى مع إجراء انتخابات برلمانية، فقد أدركت القوى السياسية أنها وسيلة أخرى للإنهاك والتفتيت، والبرلمان ليس له قوة إنتاج السلطة، ولا نعرف ما هي نوعية الرقابة التي يمكن أن يقوم بها على الحكومة، وما سلطة هذه الحكومة أصلاً؟
لقد بلغت شرعية عهد المناورات أو عهد الأداء الباكستاني من عمر السلطة الانتقالية نهايتها، وهو أمر يحسن بأعضاء المجلس العسكري أن يفهموه، لأن شرعيتهم تنبع من الشارع، ومن تلبيتهم لمطالب التحول السياسي وليس من قدرة على المناورة لإبقاء الوضع على ما هو عليه. الشروخ المقبلة في مؤسسة الجيش لن يمكن احتواءها كما حدث مع اعتصامي 9 مارس وإبريل، وفي حركات التململ المنتشرة داخل الجيش ما يكفي لفهم عدم تشابه الجيش المصري مع نظيره الباكستاني الذي لم نسمع عن شروخ فيه، مصر تختلف، وشرعيتكم أيا تختلف.

أحمد غريب
نشرت بتاريخ 8 سبتمبر 2011

في موقع الحوار المتمدن




إضافة:
يوم 27 سبتمبر، بعد أسبوعين من نشر المقال، عرض التلفزيون المصري أول ظهور بالبدلة المدنية للمشير طنطاوي وهو في وسط مدينة القاهرة، وكانت الصورة مصحوبة بتعليق من صحفي النظام جمال زايدة الذي قال إن المشير بالبدلة المدنية يصلح لقياة مصر، وكان الظهور مدعاة لحملة سخرية كبير من التعليق والفكرة التي أراد التلفزيون الحكومي تمريرها، وتضمنت الحملة نكات لا حصر لها على الفيسبوك وتويتر، وأغنيات مصحوبة بكليبات على اليوتيوب، إلى جانب كتابات البلوج، وبالطبع بلغت الحملة التي انطلقت من مواقع التواصل الاجتماعي، بلغت وسائل الإعلام العامة من مواقع إخبارية وصفحات للرأي مطبوعة وإليكترونية وشاشات محطات التلفزيون الخاصة.

وكان مقال "المشير" الذي انشر على موقع الحوار المتمدن وتداوله عديدون على صفحات الفيسبوك وتويتر أول من أشار إلى صعوبة عبور المشير هذه فالعتبة حيث ورد التالي في الفقرة الثالثة: "دراما طنطاوي، المشير، تأتي من أنه لا يستطيع السماح لوزير إعلامه أسامة هيكل بنشر صورته مرتدياً سترة غير العسكرية إلا مصحوباً بخبر التقاعد، ومن هنا ينبع التوتر والنقص الذي يؤخر انتقال العملية السياسية صوب "المشاركة"، ويولِّد كثيراً من الحبكات الدرامية الفرعية التي تعيق الانتقال (كالانفلات الأمني)، أو تقوم بتفريغه من مضمون المشاركة"
لينك المقال على موقع الحوار المتمدن:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=274711

عن فقه الأولويات

أحمد غريب

بداية تفكيري في هذا المقال رغبة في الكتابة عن الكاتب الصحفي فهمي هويدي، أو تلك الفترة عندما كنت طالباً في كلية الإعلام أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، حيث طُلب منا في الكلية أن نصنع أرشيفنا الخاص لكاتب أو أكثر، ولموضوع أو أكثر، نتابع تطوراته ليكون الواحد منا إعلامياً معنياً بهذا الشأن فاهماً له. وقد وجدت في فهمي هويدي، ضمن مجموعة من الأسماء منها لطفي الخولي موضع إشكالية أردت متابعتها: أزمة السياسة مع التزام الأيديولوجيات. وهي أزمة عكسها شيوع استخدام تعبير "فقه الأولويات" مؤخراً من قبل مؤيدين للتيار الإسلامي لتبرير اختيارات سياسية لجماعة منهم، أو فصيل داخل هذه الجماعة؛ دون إدراك للتناقض الكبير بين العاطفة الدينية المرتبطة بكلمة "فقه" وما تقتضيه من "ولاء" و"انصياع"، وبين المرونة القصوى لكلمة "أولويات". ربما وقتها، عندما استهوتني تناقضات السياسة والأيديولوجيا، كنت اجتاز عتبة المراهقة التي أمضيتها ككثير من الشباب المصري قريباً من نشاط الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات، التي عاشت صعوداً كبيراً في الثمانينات، وإن زاد اقترابي إلى حد أكثر من مرور عابر. وقتها، كان لمقال فهمي هويدي يوم الثلاثاء في الأهرام وقع متميز، فقد مثل صوتاً إسلامياً جديداً وإصلاحياً يتكلم عن مفهوم المواطنة من زاوية إسلامية وينتصر له مقابل الذمية، ويطلِع قراءه على تجارب في التحديث لحكومات إسلامية أو مشاريع حكومات تحاول الإفادة من غطاء ديني في إصلاح شئون الدولة، كان أكثرها تشدداً في إيران يتمثل في الإصلاحي محمد خاتمي، وأكثرها نجاحاً في تسريع التنمية ماليزيا وإندونيسيا، بينما مثل صعود الإسلاميين عبر آليات تعزيز الديموقراطية في تركيا (من المحليات إلى البرلمان) تجربة مثيرة للإعجاب لمن يعيشون في دول عربية تحت طبقات من التسلط العسكري والعائلي والطائفي تجثم على الصدور والعقل. كان القاموس الذي يستعمله هويدي ملفتاً، مصطلحات وتعابير جذابة كونها تستخدم مفردات دينية أو تراثية في وصف شئون معاصرة، ولم يكن هذا القاموس مألوفاً في نظر كثيرين، إذ كانت تلك التعابير بعيدة عن مجريات الأحداث في القرون الأخيرة، لكن رشاقة الاستخدام في بعض الأحيان من ناحية، وصعود حكومات إصلاحية إسلامية خارج العالم العربي كانت كلها تدفع إلى السؤال: ولمَ لا؟ في مقاله مثلاً قرأتُ عن تلك الدعوة المخاتلة للملك حسين، ملك الأردن السابق، والتي نادى فيها بـ "التقدم إلى الإسلام" مقابل دعاوي "الرجوع" و"العودة" التي شاعت في الخطاب الديني، ورغم أن أحداً لم يثق أبداً في الملك حسين لارتبط اسمه دائماً بالعمالة في أحط صورها: التجسس لصالح إسرائيل، إلا أن هويدي تلقف الدعوة بحماس كونها صياغة مثالية لما مثله صعود التيار الإسلامي وقتها في دول نامية تمتعت بمؤهلات مكنتها من طرق أبواب التحديث، وبينما كان الملك حسين يتيح للإسلاميين مشاركة محدودة في برلمانه كانت اللافتة المصرية لصعود نفس التيار هي "الإسلام هو الحل"، وقد لقي هذا الشعار نجاحاً، وأثار جدلاً أيضاً كونه بلا محتوى سياسي؛ اللهم إلا استبدال العفة بفساد مثله في الحزب الوطني وقتها يوسف والي (تلاه أحمد عز لمن لم يشهد هذه الفترة).

الإسلاميون في الحكم
سقوط التجربة الديموقراطية في الجزئر مطلع التسعينات منح الخطاب الإصلاحي للإسلاميين فرصة لعب دور الضحية، وهو دور تتوفر لمساندته أدبيات كثيرة يتم تدريسها داخل أوساط الجماعات الإسلامية المختلفة لصياغة هوية مختلفة لأعضائها عن بقية المحيط الاجتماعي الذي يعيشون فيه، فلكي تبرر الاختلاف والمعاناة لابد أن تمنح قيمة إنسانية عليا لمن تلقنه تعاليمك، وهي قيمة أن تكون الضحية بينما تواصل بمضاء ممارسة الدعوة، ويستدعي ذلك إرثاً ثقافياً عريقاً في التعاطف مع المظلوم سواء الذي يتم الاستيلاء على حقوقه أو الذي يتعرض للتعذيب لصرفه عن غايته. يصل خطاب الضحية إلى أعلى مراتبه تجرداً في تفسير سيد قطب لسورة البروج، وهو تفسير أعاد صياغته مرة أخرى تحت عنوان "استعلاء الإيمان" في كتابه الأخير والمثير للجدل "معالم في الطريق"، حيث يصل الأمر إلى الاحتفاء الكامل والمطلق بكون المؤمن/ الداعية ضحية دون أي وعد بانتصار مستقبلي يأتي بعد تضحية كاملة تقدمها الجماعة المؤمنة المجاهدة، وقد كانت تلك الرؤية التي صيغت داخل سجون النظام الناصري في ستينات القرن العشرين مفترق طرق خرجت منه جماعات العنف التي مارست إرهاباً يائساً ثم انضوى معظمها في تنظيم القاعدة. تضمن كتاب "معالم في الطريق" رؤية رافضة كلياً لنتاج العلوم الإنسانية الغربية، ومساواة بين ظلم الغرب وظلم الديكتاتوريات التي تلت الاستعمار، ويصف كل من يختلف مع الجماعة المؤمنة التي تحمل الدعوة على أكتافها بأنها مجتمع جاهلي، وهي ذروة الرؤية المتطرفة التي وصل إليها فكر سيد قطب بعد كتاباته النقدية للرأسمالية والاشتراكية في عقد الخمسينات، فلم يعد النقد والبحث عن التميز والمغايرة منهج من يتعرض للتعذيب في السجون وإنما الرفض الكامل والقطيعة مع هذا المجتمع. يجسد كتاب "معالم في الطريق" مشكلة أن تحمل جماعة معينة رسالة الدعوة لأسلمة مجتمع مسلم بالفعل على عاتقها، بدلاً من أن تكون حزباً سياسياً يحقق غايته من خلال اقناع الشعب بتبني برامجه، أو منظمة اجتماعية ثقافية تنشر الفكر وتجادل تطبيقاته في المجتمع فتسهم في عملية الترقي والتطوير. استلهام عملية التغيير التي قام بها الدعوة النبوية في مستهلها يتطلب إيجاد نفس الظروف وهو أمر غير ممكن، أو تخيلها كما يفعل كل رموز جماعات الدعوة عندما يصطدمون باختلاف الواقع القائم حالياً، وهو التباس لا ينطبق فقط على صدمة الاعتقال والتعذيب السياسي التي لا يجب أن تحدث أو يتعرض لها أي مواطن، وإنما يحدث الاصطدام أيضاً بسبب أمور بسيطة يتعرض لها الإسلاميون حالياً في مصر بعد خروج أنشطتهم للعلن واستضافتهم في التلفزيون، فيصبح أي نقد او سخرية شبيها بالإيذاء الذي تعرض له النبي؛ مثلما قال الأستاذ صبحي صالح عن نفسه "قالوا عني كذابا وقالوا عن النبي ساحر كذاب"! وقتها، الثمانينات والتسعينات عندما بدأت أهتم بأمر تناقض الأيديولوجيا والسياسة، كان خطاب الضحية قد تم استحضاره في الاحتفاء بالجهاد الأفغاني ضد السوفيت، لكن من باب "كم من فئة قليلة غلبت ..." وفي مواجهة صريحة مع قوى خارجية عظمى مثلها الاتحاد السوفيتي، أما الفوز في انتخابات نظمتها السلطة الجزائرية التي قادت البلد منذ التحرر من الاستعمار وعدم تقبل هذه السلطة التنازل عن احتكارها لإدارة شئون البلد، كل ذلك كان سابقة عززت استمرار رؤية وخطاب الضحية في صياغة عقلية التيار الإسلامي المعتدل الذي كان يسعى إلى مكاسب سياسية على أرضية ديموقراطية، لكنه أثار تساؤلات وشكوكاً حول التمايز بين نخب الإسلاميين، والفروق بين توجهاتهم من تركيا إلى ماليزيا إلى باكستان وأفغانستان وإيران. فوز الإسلاميين في الانتخابات النزيهة الوحيدة التي شهدتها الجزائر افتقد إلى وجود أرضية لتداول السلطة، بل لعل اللجوء إلى الانتخابات كان حركة هروب إلى الأمام من قبل السلطة تجنباً لنزاع عرقي، فتجاوب الناخبون مع حركة الهروب بإعلاء التيار الديني أو المعارضة الإسلامية انتخابياً على المطالب العرقية، فكان على السلطة العسكرية أن تواجه حقيقة أرادت الهروب منها: حتمية تداول السلطة، ولأنها لم تستعد لذلك، ولم تستطع إخضاع مكونات المجتمع بالقوة لسلطتها انفجرت حرب أهلية، أطل منها وجه إرهابي لاستخدام الدين في تبرير العنف والترويع؛ حيث وجدت كل خلية تمارسه تبريراً دينياً يوافقها ويمنحها شرعية مطلقة في القتل، وكان موازياً له في نفس حقبة التسعينات تناحر فصائل المجاهدين الأفغان على السلطة وتكفيرهم بعضهم بعضاً، وانتصار طالبان الأكثر تشدداً في ظل انعدام أية أرضية اجتماعية أو ثقافية في أفغانستان تصحح أو تلطف المسار نحو الاعتدال. نمط التناحر ظل يستنسخ نفسه ويعدد صوره وتفاسيره من أفغانستان إلى العراق، بل لقد استخدمت نفس الأساليب في دارفور السودانية المسلمة أيضاً. بعد عقد التسعينات سقط القناع الإصلاحي للنظام الإيراني خلال دورتين رئاسيتين لأحمدي نجاد، متزامناً مع ذوبان الهوية الدينية التي أحاطت بتجربة ماليزيا وإندونيسيا في التنمية، لتصبح الإشارة لهما نوعاً من الاحتفاء باستعادة ثقة غائبة في قدرة المجتمعات الإسلامية على تطوير أدائها الاقتصادي والانضمام لأحد نوادي الدول الصناعية. بينما ظل بريق خاص للتجربة التركية في التعايش بين مكونات مختلفة. وسعي الإسلاميون الأتراك إلى تلبية وإشباع هذه الرغبة الوطنية، رغبة قطاعات عريضة من الشعب التركي في التصالح والتعايش مع مكونات وروافد غذت تاريخهم الحديث، وفي الوقت نفسه إدارة التنمية بقليل من التحيزات، مع إرضاء غرور قومي على الساحة الدولية بحجز مقعد متساوٍ في النادي الأوروبي، أو الاستدارة للعب دور إقليمي متميز في فضاء الشرق الأوسط التائه. وقد نجح الحزب المنبثق من التيار الإسلامي المعتدل بزعامة أردوغان في التجاوب مع هذه التوقعات الشعبية ذات "الأولوية" سياسياً دون تشويش برنامجه بقاموس ملتبس من نوعية "فقه الأولويات"، أو إثارة شكوك حول الوفاء بمبدأ تداول السلطة. في المقابل غرقت سفينة النموذج الباكستاني، في دورات منهكة من العنف والاغتيال وإدارة العنف على أرض الآخرين (كون طالبان تأسست برعاية المخابرات الباكستانية) وأصبحت فترات الاستراحة التي تشهد تبادلاً للسلطة نزعاً لفتيل الإنفجار؛ حيث يلعب الجيش في باكستان دور المدير للعبة السياسية، ويغلب التشدد الديني على قطاع عريض من الإسلاميين في هذا المجتمع، فيحتل خطاب الجهاد والهوية والصراع الحضاري أولوية على أي بعد تنموي أو إصلاحي، ويرضي الجيش هذه النزعة نحو الصراع والعنف- بدلاً من حصرها في التنافس السياسي- مع الاحتفاظ بقدرة على نزع الفتيل قبل الاتفجار، وافتتاح دورة جديدة من نفس الصراع بين المكونات السياسية. وبين النموذجين، التركي والباكستاني، قفز السؤال عن مسار التيار الإسلامي عند مشاركته في حكم مصر أو اضطلاعه به كاملاً بعد ثورة 25 يناير. من شأن السؤال عن خيار الإسلامين المصريين تعزيز مجموعة من التساؤلات التي تدور في حلقة مفرغة منذ تأسيس جماعة الإخوان، ومرورها بمحطات سياسية شهدت انشقاق معظم ما يعرف بالجماعات الإسلامية عن الجماعة الأم، حيث مالت الجماعة إلى عدم حسم أمورها الفكرية، والإبقاء على سياسة أشبه بـ "الغموض النووي" تتعلق بالكيفية التي تعتزم تحقيق هدفها به، إذا ما استطاعت نشر دعوتها وجندت نسبة كبيرة من الناس، وهو سؤال يلح بقوة الآن مع إعلان مرشد الجماعة الدكتور محمد بديع عن انضواء نحو 700 ألف شخص تحت صفة عضو عامل في مصر ضمن الجماعة، ويسبق مرتبة العضوية الرفيعة تلك مرتبة الانتساب، وقد يصعب على الجماعة نفسها تقدير عدد من تنطبق عليهم صفة الانتساب هذه لكنها قد تصل إلى ضعف الأعضاء، إضافة إلى دائرة أوسع من المتعاطفين. هل يمكن أن يغري ذلك العدد، و"فراغ السلطة" في مصر، خلال انتقال من نظام سياسي لآخر قد يستغرق سنوات حتى اكتماله، هل يمكن أن يغري ذلك بمحاولة القفز وتطبيق سياسة أشبه بالحزب الواحد؟ هل يؤدي الانتقال إلى العمل العلني المعترف بقانونيته إلى تغيير في سياسة الجماعة لتقبل بتعدد الاتجاهات السياسية بين مجتمع مؤيديها الضخم؟ فتعيد الاعتراف بانتماء حزب الوسط، وتنظم خلافها مع د. عبدالمنعم أبو الفتوح، وتقبل بتأسيس شبابها الذين شاركوا في الثورة لحزب سياسي يعكس خصوصية تجربتهم؟ وأهم من ذلك هل يخفف العمل العلني من الحاجة لإنشاء مجتمع سري مواز للمجتمع، وإعداد دعاة قد يلتبس على بعضهم الفرق بين حركة إصلاح مجتمع مسلم وحركة أسلمة مجتمع جاهلي؟ وهل يمكن إعادة صياغة العلاقة مع تيارات علمانية وليبرالية كان لها الدور الأساس في تحريك المجتمع باتجاه الثورة؟ وأخيراً ماذا عن صيانة وضمان الانتقال إلى الديموقراطية؟

الإسلاميون في مصر
المأمول من الإسلاميين في مصر أن ينتجوا نموذجهم الخاص، والذي يفترض ألا يكون باكستانياً ولا تركياً وإن اقترب من الأخير وتأثر به، أو على الأقل تخرج من بينهم تجارب واتجاهات حزبية وسياسية تمضي في مسارات تعبر عن أصالة نزعة التحديث الإسلامي في مصر، اتجاهات حزبية تتفاعل مع مكونات وتطلعات المجتمع المصري وتمثله، لكن ثمة عوائق داخلية في نشأة وتاريخ نمو جماعة الإخوان المسلمين تلقي بظلالها على ذلك، تتعلق هذه الشكوك بمشروع الجماعة في إعداد دعاة يعيدون أسلمة المجتمع مرة أخرى بالتدرج من الفرد إلى إحياء الخلافة؛ التي استنفر سقوطها مؤسس الإخوان ومريديه فتأسس المشروع كرد فعل له. من عباءة الإخوان خرجت فصائل وتيارات الإسلام السياسي كحركات انشقاق نتيجة القلق الفكري في تكوين الجماعة وإشكاليات تعريف العلاقة مع مجتمع مسلم من الأساس، لكن بالمقابل يتمتع تنظيم الإخوان بتماسك وترابط عززه العمل ككيان سياسي مواز وغير شرعي لما هو قائم، وفي ظل مجتمع انهارت فيه كل جسور الثقة بين المحكومين والحكام، استطاع هذا الترابط البديل بين أعضاء ومنتسبي كيان مواز يطرح غايات نبيلة أخلاقياً أن يملأ فراغات فكرية وسياسية في بناء الجماعة. هنا، وأعني بذلك اللحظة الراهنة بعد ثورة 25 يناير في مصر، يحتاج الإسلاميون إلى حركة إعادة بناء من الداخل لكل من الهيكل الفكري والبناء التنظيمي الذي يفخر الإخوان أنه حمى جماعتهم طوال العقود الماضية، واستلهمته معظم الكيانات المنشقة عنها. قد تبدو ضرورة هذا التعديل متعلقة بالانتقال من العمل السري إلى العمل العام بشرعية لاتضاهي، يكتسبها الإخوان مثلا من خلال مشاركتهم في الثورة التي أسقطت النظام، لكن ثمة أمور أخرى حول ضرورة هذا التعديل، أولها ان المصريين لن يسامحوا أي تيار أو كيان سياسي قد يعوق انتقال نظامهم السياسي إلى نوع من المشاركة في الحكم يرضي ويتسق مع ما حدث. وثانياً، عتق وقدم البنائين الفكري والتنظيمي للجماعة حيث تشكلا داخل سياقات مغايرة تماماً للحاضر الذي أصبحوا جزءاً منه بمشاركتهم في الثورة. والأخيرة تجربة تمنح شبابهم شحنة انتماء عاطفية مغايرة تماماً لما تربى عليه شيوخهم في السجون وسط التعذيب، بينما يصعب في عصر كهذا أصبح الإعلام فيه شخصياً، وأصبح هذا الإعلام الشخصي فاعلاً إلى درجة هز عروش سياسية عتيدة، يصعب في سياق عصري كهذا أن يظل نفس الترابط وتسلسل التبعية حاكماً لجموع بهذا العدد متعددة الأجيال، فلم يعد هناك حاجة لبناء واحد يمنع من انخراط أعضائه في سياقات حزبية متعددة. كما أن الانتقال من العمل السري إلى العلني يشكل سياقاً مغايراً تماماً سيحتم إسقاط خطاب الضحية الذي يشغل مساحات كبيرة في إعداد المنتمين للتيار الإسلامي وتشكيل فكره وعلاقته بمحيطه الاجتماعي. ثالث الدواعي لتعديل جوهري في خطاب الإسلاميين وخاصة الإخوان، إشكالية أنه لا توجد لدى هذا التيار برامج سياسية معينة ذات طابع حزبي يمكن استلهامها مباشرة من الدين، أو تبرر استخدام الدين كإطار للتكتل السياسي؛ بل مجرد إطار أخلاقي وتعاليم تربوية خاصة ببعض المعاملات التجارية لكنها تواجه عقبات في التفسير أيضاً. إن تحديث الخطاب الديني وعصرنته ستكون مهمة رائعة وصعبة للغاية لأنها تختلف عن مهمة الانتقاد من موقع المعارض. مشكلة أخرى: أن هدف التدرج في أسلمة المجتمع بالكامل، حسب تعاليم مؤسس الإخوان الإمام حسن البنا، لا يضع في اختياراته انشاء أحزاب وخوض لعبة السياسة وتلبية توقعات أغلبية الناس من خلال طرح برامج عملية تحقق أهدافهم، وبالتالي الدخول في لعبة تداول السلطة وتسليمها لطرف آخر وتسلمها منه كلما ارتأت الأغلبية ذلك، وقد ظل موقف واختيار البنا محل جدل في أدبيات الإخوان المسلمين، وإن كنت بشكل شخصي أرى اختياره منطقياً، كون فكرة الإخوان دعوية إصلاحية تتدرج من الفرد إلى دوائر أوسع، لذا هي لا تحتمل وليست مضطرة لأن يتبنى حزب "واحد" منبثق عنها مطالب شعبية قد يصعب تفسير توافقها أو عدمه دينياً؛ فالفكرة الحزبية عبء يلتف حوله خيار البنا من خلال دعوة الناس إلى التدين ووضع هدف نشر الدعوة لتعم أغلبية أفراد وأسر وطبقات المجتمع، لكن خوف البنا من التحول إلى حزب لا يمنع من ممارسة أعضاء الجماعة للعمل الحزبي من خلال عدة أحزاب. قفز طرح إنشاء أحزاب متعددة مع إبقاء الجماعة مرجعية واكتسب أهميته من تبني بعض من شباب الإخوان الذين شاركوا في ثورة 25 يناير له، ويمثل الطرح تعميقاً لإشكالية هدف الجماعة التي اختار حسن البنا عدم التورط فيها من البداية برفضه تحول الجماعة إلى حزب، لكنه تعميق تحتاج الجماعة عدم الالتفاف حوله والهروب منه بل مواجهته، خاصة أن كثيراً من موجات الانشقاق التي شهدتها الجماعة من قبل اضافت إلى التيار الإسلامي فصائل أكثر تعقيداً وخطورة في أطروحاتها، وقد أصبحت تجربة الإخوان ملكاً للمجتمع كله بالمشاركة في ثورة تسقط نظاما قائما وتؤسس لنظام جديد، وباتت الحالة التنظيمية لهم جزءاً من الموضوعات السياسية العامة. فإذا كان هدف الجماعة مثلاً هو أسلمة المجتمع بالكامل فإما أن يتاح للإخوان حق إنشاء أحزاب سياسية متعددة تتبنى أطروحات وبرامج مختلفة، أو عدم إنشاء حزب سياسي والاكتفاء بالمشاركة السياسية لأفرادها مستقلين أو عبر أحزاب أخرى، وإلا فمعنى ذلك أن المشروع السياسي للجماعة هو إخضاع الحياة السياسية لسيطرة حزب واحد!

التنظيم والفكر والثورة
تعتبر إشكاليات التنظيم أقل خطورة مقارنة بإشكاليات الفكر في تيارات الإسلام السياسي خاصة ما يتعلق بموضوع العنف، كونها انعكاس لها. تعرض الإخوان المسلمين منذ البدايات لعنف بدأ باغتيال مؤسس الجماعة عام 1949، وبلغ الذروة في رحلة طويلة وقاسية مع الاعتقال والتعذيب في السجون خلال الخمسينات والستينات، لكن لابد من الإشارة إلى أن الجماعة نفسها امتلكت تنظيماً مسلحاً خاصاً هدفه ممارسة العنف والاغتيال في حقبة الأربعينات من القرن العشرين التي شاع فيها هذا النمط. وثمة ارتباط حاولت الجماعة نفيه كثيراً بينهم وبين محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في الخمسينات ،والتي افتتحت التصعيد تجاههم باستخدام العنف والاعتقال والتعذيب، وهو دورة طويلة كما أشرت تمت كلها في إطار دولة الأحكام العرفية التي حكمت مصر منذ النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين. في ظروف كتلك التي عاشوها في السجون مضى خطاب سيد قطب الفكري شوطاً أبعد مما بلغه حسن البنا، خاصة في وصف المجتمع المسلم الذي تتوجه إليه الدعوة، ومن عباءة هذا الفكر خرجت جماعات العنف والتغيير بالقوة، وخرج فكر التكفير أيضاً. وحتى الآن لم تقم الجماعة بحملة تصحيح لفكر سيد قطب، فهي من ناحية لم تجد من بينها من هو مؤهل لنقد كتابات قطب وعمل حركة تصحيح فكرية، سيما أن لقطب مكانة استثنائية خاصة ضمن رموز الجماعة، ولم تجد أيضاً سبباً في إجراء تصويب في علاقتها بهذا الفكر، مكتفية بموقف مرشد الجماعة في الستينات حسن الهضيبي الذي أصدر كتاب "دعاة لا قضاة" عندما رأى تحولات تتم في السجون بين أتباعه صوب تبني رؤية تكفير المجتمع والجهاد ضده. داخلياً يتم إدراج تدريس كتب سيد قطب وخاصة "معالم في الطريق" ضمن مراتب أعلى في رحلة الترقي داخل سلم الانتماء للجماعة، ولكن في إطار يحذر من المبالغة في تفسير مفهوم "المجتمع الجاهلي" لتصل إلى حد الانشغال بالتكفير عن الدعوة. يتخذ الإخوان موقفاً صريحاً ضد التكفير، لكن بالمقابل تأجيلهم اتخاذ موقف تصحيحي من فكر سيد قطب حول تعريف المجتمع الجاهلي ينتقص هذا الموقف، ويمكن تفسير ذلك في إطار استمرار احتياجات الجماعة لتأهيل أعضائها على العزلة الثقافية والنفسية عن المجتمع، وتوقع التعرض للتعذيب والاعتقال، وأيضاً إعفاءا للجماعة من خوض جدال تنتتج عنه موجة انشقاقات داخلية وصراعات مع تنظيمات إسلامية أخرى انطلقت من استشهادية سيد قطب إلى ما هو أبعد، لكن المشاركة السياسية وتأهيل الأعضاء للعمل العلني تحتاج لمواجهة تصحيحية تضع فكر قطب في سياقه وظروفه التاريخية، انها باختصار تتطلب ثورة داخلية موازية تحل مكان أسلوب المجتمع الموازي. انضم سيد قطب إلى الإخوان مطلع خمسينات القرن العشرين واضطلع بدور المنظِّر الفكري حتى إعدامه في الستينات، وقد درجت العادة على قراءة أفكاره في سياق التشابه مع الفكر الجهادي للباكستاني أبو الأعلى المودودي، وهي قراءة لا تختلف عن خطأ الإسلاميين بربط نزعة التحديث في المجتمع المصري بالغرب والغزو الفكري للمحتل، وإغفال نمو الطبقة الوسطى وممارساتها الاقتصادية وتطلعها إلى ما يعكسها. سيد قطب مفكر مصري، إنتاجه يعكس أزمة الهوية في العقل المصري الحديث، مثلما يعكس نزعة فاشية ورغبة في مصارعة الغرب حضارياً، وكلاهما: النزعة والرغبة غلفا اهتمام قطاع من أبناء جيله ممن عايشوا الاستعمار وتحرروا منه في الخمسينات وصارعوه في الستينات. إن منعطف قطب في الستينات لم يسفر فقط عن انشقاق الجهاديين والتكفيريين، بل يمثل بداية للعبة الإقصاء الخطيرة بين فصائل التيار الإسلامي التي وجدت في مفهوم الضحية فسحة كبيرة في تأويل المواقف وتكييفها بما يحقق غاية الإقصاء في ملعب سياسي يتبنى أساليب ديكتاتورية لا تقبل المشاركة، وقد آن لأن تحل تجربة الثورة وتأسيس نظام سياسي قائم على المشاركة محل خطاب وممارسات ذلك العصر وأزماته. إن نجاح الإخوان في أن يكونوا جزءا من الثورة يبشر بإمكانية إعادة صياغة كيان سياسي جديد؛ خطاباً وتنظيماً وغاية إنسانية. وهو تعديل لا يمكن أن يتم إلا بالنقد اوالتصحيح الذاتي للخروج من حالة المجتمع الموازي والتفاعل مع اللحظة، ومع القوى الأخرى في المجتمع، ومع التطلعات الشعبية التي تستحق نموذجاً خاصاً يمثلها دون استعارات من تركيا أو باكستان.

لينك المقال على صفحة دار صفصافة للنشر: http://www.sefsafa.com/index.php?option=com_content&task=view&id=1162&Itemid=87&lang=ar (يصرح بإعادة النشر والاقتباس شرط الإشارة للمصدر تاريخ الكتابة 4 يونيو 2011


الراجل اللي ورا الغيطاني



أحمد غريب

لماذا انتشرت تيمة "الراجل اللي ورا..." منذ اجتذبت نظرات الضابط الذي ظهر في الخلفية وراء عمر سليمان وقت إعلانه تنحي حسني مبارك؟ لماذا ارتبطت بسقوط النظام؟ وهل يمكن أن نتساءل عن "الراجل اللي ورا الأديب جمال الغيطاني" الذي دعا مؤخراً لإعادة العسكر إلى السلطة ممثلين في شخص المشير طنطاوي؟

تيمة "الراجل اللي ورا..." قالب عصري لإحدى أذكى الطرائف المصرية، سرت بقوة في حياتنا مستخدمة تقنيات اتصالية حديثة كالتويتر والفيسبوك واليوتيوب، أو بمعى أدق قالب الرسائل النصية التي تتفاعل مع الصورة والصوت، فيكون الناتج محصلة يمر من خلالها النقد الساخر بمراحل سريعة ومتعاقبة من التشذيب، وتعديل التصويب نحو هدف النقد، وكذلك حشد التوافق الجمعي حول الفكرة ونشرها وإعادة نشرها إليكترونياً، وقد كانت تيمة "الراجل اللي ورا..." نموذجا مثالياً لهذا التفاعل، فقد انطلقت التيمة كتعليق مختصر من ثلاث كلمات رئيسية على صورة ملفتة شاهدها الجميع، وأصبح التعليق قابلاً لإعادة الاستخدام مع استبدال الاسم ولكن بنمطين مختلفين من التساؤل: الأول سؤال عن من وراء الشخص، والثاني عن خلفية من وراء الشخص الذي يمثل اقتحامه للصورة رسالة ما يراد تفسيرها، مثل الراجل أبو جلابية في مشهد انفلات مباراة كرة القدم. لكن عودة للسؤال الأول، لمذا انتشرت هذه التيمة؟ ولمذا يتوقع تجدد استخدامها؟ وهل تنطبق على الأديب الغيطاني؟

تزامن الإنجاز غير المسبوق بإسقاط رئيس مصري لأول مرة بواسطة ثورة شعبية مع انتقال الاهتمام الجماهيري إلى ما وراء الواجهة، والتي اعتدنا في ثقافتنا الشرقية أن تتكون من طبقات من الحُجُب والستائر تليها غرف مغلقة تُطبَخ فيها الأحداث وتُجَهَّز لتقديمها للناس في قوالب مبسطة تُصَمَّم خصيصاً لعزلهم عن أي نوع من المشاركة في القرار، بما فيها الموافقة عليه؛ كون الموافقة تعني إمكانية الرفض، لذا يتم إعداد الطبخة بحيث تتوافق مع تبسيط أخلاقي للموضوع يضع موقف السلطة في خانة الحرص الأبوي على قطيعها من الشعب.

كان الإطلاع على أي لقطة مما يدور وراء الحجاب ليس إلا نتيجة لتمزُّق خرقة أو تفتُّق نسيجاً من تلك الستائر؛ بفعل معارك تدور بين هؤلاء الأقوياء في الخلف. فتبدو صورة لقطرات دماء هنا، أو خيانة هناك، ويتزامن ذلك مع فترات صراع سياسي أو انقلاب، يكشف فيها المنتصر عن بعض ما وراء الحجب بقصد منه أحياناً، أو يتستر على أجزاء من الصورة التي كُشفت بفعل إزاحة بعض الستائر خلال الصراع في الخلفية، ويسعى التستر إلى منحه زمام تفسير قصة وجود السلطة في موقعها، وسبب استمرارها. خلف هذه الطبقات من الستائر والحُجُب يقف في الظل أشخاص يحركون الأحداث، ويتلاعبون بمجموعة من القيم الأخلاقية التقليدية شكلياً لتوجيه جموع الناس، بينما يمارسون في الخفاء أساليب تمكنهم من تركيز السلطة في يد نخبة معينة من الحلفاء يربطهم ولاء معين مع رمز النظام، عائلي (دول الخليج) أو طائفي (سوريا) أو عرقي (المماليك مثلا) أو قبلي (القذافي نموذجاً). وقد بلغ هذه الولاء حداً غير مسبوق من المصالح المالية التي تقوم على مبدأ النهب في عهد مبارك، أفضى إلى ثورة شعبية لتقويض سلطته هو وحلفائه الرئيسيين ممن شكلوا أركان نظامه.



 لكن التحول كلية إلى حكم الشعب لنفسه بنفسه يواجه عنتاً وتحايلاً من عدة شرائح وقوى في المجتمع، بعضها تحالف مع النظام أو كان جزءاً منه ولم تصبه الموجة الثورية، وهؤلاء يفضلون نسخة إصلاحية من نظام الرجل القوي أو نخبة القوياء، والذين يكونون في العادة من طبقة ضباط الجيش في مصر منذ المماليك. دعوة الأديب جمال الغيطاني التي أطلقها في حوار صحفي مؤخراً إلى إبقاء المجلس العسكري في الحكم 3 سنوات وتولي المشير طنطاوي الحكم تعد نموذجاً صريحاً لهذه الفئة التي لا تتخيل حكم الشعب لنفسه من خلال مؤسسات، وهي للأسف فئة لايزال كثير منها في مواقع المسئولية والقرار، ناهيك عن عدم تقبل بعضها للطريقة التي تم بها التغيير، لأنه مفاجئ وغير مسبوق، ولأنه هدم طموحاتهم التي ربما أنفقوا عليها رشاوي أو قدموا تنازلات إلى من كانوا فاعلين في النظام السابق للحصول عليها، والأخيرين ليسوا مجرد المجموعة المحتجزة احتياطيا في سجن طره، بل هناك كثير منهم في مواقع مسئولية وسيطة في مختلف أجهزة تسيير الخدمات والإدارة في المحافظات والمرافق الكبرى، بل إن من تم استبدالهم من رؤوس المؤسسات الإعلامية مشكوك في استعدادهم للخروج عن هذا التصور التقليدي لطريقة إنتاج السلطة، خاصة من نالوا رضا العسكر وتم تعيينهم في مناصب مؤخراً.

إذن، من هو "الراجل اللي ورا الغيطاني"؟
الإجابة الأقرب: المشير طنطاوي، والإجابة الأقل قرباً: شخص عسكري آخر يتطلع إلى "حرق" صورة طنطاوي الإيجابية نسبياً لدى شرائح من الجماهير، ليحل هو بديلاً. لكن ما استند إليه الغيطاني في دعواه، التي لقيت استياءاً واستخفافاً داخل أوساط ثقافية يفترض أنها تقدره، هو عدم جاهزية الشباب الذين قامو بالثورة للقيام بدور قيادي. وهو أمر عجيب من ناحية المنطق، لأن كون الثورة شعبية هو أحد أكثر إيجابياتها، وهو أكثر ما يمدها بالقوة والمصداقية، وهو أكثر ما يضعف الثورة المضادة، ثم إنه كيف يتم تقييم "نجاح" قيادات هذه الثورة التي لا يزال هديرها في أجساد المصريين، والمنطقة العربية، بأنه عدم قدرة على القيادة؟ الإجابة في أن "الراجل اللي ورا الغيطاني" هو نفسه من يخفي هذا "الصندوق الأسود"، حسب تعبير الأستاذ محمد حسنين هيكل، وهو من يعلم أن عدم اطلاع ممثلي الثورة على خفايا هذا الصندوق يمثل ورقة القوة الوحيدة في يده، وقد استخدم صوت الأديب جمال الغيطاني بوقاً يكبِّر الصوت ليبدو كأنه نقطة ضعف في الثوار والثورة. تضخيم الصوت من خلال الأبواق لا يصنع حقيقة، إلا أنه ينذر بأن من يسيطر على مفاتيح السلطة (الصندوق الأسود) قد يعمل على تأجيل الانتخابات المتتالية التي يحتاجها أنتاج نظام جديد للسلطة، أو عرقلة تتابعها، من أجل إيقاف إنتاج سلطة ديموقراطية، وفرض بدائل تلبي احتياجات الأمن، فلا نستغرب إذا سمعناً كثيراً خلال الفترة المقبلة عن نقص الغذاء، أو عدم الأمان الغذائي، أو المالي، أو ربما بعض المشكلات الحدودية، فتضخيم الخوف، واختلاقه أحياناً، هو الوسيلة المتبقية لغير المرحبين بالثورة، أو حتى من يسعون لتمديد أدوارهم كأبواق، مثل الغيطاني نفسه.

نشرت في جريدة "الثوار" بتاريخ 1 مايو 2011

إعادة كتابة تاريخ مصر



تحكي قصة الإنسان المصري، كما يتم تدريسها وفق مناهج التعليم قبل الثورة، نضاله من أجل التحرر من الاستعمار، ومن أجل صد عدوان خارجي تلو الآخر رغم وجود فواصل زمنية كبرى بين معركة وأخرى. القصة ليست مزيفة أو محرفة كثيراً كلما عاد ما ترويه إلى أزمنة بعيدة، وهي تعتمد على مبدأ الحذف وتبسيط الصراع الإنساني واختصاره في أبعاد وملامح طفولية، ما يخل بالصورة الكلية خاصة عندما يصل الحذف إلى تشويهات كبرى للحقيقة فيما يتعلق بفصول التاريخ المعاصرة. خدم الحذف والإقصاء لجوانب من التاريخ هدف "دولة ما بعد الاستعمار" التي بدأت في خمسينات القرن العشرين بإنقلابات عسكرية وطنية رأت في التاريخ نوعاً من التعبئة والتجييش، وانتهى نظام الحكم إلى دولة بوليسية تخيف مواطنيها بقوتها العسكرية، فيصبح رصيدها العسكري خصماً من ميزانها الإستراتيجي بين الدول الأخرى.

إذن كيف سنروي التاريخ لأبنائنا؟

لاشك أنه ستشكل لجنة من الخبراء لإعادة كتابة التاريخ، وستجمع بين أساتذة جامعيين، وربما أعضاء في لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة، وربما تضم بعض الشخصيات العامة ذات المكانة والمصداقية، ولاشك أن لخبراء وزارة التعليم حضور ضروري في لجنة من هذا النوع، لكن المسألة: كيف ستروي القصة؟ كيف تصالح القصة حقيقة ما جرى؟ وكيف تقيم القصة جسر الثقة الأول بين المؤسسة التعليمية، الممثل لكل مؤسسات الدولة في نظر الطالب اليافع، وبين هذا الإنسان؟ الذي يٌطلَب منه الانتماء والتضحية، والإسهام في عجلة البناء من خلال العمل ودفع الضرائب والرسوم، والتنازل بدرجات عن خدمات معيشية عند الأزمات، ثم التضحية بالنفس عند الحروب، لا قدر الله.

"دولة ما بعد الاستعمار" بدأت بتبسيط القصة كصراع للتحرر من الاستعمار والقوى الخارجية، لم يرد في قصتها أي ملامح للصراع من أجل المساواة، بين الطبقات، وبين المرأة والرجل، وبين جميع أبناء البلد في حقوق المواطنة. هذه الدولة، أطلق تلفزيونها الرسمي أكاذيباً لم تختلف عن أي نهج سابق له طوال تاريخه منذ إنشائه، في طبيعة تأليف القصة: أخرون يحاولون التغرير بنا، ولكننا طرف الخير ولذلك سننتصر.

نحن طرف الخير في القصة لأننا نلتزم القيم الأبوية أو العائلية، أو الدينية، وتستخدم هذه الحكاية أساليب عجيبة في تبسيط القيم وليها وطيها وتفصيلها تفصيلاً على مقاس الحدث. وقد رأينا نموذجاً صارخا في تلفزيوني مصر وليبيا خلال الثورة، بلغ حداً غير مسبوق من الكوميديا عندما قالت مذيعة ليبية "إن مجلس الأمن تبنى قراراً ضد ليبيا ومعروف أن التبني حرام شرعاً".. هكذا بالحرف الواحد قرأت المذيعة الخبر بأسلوب ظنت أنه يحط من شأنه في نظر جمهورها. وقد أوردتُ هذا المثال حتى لا يظن البعض أنني ضد استخدام القيم الأبوية أو العائلية كأحد جوانب رواية القصة.

كان تناقض الواقع بين ما يفعله الشعب وبين رواية الأخبار بطريقة مزيفة كافياً لسقوط المؤسسات الرسمية لدولة ما بعد الاستعمار، وليس فقط قياداتها.

الشعب هو من قام بالثورة، وهو من يجب أن يروي التاريخ حكايته، سواء مع كفاحه من أجل التعليم، ومن أجل تعديل القوانين التي تضمن له عيشاً كريماً وفق منظومة قيم متغيرة مع كل زمان وعصر. لا يمكن مثلاً أن تُروَى حكاية المرأة في ثورة 1919 بأسلوب من خلعت النقاب دون شرح فكرة الحداثة التي سيطرت على هذا الجيل بأسلوب يناسب المرحلة التعليمية، ولابد من توضيح حقيقة قمع الثقافة الذكورية للمرأة في عصور الانحطاط، فلا يمكن أن يصل الاحتلال لأرضنا ويمتص خيراتها، لأننا نتمتع بمنظومة قيم رائعة وشفافة وطاهرة! حتى لو لدينا قيماً مثالية، لابد أننا لم نمارسها فتمكن منا الآخرون القادمون من بلدان بعيدة.

لا يمكن أن يتجنب تاريخ المدارس قصص الإعدام السياسي، والتعذيب في المعتقلات. لا يمكن أن يتجنب الأعمال الأدبية التي تكتب عن إشكاليات شخصية الإنسان المصري/ العربي الحديث وتناقضاتها. لا يمكن أن تظل الفجوة كبيرة بين حقائق الحياة وما تحكيه المؤسسة التعليمية الرسمية عنها، فيلجأ أبناؤنا إلى رواة قصص آخرين نسميهم المتطرفين، يقدمون شيئاً من الحقائق الغائبة (أحد كتب جماعة الجهاد يسمى الفريضة الغائبة) وكثيراً من الأوهام والضلال. تعليمنا قبل الثورة هو خير منتج لخطاب الإرهاب، إنه يمنحه مصداقية لا يستحقها، وخير حاسم لهذا التناقض، الشيزوفرينيا، أن نحكي أخطاء دولة ما بعد الاستعمار التي تحولت إلى دولة بوليسية، تغذي أكاذيبها مصداقية الخارجين عن القانون، ويتعيش بوليسها وتتعيش بوليسيتها من وجودهم.

لاشك أن الأمر سيتطلب كثيراً من الجدل، لكن هدير الملايين التي خرجت تهتف بسقوط النظام هتافاً هادراً غير تاريخ العالم قادر على أن يمهد لنا طريقاً جديداً مع الصدق. لقد كانت أولى الممارسات بعد تنحي رأس النظام أن نظف المتظاهرون الشوارع، فأعادوا الثقة والانتماء للشارع مسقطين ثقافة التخريب، التي أشاعها تسلط البوليس وعنفه. عودة القانون عبر الشعب، وعودة البوليس في حماية الجماهير، عودة الثقة، كل ذلك يعيد لنا الصدق مع النفس لنروي قصة الإنسان المصري الحقيقية.

أحمد غريب

الصورة: من أعمال الطفلة فيروز محمد صلاح، 11 سنة، ورشة "انطباعات عن المكان" فكرة وإشراف وتنفيذ راوية صادق، مركز سعد زغلول الثقافي، يوليو 2011