Saturday, November 26, 2011

شارع أحمد حرارة - محمد محمود سابقاً

تصوير: نجلاء فتح الله

أحمد غريب
كان البطل أحمد عبدالعزيز هو الأسبق في هذا النوع من التسميات للشوارع، وكان اسمه رمزاً على نبل القائد العسكري الذي خيرته الحكومة بين الاستمرار في عمله التطوعي حيث كان يدرب متطوعين استعدادا لحرب فلسطين، وبين الاستمرار في عمله كضابط برتبة عقيد، فاختار العمل التطوعي، ومضى في طريقه حتى الشهادة في حرب 1948. كان البطل أحمد عبدالعزيز -الذي شارك في مظاهرات ثورة 1919 وعمره 12 عاماً فقط-  نموذجاً  يجسد ذلك القلق الذي تعاني منه المؤسسة العسكرية المصرية، بين الواجب والشرف والدور المنوط  بأبنائها والآمال والتوقعات المعلقة عليهم من جانب، وبين أزمة العقم الذي تعاني منه مستويات القيادة العليا فيها، عقم إنتاج البطولة.

لم تقدم المؤسسة العسكرية المصرية قادة أبطالاً دون أزمة ما، ولم تستطع التعامل مع  من فرض دورهم وأداؤهم هذا الاحتمال مثل سعد الدين الشاذلي. دائماً ما تتكسر موجات الصعود البطولي عند مستويات القيادة العليا.

تعرف الجندية المصرية مآثر بطولية،"فدائية" تحديداً، كما تعرف بطولة تمتزج فيها الفدائية بالبراعة والجرأة مثل بطولة "صائد الدبابات"، وهناك أكثر من صائد بالمناسبة في حرب 1973، كما تعرف بطولة الصبر الإنساني على سقطات القيادة، كما حدث مع بطولات الحصار وقت الثغرة. لكنها بطولات لا تنتج رمزاً، ثمة مصيدة تتعثر عندها البطولة في مستويات القيادة العليا، فيصعد مبارك ويتم إبعاد الشاذلي، وينزوي الجمسي، ويختفي أحمد بدوي بعنف تحيط الشكوك بمصدره.

اليوم فتح البطل أحمد حرارة ورفاقه في شارع محمد محمود هذه الصفحة من تاريخ المؤسسة العسكرية مع السياسة والسلطة، وما كان لهذه الصفحة تحديداً أن تطفو بهذا الشكل  لولا سقطات الجنرالات الذين يحكمون مصر الآن. أحمد حرارة أسقط القناع الذي ارتدوه عندما قدموا أنفسهم لعامة الناس بـ "تحية شهداء الثورة".

 أبطال شارع محمد محمود امتداد شرعي للبطل أحمد عبدالعزيز، بينما يتقلب جنرالات "المجلس الأعلى" في أزمات القيادة التي تترك الدور والواجب جرياً وراء المكسب السياسي وأطماع السلطة،بل تزور التاريخ، وتحذف صور الحقيقة، كما فعل مبارك بحذفه لصور الشاذلي وأحمد إسماعيل وإضافة صورته هو لمشهد غرفة قيادة حرب 1973، الآن تفعل جنرالات المجلس الأعلى نفس الشيء، زيفت الصورة التلفزيونية المنقولة من ميدان التحرير، وحذفت صور بطولات شارع محمد محمود، وتسترت  على علاقتها بالقرار السياسي وراء استخدام العنف تجاه المتظاهرين بدرجات من القسوة والإهانة بلغت حد تصويب السلاح عمداً بهدف فقأ  العيون، وإلقاء الجثث في  الزبالة لجرح مشاعر ذويهم.

بطولات (شارع محمد محمود) كشفت اللثام عن العلاقة المتسترة بين جنرالات المجلس وبين وزارة الداخلية، فإما أن الوزارة أصبحت قوة عسكرية غير خاضعة لسلطة أحد، مما يسقط مسمَّى "الأعلى" من تسمية المجموعة الحاكمة، أو أنها علاقة تواطؤ بين شريكين في جريمة واحدة. وهي سابقة أولى من نوعها في تاريخ القيادة العسكرية لمصر في فترة ما بعد الاستعمار، سابقة أولى لتورط صريح على المكشوف وفي الشارع لقيادة عسكرية في جرائم من الوزن الثقيل تجاه المواطنين.

كان التعذيب تحت أقبية  السجون، وبطش المعتقلات،  ستاراً يتيح للعامة استكمال حياتهم اليومية دون أرق مشاهدة الجريمة، وقلق التعايش مع صورة البطش في الحياة اليومية، و كان حذف هذه الصورة يقابله إعلام دعائي مخدر عن إنجازات الرئيس. أما الآن فالجريمة في الشارع، والتضحية والفداء بلغا درجة بطولية أثارت المخيلة إلى مستوى تليق به تسمية الشارع باسم "شارع أحمد حرارة" البطل الذي فقد عيناً يوم 28 يناير، وفقد عينه الأخرى في شارع محمد محمود، وأطل في لقاء تلفزيوني يتحدث عن تفضيله ألا يعيش بعين مكسورة.

يا أحمد حرارة  لقد زادتني بطولتك اعتزازاً بمصريتي.

وشكراً  أيها الجنرالات لقد أزلتم بأنفسكم قناع تحية الشهداء، وأسقطتم شرعية سلطة الحكم العسكري.



Friday, November 11, 2011

هل أنا ليبرالي؟

كاريكاتير: وليد طاهر

أحمد غريب

وجدت نفسي في غمار الثورة وتفاعلاتها ضمن تصنيف لم أكن   أتخيل نفسي فيه، مرة يكون "ليبرالي" وأحياناً ما تستخدم كلمة "علماني" بديلاً، أو إذا سمح مجال النقاش بتدقيق الكلام تصبح التسمية "يسار ليبرالي".. كلها أسماء لم أشاهد صورتي في إطارها من قبل - وربما معي كثيرون - كما أنها لا تعبر عن حقيقة ما في مصر من تيارات وأفكار وعن ما في عقل ووجدان المصريين.

هناك رغبة قوية سرت منذ الثورة في معرفة بعضنا البعض، تنامت معها موجات من التصنيف وبناء صورة مختزلة خاصة فيما يتعلق بموضوع الهويات، وكان ارتطام المجتمع بأحداث الفتنة الطائفية، وتعرفه على حقيقة استعداد فئات منه (وليس الجميع) لممارسة قتل واعتداء على الهوية اصطداماً مروعاً، تبين معه كم تُأخذ الأمور والتسميات بالشبه، ويتسرع فهمنا للمعاني وتصويرها على أنها حقائق، وفي المقابل تتوه وسط هذه العملية التي تتم وسط سيل من الكلمات الجديدة- التي هبطت على المصريين مع الثورة- بعض التفاصيل المهمة والإنسانية التي لا يستوعبها المصطلح أو التسمية، كما لا تستوعبها الحالة التي يتم تداول التسمية فيها خاصة حالة الإعلام.

في شوارع الثورة، وهي بالفعل شوارع وميادين وأزقة، يصعب أن تمسك بموقف أو رأي بعينه وتنسبه إلى الليبرالية مثلاً، بل إن تعريف الليبرالية لدى البعض يكاد أن يكون كارثة. وقد كان أول ما أثار لغطاً وتعجباً ما قدمه الشيخ حازم شومان بقوله (ليبرالية يعني يقلع أمك الحجاب!)، ويبدو أن الرجل شعر بمبالغته فأضاف ( أمي أنا؟ أيوة امك انت!) مازاد الغرابة كونه يتكلم عن أناس ليبراليين يعيشون في مصر ويحبون تعرية الآخرين، بينما يلحظ كل من يمشي في شوارع مصر العكس حيث انتشار الحجاب، إذن أين هؤلاء الأشباح التي تخلع الحجاب من على رؤوس الأمهات؟ ودعك من سؤال "لماذايفعلون ذلك"  رغم أنه واجب.

 في مرة وجدت على صفحة جروب بالفيسبوك أجد فيها فرصة للتواصل مع أصدقاء من خلفيات ثقافية متنوعة، وجدت تعريفاً بالعامية يحصر الليبرالية في عدم مراقبة السلوك الشخصي للفتيات (إذا شوفت واحدة ... مالكش دعوة)! وعلقت بأن هناك أنواع كثيرة من الليبرالية السياسية والعلمية والإقتصادية والإجتماعية لها تاريخ ولها معاني مختلفة تماما عن فكرة الحقوق الشخصية.

 وبصدق رغم أن هذا التعريف للحقوق الشخصية كان مجرد كلام مرسل بعيدا كل البعد عن معاني أعمق وأهم في فكرة الحقوق الشخصية، كما أنه لا علاقة له بالليبرالية الاجتماعية التي تطالب الدولة بتوفير حد أدنى من الرعاية الصحية والتعليم كضمان إجتماعي للمساواة بين أبناء الشعب، أو ليبرالية الحقوق المتساوية للأديان، وهي أمور نحتاجها الآن ونحن نتطلع لمصر جديدة، إلا أن الصراخ الذي فاحت به الجملة العامية (مالكش دعوة) يعكس مجموعة من التناقضات والمعاني التي تحير الناس في مصر في كيفية التعامل مع التغيير الذي نادت به الثورة، خاصة بعدما انهالت عليهم ظروف جديدة أصبح عليهم مواجهتها، وحقائق عن الذات وعن الحياة المصرية كانت مطموسة داخل الإعلام الغوغائي المخدِّر الذي ضللنا به صفوت الشريف، ولايزال تلامذته يلعبون لعبته.

مصر الثورة نادت بـ "عيش. حرية. كرامة إنسانية"  وحققت مجداً لا تبالغ في وصفه الأغنية التي تقول "يحكى أن شعبنا مسك النور بإيديه"، لذا لا تحتاج ثورة مصر ولا المصريون إلى البحث عن ذواتهم وسط تعريفات ومصطلحات لها خلفيات تاريخية ثقيلة ومركبة، بالطبع لا أقصد العزلة والإنكفاء على الذات، ولكن فرملة هذه النزعة المراهقة التي دفعت الناس عقب تنحي مبارك نحو التصنيف المتعجل، واستخدام مصطلحات لا تنطبق بما يكفي على ما لدينا في مصر؛ والأدهى أنها تستخدم دائماً في سياق التخويف، ولا أدري لماذا يشعر الناس بخوف بعدما أصبحوا يملكون زمام أمورهم! ففي السابق لو قال الرئيس يمين أو يسار كانت الدولة تتبعه، أما الآن فمن الذي يملك تغيير هوية فرد مصري، على فرض أنه كان يملك سابقاً؟!




لا توجد في مصر بيئة علمانية، ولا مؤسسات تستهدف كبح تأثير الخرافات الذي تحث عليه العلمانية مثلاً، هناك رسالة تخويف من إسلاميين يجدون منافع مادية كبرى عند ظهورهم على شاشات الفضائيات؛ حيث تنهال عليهم الدعوات من المتدينين الأثرياء في دول الخليج ويُدفعون دفعاً إلى إنتاج فتاوى تخص أوضاع الأثرياء مثل زواج المسيار، بينما لا يتكلم أحد عن الزكاة التي قدرت على أغنياء المسلمين بالمليارات لو تم إخراجها، وبالطبع لا يجتهد هؤلاء المفتون لربط مصارف إنفاق الزكاة بأوضاع العشوائيات والفقراء، وحاجة بلادنا لتنمية البحث العلمي والمدارس من منطق مبدأ "وأعدوا لهم"، لكننا نجد تطبيقا الشعار بمعنى أعدوا لهم صواناً تطعمونهم فيه لحماً لتحصلوا على أصواتهم الانتخابية!

وعلى ذكر المؤسسات والغيبيات أذكر أنه في فترة قريبة من الثورة، ربما قبل اندلاعها ببضع شهور قام العاملون في "مصر للطيران" بذبح عجل للتبرك بدمائه على جدار طائرة اشترتها الشركة حديثاً وجد الطيارون بعض الصعوبات الميكانيكية في إقلاعها وهبوطها! لا أدري هل كان هذا السلوك أحد تجليات الحالة التي قدمتها رواية وفيلم "قنديل أم هاشم"، أو أنه صيغة جديدة للتعايش بين مفاهيم تكونت تحت سقف نظام مبارك الذي حض على الجهل ونشر السطحية والخوف من المجهول. أم أنه صيغة لما ورد كتذييل للخبر وقت نشره من أن أسباب ذبح العجل إلى جانب التبرك أنه فرصة من العاملين بالشركة لتوزيع بعض اللحوم على المحتاجين، وهي خطوة نبيلة، لكن ربطها بحل المشاكل الميكانيكية التي صادفتها طائرة لاتزال في مرحلة التليين كان مروعاً!

هل أنا ليبرالي؟

حقيقة لا أعرف إجابة، وأظن أن عمرو حمزاوي نفسه الذي أصبح صورة إعلامية لليبراليين في مصر لا يملك إجابة هو الآخر، باستثناء ترديده بعض التعريفات المبسطة التي تتضمنها الكتب، والتي تظل مثار تندر وتنكيت من قبل مشاهديه البسطاء الذين لا يفهمونها رغم تبسيطها! لكنهم يخلصون إلى أن الرجل ليس عدوانياً تجاه خصومه، وتنصرف بعض النساء إلى جانب آخر من صورته الإعلامية كمحب عاشق، ما يجعله يستحق لقب "كرم مطاوع الثورة"! أو ربما نجم سينمائي آخر من هذه الأيام!

هل في مصر ليبرالية؟

هناك مطالبة قوية بالعيش والحرية والكرامة الإنسانية، تلتمس تعريف أهدافها وأولوياتها من خلال واقع جديد، واقع يتشكل داخل شوارع مهملة، وتوك توك وميكروباص، وكثير من الأحلام المؤجلة التي تراكم تأجيلها حتى بات خميرة لانفجارات تصيب أيا شخص أو جماعة يتم وسمها بسمة الخلاف أو العداوة.

في عيد الأضحى الماضي نشر موقع مصراوي نقلاً عن وكالة الأنباء المصرية (الشرق الأوسط) خبراً مزيفاً عن تأييد الجالية المصرية في كندا للمشير طنطاوي ورد في رسالة أرسلتها هذه الجالية لـ "مكتب الدفاع بواشنطن". الكذب في هذا الخبر من عدة مصادر، أولا لا توجد جالية مصرية في كندا، ولكن هناك جالية عربية فقط حيث يبلغ عدد العرب كلهم واحد في المائة من السكان. ثانياً لا يوجد شيء اسمه مكتب الدفاع بواشنطن، فحتى وزارة الدفاع الأمريكية نفسها لا توجد في واشنطن ولماذا يصلها تأييد مصريين للحاكم الانتقالي لمصر؟ وثالثاً ما هي المصالح التي تجمع مثل هذه الجالية إن وجدت وتجعلهم يؤيدون حاكماً عسكرياً بينما "طفش" معظمهم من البلد التي حكمها العسكري حسني مبارك وصديقه المشير طنطاوي؟ الأسوأ أن صفحة "كلنا خالد سعيد" نشرت الخبر نقلا عن موقع مصراوي، فهب أناس يقولون"ماهم دول الحرامية اللي بره) كيف عرف أنهم حرامية وأنهم يسرقون من خلال تواجدهم في الخارج وبمعاونة المشير؟

هناك استعداد كبير للعداوة والخصومة مع أي تصنيف لآخرين لا يشاركون الشعب معاناته، وهناك استخدام مغرض للإعلام في إثارة العداوة بين فئات الشعب، يطال المقيمين في الخارج الذين يسعون للحصول على حقوق انتخابية وممارستها هذه الأيام وراء تزييف هذا الخبر. 

هناك طبقات من الغضب، وحمَّى للصراع على الهويات، ينطلق من وجهة نظري من داخل ذلك القلق والإحباط الكبير الذي شعر به المصريون نتيجة الثورة. الناس لا تقوم بثورة إلا اعترافاً بخطأ جسيم، وقد فرَّطنا جميعاً في بلدنا وفي حقوقنا وفي حقنا أن نحلم وأن نحقق بعضاً من أحلامنا، حتى أصبحت شوارعنا وحياتنا مزرية وبائسة، ولأننا لا نلمح أي حلول أو لا نجد لأنفسنا موضعا في السياق الذي يتكلم عنه الآخرون نعادية ونهاجمه، هذا ما يفعله كثير من الناس بأشكال ودرجات مختلفة.

شيوخ المسيار وفتاوى الأثرياء لا يفتون بحلول للطبقات الوسطى والفقيرة سوى الصبر والطاعة، والتحذير من سماع أصوات الآخرين الليبراليين أو العلمانيين. والسلطة (إعلام رسمي وأمن، وبلطجية) تستغل وظيفة ضبط الأمور في تخويف الإنسان العادي من الانخراط في تنظيم يطالب بحقوقه من خلاله (حزب أو ائتلاف أو نقابة)، والنخب أضعف من احتواء كل المشاكل المتفجرة وتقديم حلول لها سواء حلول تنظيمية أو فكرية أو برامج سياسية، وفي هذا الواقع تعود أحاسيس الغربة لتغلب على الشعور وعلى التوجه والسلوك. ومن الغربة تنبع مشاعر أنانية وعداوة مع أي هوية لا تتسق مع هذا الشعور الذي يحتاجه الإنسان البسيط كمقاومة يعيش بها. هنا حتى لو كنت "ليبرالي" كيف ستتشارك الحريات مع آخرين غرباء؟

لم يكن مستغرباً أن يهتف الناس "عيش. حرية. كرامة إنسانية" وهم يرفعون المصحف والصليب. لا حرية بدون قبول للتعايش، وبدون تعايش سنهين كرامة بعضنا البعض كل يوم، ونفترق فينهبنا اللصوص لأنهم منظمون. ودعك من الكلمات الكبيرة "ليبرالية" وغير ذلك.
أحمد غريب
أغنية "يحكى أن"http://www.youtube.com/watch?v=HU_r0poP2-Q&feature=related