Wednesday, May 30, 2018

الكرة السوداء *




وقتها كان رمضان يأتي في الصيف أيضاً. وكان عالم الكرة مليئاً بالأساطير الجديدة. لاعبون يمكنهم عمل المعجزات بمهارات فردية؛ كنا نعشق الخطيب ونعلّق صوره على الحوائط. لكن فوز الأرجنتين بكأس العالم لأول مرة في البطولة الأخيرة كان ميلاداً جديداً لعالم كامل من الأحلام لدى المراهقين في العالم الثالث وليس مصر وحدها. وكانت دورات الكرة الشراب في أمسيات رمضان أشبه بوسادة عملاقة نمارس معها أحلامنا السرية بانفعال في هذا الجزء من القاهرة.
في البداية ظننتها مباراة واحدة ثأرية بين شباب هذا الحي الذي لم أكن أقصده إلا زائراً. نقيم في الظاهر وأقاربنا في هذا الجزء من باب الشعرية: الإمبابي. لم أكن أعرف أن هذا المربع السكني الذي يسمّى شارع 
الإمبابي يمكن أن يحتضن دورة من 5 مباريات كل ليلة طوال ليالي رمضان.
مدخل الشارع نفسه عجيب. حارة ضيقة تمتد 20 متراً كشريان ضيق، عرضه أمتار قليلة لو مرت سيارة نلصق ظهورنا بالحائط لتفوت. لكن الشريان يتسع بعد ضيق ليفضي إلى مستطيل واسع أكبر من ملعب كرة اليد طولاً وعرضاً، وينتهي مع جدار مستشفى "سيد جلال". إذا انحرفت يميناً مع الجدار ومشيت ستصل إلى شارع الظاهر، وإذا رحت يساراً ستخرج إلى شارع بورسعيد.
لم يكن تصوّر هذه المساحة كملعب ممكناً، كانت مغطاة بالمجاري طوال العام تقريباً. لكن الفضل يرجع لشخص عرفت أن اسمه الحريري، يتوسط لدى الحزب لتجفّ المجاري قبل رمضان بأيام، فيبدأ تخطيط الملعب بالجير وبناء المرميين. كانت فرق كثيرة تشارك، بعضها من أماكن بعيدة كالأميرية، لكن الأغلبية من باب الشعرية والظاهر والمنسي والقبيصي وغمرة.
بعض لاعبي الفرق الصغيرة في الدوري العام كانوا يشاركون في المباريات، كنا نعرفهم من ملابسهم الرياضية الكاملة والنظيفة، وكانوا حتماً لا يدخنون، لكن لم يفز بدورة الإمبابي فريق يضم لاعبين من هؤلاء. لا يمكنك الفوز هنا دون أن تتسخ ملابسك كما يقولون.
كان ذلك صيف عام 80 أو 81؛ بعد وقت من عام 1978 الذي قلب فيه الخطيب تأخر الأهلي أمام الزمالك بهدفين في نهائي الكأس إلى فوز بأربعة أهداف في آخر ربع ساعة من المباراة. في ذاك العام شاهدنا في التلفزيون لأول مرة مباريات كأس العالم كاملة ومباشرة أثناء ما كانت تُلعب. وقد دغدغ خيالنا صعود الأرجنتين إلى نادي الكبار.
لحظات التحول في مباريات تلك الأيام خفقتْ لها القلوب، وكانت أجيال الشباب والمراهقين وقتها مشبعة بما تعرفه عن حرب 1973، فجاء سيرك 1978 الكروي العجيب ليصبح مصدر إلهام يعزّز فكرة قلب الطاولة، وتصحيح مسارات القوة، والصعود بعد الخسارة.

الحريري 
أحد الشخصيات الهامة في الحي، نحيف وطويل، أصلع بالكامل وقت إطالة الشَّعْر في السبعينات؛ وكان ذلك علامة على قوة شخصيته بالمناسبة. لم أعرف أكان حبه للكرة نابعاً من أنه لعبها يوماً ما؟ فقط كنت أشاهد قدرته على تحكيم مباريات صعبة، واتخاذه لقرارات دقيقة لا يعترض عليها أحد من هذا الجمهور الصعب. وكان أي حكَم آخر للمباريات يكتسب قوته من أن الحريري ترك له مكانه.
في هذا الصيف تمكّن الحريري من تنظيم لقاء بين الفائز بدورة الإمبابي الرمضانية وبين بطل مدرسة "دي لاسال فرير" التي تقع في شارع الظاهر. كنت أتردد على المدرسة صيفاً مع صديقي وجاري الذي يدرس فيها، وكان توقيع والدته على أوراق عضويتي بالنادي الصيفي للمدرسة كصديق لابنها بوابة العبور الموسمية إلى دائرة الذين يتعلمون الفرنسية.
تجري مسابقة الفرير بين خريجي المدرسة، معظمهم طلبة في الجامعة، مع فريقين من قدامى الخريجين، وفريقين من ثانوي. وكان ملعب المدرسة ذا مقاييس قانونية تقريباً، وحجم المرمى كبيراً كما نراه في مباريات التلفزيون.
مرمى الإمبابي يكاد يطابق مرمى كرة اليد. الكرة نفسها في ملعب الفرير كانت كرة السبعينات، أكبر من تلك التي يلعبون بها الآن، وأثقل وزناً، لكن الكرة الشراب أصغر ولها سحر خاص، ثقيلة وسوداء، مرنة لكنها لا تقفز مثل الكرة البيضاء.
إذا كنتَ قد شاهدتَ الكرة الشراب ستعرف كيف سارت هذه المباراة. عالمان متوازيان قرّرا اللقاء في أمسية صيف غير حارة. انتهت 7/1 لصالح من يلعبون بكرتهم على ملعبهم. الوحيد الذي نفذّ حركة فيها حرفنة من جهة الإمبابي كان حارس المرمى الأسمر الذي يُسمّى تحبباً (رُزة)، لأنه من أحرز هدف فريقه الوحيد من هجمة منظمة تقدم فيها إلى الأمام كمفاجأة.
كان بطل الإمبابي لثلاث مرات متتالية يصنع الأعاجيب في الشارع، بالكرة السوداء، وكان حارسه (رُزّة) مشهوراً بالطيران والارتماء على الأسفلت دون خوف والتقاط الكرات الأرضية السريعة بصدره؛ إنه يقفز كبهلوان لمسافة لا يزيد عرضها عن متر، لكنه لا يستطيع الارتماء أو الطيران لصد كرة في زاوية عليا لمرمى حقيقي.
حرفنة كرة الشارع ترتبط بالمساحات الضيقة، المهارة التي تفتح مساحات لا تكامل الأدوار، المفاجأة لا اللياقة والقوة. لم أعرف السبب الذي جعل الحريري يظن أن فريقه يمكن أن يُظهِر مستواه على ملعب كبير دون تدريب، يبدو أنها الفرصة الوحيدة أتت، فقد حضر بعض كشافي الأندية هذه المباراة التي خلت من الإثارة.
لا أذكر أن أحداً سعى لتكرار المحاولة للجمع بين الإمبابي والفرير، على الرغم من أن كثيراً من لاعبي الإمبابي في بداية الثمانينات تقدموا لاختبارات نادي "المقاولون" الذي فتح فرصاً جديدة. في آخر زيارة لي -العام الماضي- سألتُ عن دورات الإمبابي، وعلمتُ أنها استمرت لـ 2003.
كانت المجاري تغطي الشارع من جديد بعد كل عيد بأيام حتى آخر مرة زُرتُه في التسعينات. اختفت المجاري الآن، وأصبحت ساحة اللعب موقفاً للسيارات، ولم يلعب أحد بالكرة السوداء.


نُشرت في جريدة الأخبار، سبتمبر 2016 

Sunday, May 27, 2018

صلاح رجل طيب




هو شاب يشبه ملايين من الذين يخشون الحلم، لأنهم يعرفون أن الأحلام لا تسبب لأصحابها إلا الوجع. هو لا يشبه من فرضهم نظام  الحُكم على الإعلام، تلك الأشكال المحدبة والمقعرة والمشوّهة الأبعاد والتي قرر أصحاب السطة في مصر أن تحتل جميع الشاشات لتبث الإحباط وتوئد أي محاولة للحلم.


 كما أنه لا يشبه هؤلاء الذين ربما حاولوا طرح شخصياتهم تحت أضواء المجال العام باعتبارهم طيبين، فتم تشويههم، أو غرس المرارة في نفوسهم بأيدي من يسيطرون على سلطة كل المجالات في مصر، أو استهلاكهم وتشتيتهم بمعارك يختلقها رجال ضبط المجال العام.

محمد صلاح وصل إلى مكانة عالمية في الكرة، لكنه إنجاز لا يتطلّب الذهاب إلى الجامعة، فكل شاب في مصر يعلم أنه لا توجد جامعة في بلده تقدم علماً يسمح له بالوصول إلى مكانة محترمة في تخصصه بمقاييس العصر الحديث.

هو أيضاً شاب، والإنجاز العلمي يتطلب سنوات، عكس الإنجاز الرياضي. لكن المثير ذلك التعاطف الكبير من شابات ومن سيدات في سن والدته أو اقل قليلاً، سيدات عبّرن عن غضبهن على صفحة اللاعب الإسباني، وكانت جملة "صلاح رجل طيب" قاسماً مشتركاً بينهن في عتابهن الغاضب من شخص تعمّد الشر.

صلاح إز أ جود مان، والبعض كتب بالعربية: "صلاح رجل طيب ومحترم".

صلاح إنجاز وجدنا أننا نمتلكه، ورقة يا نصيب في سيادة الفراغ الكامل من أي رمز، بعد أن حاول قطاع من الشعب المصري أن يصدّق نوعاً من البطولة في صعود رئيس الدولة الحالي إلى السلطة. فراغ بدأ تفريغاً منظّماً عن طريق سياسة إعلامية مختصرها التقزيم والتشويه ليظل شخص واحد في مركز  الصورة، فإذا بالأمر ينقلب  بعد هزيمةالاستثمار في قناة السويس الجديدة وتقلص القدرة الشرائية للعملة إلى فراغ كامل.

صلاح رجل طيب لأنه بارقة أمل مفاجئة ومن خارج السياق تماماً لأشخاص لم يتابعوا كرة القدم، بل لم يفكروا في مجئ هذا اليوم الذي يجلسون فيه في انتظار مباراة، فما بالك إذا كانت بين أطراف لا يعرفونها، يتنافسون في لعبة لا يعرفون أسرار جمالها أو القوانين التي تضبطها!

صلاح رجل طيب لأنه يبكي عندما يتألم، ويطلق شرارة الفرحة والوعد بالانتصار عندما ينجح. هو شخص درامي لأنه أتى من مكان غامض، مجرّة أخرى في دلتا مصر لا نعرف عنها شيئاً، فلا نستطيع تنميطه، خفيف الظل لمن يتابعه على تويتر، لكنه يسجد مثل كثير من اللاعبين الملتزمين أخلاقياً الذين يعبّرون بإشارات دينية مثل السجود أو التثليث عن فرحتهم.

هو قروي بسيط، أفلت من شباك اصطياد الحلم، وسقط مع نجاحه الاستثنائي ذلك الحاجز الذي يضع مرارة في نفوس أبناء نفس الوطن من المسيحيين، هم يعلمون أنهم مستبعدون من مشهد تمثيل الدولة وشغل أي مكانة رمزية فيها، بما فيها أن يخرج من بينهم لاعب كرة، وقد زادت موضة السجود بعد إحراز أهداف في مباريات الكرة حاجز الاستبعاد، لكن صلاح استثناء من ذلك في ظني، ربما لأنه قروي عفوي ومتواضع، أكثر من أنه صاحب إنجاز.

صلاح هو حذاؤنا الذهبي الذي يحسدنا عليه جيراننا الأغنياء في السعودية، على الرغم من أن عندهم "كل شيء" حتى الكعبة نفسها، لكنها حكاية قديمة وتقليدية يعيد إنتاجها مجتمع لم يغادر الماضي؛ حكاية الرجل الذي كان لديه 99 نعجة، وشقيقه الذي كان له نعجة واحدة، فطلب الغني استغناء الفقير عنها!

السقطة الدرامية في قصتننا مع صلاح وكأس العالم، تلك الساحة التي سيلعب فيها بالقميص المصري، جاءت من خارج الشخصية، فهو لم يقع في غرام امرأة أو لذة تشتته، هو رجل طيب بالفعل، يذاكر مهامته ويستعد لها، ويؤدي واجبه.

 نحن أيضاً أشخاص دراميون أكثر من كون بعض سوء الحظ يطاردنا، عندما يأتينا بطل يكون عليه أن يلعب كل المواجهات ويمتد موسمه مع فريقه إلى آخر بطولة دوري، ويكون الجار الغيور قد أثار خوفنا من تمنيه المكروه لبطلنا، وتكون آخر مواجهة مع بلطجي محترف (راموس)، ولأننا تعرف تاريخ جيراننا مع رشوة الحكام لا يبخل علينا القدر بما يؤكد شكوك التواطؤ!

لكن بطلنا رجل طيب بالفعل، دموعه تجذب مشاعر المحايدين، دموعه تذكرنا بأن في وادينا أشخاص ليسوا موهوبين فقط، وإنما طيبون أيضاً، وأن الحظ يمكن أن يفتح لبعضهم باب الخروج من شبكة اصطياد الأحلام.