Sunday, November 22, 2015

الرسالة 2015

أحمد فاروق، وائل رجب، أحمد غريب، هيثم الورداني، علاء البربري
وجدتُ رسالة غير مؤرّخة داخل ظرف مغلق لم يفتحه أحد. ربما تعود الرسالة إلى أكثر من 14 عاماً، ربما وصلَتْ عام 2000 أو 2001، بعد وفاة صديقي وائل رجب بأعوام ثلاثة. الراسلة خطيبته الفرنسية ماري، تشكو من عدم قدرتها على تجاوز حدث الوفاة، ومعاناتها من الإحساس بالذنب نتيجة اضطرارها لمغادرة القاهرة وعدم البقاء حتى اللحظات الأخيرة من حياته.
كانت الأيام الأخيرة من حياته مكشوفة مثل الساعة الرملية في لحظاتها الأخيرة، نراقبها جميعاً دون أن نعرف ما الذي يجب أن نفعله. فشل علاج اللوكيميا في فرنسا، وعاد إلى القاهرة ينتظر لحظة النهاية، ويعيش آلامها بصمت، على الأقل أمامي.
رأيت على وجهه تعبيرات الغضب مرتين خلال الأيام الأخيرة، مرّة من تعليق لي، ومرّة من تعليق لصديقنا هيثم. كانت محاولات الدردشة وجعل الأيام الأخيرة تشبه الأوقات العادية لصحبتنا مبادرة فاشلة. كل ما يذكّره بالحياة يؤلم في تلك اللحظة، وكل ما يذكّر بالموت أيضاً.
هذه رسالة لم يفتحها أحد. وصلت لكن لم استلمها. تسللت إلى ما بين الكتب وظلّت هناك. لم أكن أعلم بوجودها. كنت قد التقيت ماري بعد عام 2001، وتحدّثت معها عن أحاسيس الذنب، وكرّرَتْ عليّ ما كانت قد كتبَتْه في هذه الرسالة المجهولة. تحدثنا، ربما من موقع من ساعدتهم الأيام قليلاً على المضي إلى الأمام بعد فقد كبير.
ربما تكون قد اعتبرت زيارتي رداً على الرسالة، فدخلت في الموضوع. وربما لم تُشِر إليها لأنها طنت أنها ضاعت لأي سبب. ربما كانت غير متأكدة من عنواني الذي لم تراسلني عليه من قبل ولا من بعد. أعتقد أنها نسخَتْه من دفتر أوراق وائل الذي كان يقيم في شقتها وأراسله على عنوانها.
اليوم وجدتُ رسالة خطيبة وائل داخل كتاب. الظرف كأن لم يمسسه أحد، وخط يدها جعلني أشعر أنها أمامي. لقد توقفت عن قراءة رسائل مكتوبة بخط اليد منذ سنوات عديدة، كان إيقاع التواصل فيها يزداد وتيرة عبر رسائل الهاتف والبريد الإلكتروني، ثم الفيسبوك والفايبر والواتس آب فائق السرعة.
عندما أمسكت الرسالة شعرت أني تلقيتها الآن من زمن لزمن، وليس من شخص لأخر. هذه رسالة عن كيف مرّ الزمن؟

أحمد فاروق، وائل رجب، علاء البربري، أحمد غريب، هيثم الورداني

كانت الرسائل تُكتب بخط اليد، ليحمل الخط مشاعر اللحظة، وارتعاشاتها، كما يحمل بعضاً من سمات الشخصية، ثم تُرسَل بالبريد لتنضج على نار الوقت، ثم يتم استلامها مغلقة، فتحدث هزة شعورية عند قراءة اسم المُرسِل، أو لون وشكل الظرف والمظروف، وقد تعكس طريقة فتح الظرف حالة المتلقي العصبية والتي تظل بدورها في خلفية عملية القراءة، إذا أبقى الظرف في يده أثناء قراءة بعض الأسطر، أو أعاد الرسالة نفسها إلى جوار الظرف أو داخله بعد أن يفرغ منها.
أذكر أن الرسائل القادمة من أوروبا كانت لها إكرامية خاصة لساعي البريد، قد لا تكون الإكرامية مالاً، ربما مساحة قليلة من الزمن نتبادل فيه الحديث، ثانيتين أو ثلاثاً يحق له فيها إلقاء نظرة معينة على عيني المرسل إليه، كأنه يستكشف مشاعري، أو يغذّي بها خيالات معينة في نفسه.
رسالة ماري كانت معلّقة. رسالة من زمن آخر. أخذتُ استرجع لقاءاتي القليلة معها عامي 2001 و2002. لا أذكر أنها سألتني عن الرسالة أو أشارت إليها .ربما تكون ذاكرتي قد أسقطت سؤالها عن الرسالة فلا شك أن إجابتي كانت: لا. لاشك أنها كتبت الرسالة في حالة انفعالية معينة، هي نفسها تقول بخط يدها إنها تكتب لأنها لا تستطيع العيش مع إحساس الذنب الذي يكاد يقتلها. ربما تكون فرصة الدردشة معها وقتها قد أسقطت موضوع الرسالة برمته.

الغلاف الخلفي لمجموعة "خيوط على دوائر" - دار شرقيات 1995- تصميم محيي الدين اللباد
( أضاف اللباد صورة سلويت لنادين شمس التي لم تحضر التصوير المشترك للمجموعة)

كل رسالة تحمل دائماً مبرر كتابتها في سطورها، وقد يكون هناك أكثر من مبرر. بعض الأسباب تُقال، والبعض الآخر يتوارى في زوايا النص أو ما بين السطور كما يقولون. هل مازلنا نقول "ما بين السطور" في هذا العصر الإلكتروني؟ كل قراءة أو إعادة قراءة للرسالة أو لأجزاء منها تحمل مبرراتها أيضاً.
اليوم، وأنا أفرز الكتب التي حافظ لي أبي عليها حتى وفاته أملاً في عودتي إلى مصر، اليوم بعد وفاته بأيام، أحاول أن اختار بعض الكتب لأحتفظ بها وأنقلها إلى حيث أقيم، وأترك الباقي تتصرف فيه أختي توسعة للمكان، كي يعاد استغلاله بطريقة أخرى تفيد المقيمين فيه.
منذ 2001 عندما التقيت ماري وسألتني الأسئلة الموجودة في هذه الرسالة وحتى الآن 14 عاماً. هل قالت لي إنها أرسلت رسالة وقلت لم يصلني شيء؟ هل حدث شئ كهذا؟ أو أنني أنقّب في ذاكرتي عن حوار شبيه لأملأ فراغاً فتحتْهُ هذه الرسالة في ذاكرتي ولا أعرف كيف أتعامل معه؟
خلال 14 عاماً لم أزر مصر سوى ثلاث مرات، الأولى لمرض ووفاة والدتي، والثانية كاستراحة بين الإقامة في دولة خليجية والانتقال إلى أمريكا الشمالية مهاجراً، والثالثة لوفاة والدي. لم أفتح خزانة الكتب، لكني لو فتحتها لم أكن لأفكّر في تقليبها كلها معاً على النحو الذي فعلتُ اليوم.
لم تكن الرسالة في كتاب وإنما داخل مجلة للدراسات لم أفتحها بل سقطت عندما أزحتُ مجموعة من أعدادها بحثاً عن رواية "مالك الحزين". كان وائل هو من عرّفني على كتابات إبراهيم أصلان.



قرأتُ الرسالة مرّتين وراء بعض، المرة الثانية لأتذكّر ماذا كانت إجابتي على أسئلة الرسالة عندما أعادتها ماري وقت التقيتُها؟ لا أذكر أنها سألت هذه الأسئلة بصيغ محددة كما كتبتها، الأغلب أن نفس الأفكار جاءت في سياق الدردشة. أعتقد أنها لم تكتب الرسالة لتحصل على إجابات، وإنما لتتواصل مع شخص مقرّب من وائل. أظن أنها كانت بحاجة لتخبر شخصاً عن وجود أسئلة تقلقها، أن تتخلص من القلق، لا أن تحصل على إجابات لم تكن لتغيّر حقيقة.
كانت زيارتي الأولى لباريس قبل أحداث 11 سبتمبر بأسبوع، والثانية خلال الذكرى السنوية الأولى للاعتداءات. خلال الزيارتين حرِصَت ماري على أن تريني كيف تحتفظ بالأشياء التي تخص وائل بعناية. بعض إكسسواراته كانت معلّقة على الحائط بالفعل، بينما كانت أوراقه وملابسه داخل كومودينو؛ مرتبة بعناية، ولا يبدو عليها كثيراً أثر التخزين. إنها أشياء أخرجتها ماري من مكانها على فترات فتعرّضَت للتهوية.
كانت عيني قد وقعت على طاقيته الشتوية. للحظة استغرقت في النظر إليها أكثر من أي تفصيل آخر، وكانت المسافة بيني وبين الطاقية في درج الكومودينو تعيد قياس السنوات الفاصلة بين آخر ارتداء لها وبين لحظة وقوع نظري عليها. ربما تكون المسافة بيني وبين ما أنظر إليه نصف متر، لكن هناك أبعاد في الزمن غير دورات الأرض حول نفسها وحول الشمس. هناك مسارات أخرى لاشك.


بعد الرسالة استخرجتُ صوراً قديمة لنا من التسعينات؛ يالها من أيام. هل تخوّل لي السنوات التساؤل برومانسية عمّا تبقى؟ هل تصدمني المسارات الفاصلة بين اللحظتين فألجأ لمشاعر الحنين؟ هل تغيّر شيءٌ في مشاعر الرفض، والابتعاد حدّ الهروب؟ هل يمكنني تخيّل مسارات أخرى لما حدث وقتها أو بعدها؟ هل أعتب على نفسي من خفقة القلب بالحنين لزمن عشته مشبّعاً بإحساس الانفصال خوفاً من أن يجرفني التيار نحو المسخ؟ هل مازلت أخاف من أية مشاعر تختلط بالحب؟ ما الذي يزعجني في هذا الانجذاب نحو الشعور الجميل الذي سرَى بداخلي؟ لكن ما الذي يجعلني أشعر بالانجذاب لمرحلة غرسَتْ في داخلي كل ما يخيف من الحب والاتصال ويحيطه بالإزعاج؟ هل تخيلتُ أنني نجحت في الانفصال الكامل بالابتعاد؟ هل يمكن أن يكون هذا الشعور نفسه نوعاً من الوداع، أخير ومؤجل، ولا داعي للقلق منه؟ هل أربكني وصول رسالة من زمن إلى زمن؟ هل كنتُ أفضّل أن تظلّ خزانة الكتب مغلقة، وأن يؤجّل أبي وفاته؟ هل كان فتح الخزانة وتقليب الكتب واستعادة الصور سيختلف لو لم تكن هناك رسالة؟ أليس وصول رسالة من عصر آخر بتقاليد كتابة وإرسال واستقبال أخرى يحمل نوعاً من الطرافة؟ هل يمكن أن تكون هذه الطرافة سرّ استمتاعي بكل هذا الانفصال والفقد؟

غلاف مجموعة "خيوط على دوائر" - دار شرقيات 1995- تصميم محيي الدين اللباد


صورة للنص منشوراً في جريدة القاهرة عدد 19 نوفمبر 2015