Monday, January 23, 2012

أنواع الشيوخ.. مصر بعد الثورة

شاب يمر أمام جرافيتي للشيخ الشهيد عماد عفت

(تحديث- يناير 2013): عام مر على هذا المقال، جرت فيه انتخابات رئاسية، وحل البرلمان، وصدر الدستور محكوما برؤية مجموعة من الشيوخ.. وانكشفت أقنعة عديدة تقنع بها شيوخ الإسلام السياسي، فبان طمعهم في السلطة، وانكشفت تجارتهم بالعواطف، فبعدما تاجروا برفض الربا، أطلقوا على فوائد قرض الصندوق الدولي "مصاريف إدارية"،  وأحلوا الاعتداء على المحتجين الذين رفضوا الإعلان الدستوري وطريقة إنتاج دستور غير توافقي، فاعتدوا وضربوا وأهانوا إخوانهم المصريين المسالمين في احتجاجاتهم، واستحوذوا على السلطة، وتحاوروا مع معارضة مزيفة.. وأهانوا وشتموا خصومهم على الفضائيات، وكانوا قد كذبوا ثم كذبوا في وعود عدم ترشيح مرشح للرئاسة، ونكثوا وعودهم ومواقفهم الرافضة لوضعية خاصة لميزانية الجيش في الدستور، وهو ما تم رفض وثيقة السلمي من قبل بسببه، وفعلوا وفعلوا... عام مر، وظل المقال الأكثر مقروئية على هذا البلوج، فوجب التحديث والإشارة لما استجد، وتظل رؤية المقال التاريخية لعواصف الدعاة معبرة عن رأي ونظرة الكاتب)

أحمد غريب

من يملك الأزهر في ظل نظام سياسي جديد؟


  أي نوع من الشيوخ سيكون له الكلمة العليا في التأثير والفهم والمرجعية بعدما سيطر الإسلاميون على ثلاثة أرباع البرلمان، وقبله نجحوا في تحويل الاستفتاء على المسار السياسي لإنتاج نظام جديد إلى معركة عن الدين تكتلت فيها الأصوات بنسبة تفوق الثلاثة أرباع أيضاً مع خيار "نعم" الذي دعموه؟

قد تبدو معركة "أنواع الشيوخ" هامشية في سياق احتقان محاولات إنتاج نظام سياسي جديد، والمنعطف الخانق الذي تمر به الثورة بعد مرور عام على انطلاقها دون أن تلوح في الأفق ملامح تجديد حقيقية في النظام السياسي تمتص الغضب وتشبع قدراً معقولاً من التوقعات. لكن هامشية عنوان المعركة بالنسبة للموضوع المركزي حتى الآن: إنتاج نظام سياسي جديد، لا تعني عدم التساؤل عن المرجعية فيما يتعلق بأمور الدين، التي اختارت الأغلبية التأكيد على تمثيلها في البرلمان.

 تكمن الأهمية في أن الأمر يتعلق بدور الدين وبالقائمين عليه. وبشيء من المبالغة قد نجد الأزهر (وقانون تنظيم شئونه) وقد تحول إلى حجر أساس لهيئة تشبه مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيرانية، أو على النقيض قد يفرغ الإسلاميون الذين لهم تاريخ مناوئ للأزهر مضمونه كمؤسسة مرجعية ذات ثقل معنوي للاعتدال المصري.

 وفي كل الأحوال في ظل هذا المد الكبير للإسلام السياسي الذي ألقى بظله على البرلمان، وسيلقي المزيد على منافسات انتخابات الرئاسة - سواء فاز أحد المرشحين الإسلاميين (ثلاثة حتى الآن) أو لم يفز- سيكون على تكتلات الشباب الثائر من اليساريين أو الليبراليين أو من شباب الإسلاميين أنفسهم أو من غيرهم من الشباب الذي لايزال يبحث عن قنوات سياسية تعبر عنه، سيكون عليهم أن ينظروا مرة أخرى بدقة إلى ما وراء "الشيوخ" في العام الثاني من الثورة، فلا يزال الشباب حائرين أمام انبعاث قضايا تتعلق بالدين تجرف ثورتهم يميناً ويساراً في اتجاهات لم يتوقعوا أن تنحرف أو تُجرَّ إليها.

ولكن هل صحيح أننا أمام معركة للشيوخ؟ وهل هم فعلاً "أنواع"؟
هناك "أنواع الفرائض" و"أنواع السنن"، وتصنيفات فقهية أخرى تعتمد صيغة"أنواع كذا"؛ وهي صيغة تعني العلم بالشيء إلى حد الإلمام بالموضوع وتصنيفاته، وامتلاك منهج واضح للتصنيف. لكني هنا أقصد العكس؛ التساؤل عن وجود مثل هذا التقسيم للشيوخ، بعدما أصبحوا يطوقون العقل المصري من كل زاوية، ويلعبون في حياتنا دوراً أخشى أنه عكس ما استهدفه الإسلام، عندما انحاز للتنوير فلم يسمح بوجود كهنوت ولا رجال للدين يستغلون سلطة العلم به.

محمد حسان مع أنصار مبارك قبل موقعة الجمل
الآن، استغلال النفوذ السياسي للشيوخ بات كالسيرك، كحواة السيرك تحديداً، يُستَخدَمون لصرف انتباه الناس عن جوهر الموضوع السياسي. لقد عاشت البلد مكبلة مقيدة ممنوعة من أي تغيير سياسي لعقود، وأخيراً كسر الجيل الحالي قيد الصمت والجمود، فإذا بحواة السيرك الديني يملأون آذان عامة الناس لصرف الانتباه مستغلين تدفق العاطفة الدينية لدى المجتمع المصري.

الدين مرجعية هامة لدى الشعب، فبينما تشهد عملية استبدال النظام السياسي حصول الأحزاب الإسلامية على ثلاثة أرباع مقاعد البرلمان؛ فيما يبدو اختياراً أخلاقياً من الناخبين أملاً منهم في كبح الفساد، تزيِّن شجاعة رجال من الأزهر الأداء الفدائي للثوار، من خطيب التحرير إلى الشيخ الشهيد عماد عفت، بينما يطل علينا نفر آخر هم كالحواة مثل خالد عبدالله والجندي ومحمد حسان. وعلى الطرف الآخر يسجل النجاح الانتخابي الكبير للتيار السلفي المتشدد مفاجأة حتى للإخوان المسلمين أنفسهم.
إذن من هم الشيوخ؟ وكيف انقسموا أنواعاً؟

خطيب التحرير الشيخ مظهر شاهين


كانت البداية مع انتشار صيغة أو صفة "داعية" التي أثار عاصفتها الإمام حسن البنا مؤسس "الإخوان المسلمين"، خاصة أنه هو نفسه كان يجسد ذلك القلق الثقافي في وقته من عملية التحديث، بدءا من دراسته وتخرجه في كلية دار العلوم حديثة النشأة وقتها، والتي تأسست كمحاولة أكاديمية لعمل توليفة تجمع بين حداثة وعصرية المؤسسات الأكاديمية وتقليدية الأزهر. فجاءت صيغة شخصية حسن البنا نفسه تعبيراً عن الكلية التي درس فيها بارتدائه جلباب الشيخ مرة، وملابس الكشافة مرة، وربطة العنق مرة؛ جاءت شخصيته تعبيراً عن همِّ كان يشغل الكثير من محاولات الإحياء والنهضة في ذاك الوقت، والتي كانت تعتبر إعادة البناء الحضاري والتحديث الاجتماعي وسيلة التحرر من الاستعمار بالضرورة.

الإمام البنا بملابس الكشافة

ابتكر حسن البنا صيغة الداعية الحديث، ليصبح كل عضو في جماعته داعية في سلوكه ومظهره وتعاملاته التي يلتزم فيها بالتزام أخلاقي، بينما يؤكد على حداثة مظهره كإنعكاس لصلاحية الإسلام في كل زمان ومكان من خلال إحياء صورة الإنسان المتدين، التي كانت قد تراجعت كثيراً أمام تفوق صورة المحتل الغربي، وتم وضع "المعممين" مقابل "المطربشين" أو أصحاب القبعات كنقيضين. من هنا أصبحت سمة "الداعية" تُكتَسَب بعد تحصيل معرفي بسيط يتلقاه الأخ عبر حلقات دراسية يحضرها مع مجموعة صغيرة من الأشخاص يربطها الجوار الجغرافي في نفس الحي أو المنطقة، وبعد التأكد من التزامه طريق الداعية كما رسمته الجماعة.

لم يكن أحد يحمل لقب "الداعية" في بداية الموجة، لكن الكلمة كانت قيمة عامة يشار إليها باعتبارها سُنَّة؛ كون الرسول صلى الله عليه وسلم هو إمام الدعاة. فدلالة الكلمة كانت حول أسلوب وطريقة في نشر أفكار الجماعة يقتدي بمنهج الدعوة، وليست مؤهلاً أو درجة علمية، ولا وظيفة أيضاً، بل العكس إذ أن العمل الدعوي من خلال الجماعة تطوعي، إلا إذا تخصص بعض الأفراد في الوظيفة كشيخ.

أستاذ + شيخ = درعمي لا داعية

 لكن الأستاذ حسن البنا (كلمة أستاذ كانت المفضلة لديه هو وأتباعه من نفس جيله كسراً لتقليدية كلمة شيخ) أعطى أولوية لنشر أفكار الجماعة بين فريقين من الطلبة: الأزهريين وطلاب الدراسات العلمية كالعلوم والهندسة والطب بمشتقاته، وكان حرصه على مظاهر الشخصية الحديثة من حيث الملبس أو نوعية الدراسة جزءاً من "وصفة التحديث" التي كانت تلقى قبولاً من المجتمع كضرورة للتخلص من مستعمرين متفوقين. وكان خريجوا دار العلوم يسمون "درعميين" كتمييز لهم عن ثنائية "الأزهريين" و"الجامعيين"، أو "المعممين" و"المطربشين".

 تطلعت كل التيارات في تلك الفترة إلى التحديث؛ من ليبراليين ويسار وإسلاميين، وإن اختلف مضمون ما يحقق التحديث بحسب وجهة نظر كل منها، لذا كان تأكيد البنا مثلاً على إنتاج "الإخوان" للأفلام السينمائية والمسرح اللذين كانا يعدان أحدث صيحات التحديث وقتها، خاصة السينما (تستخدم هذه الإشارة من بعض الإخوان في السنوات الأخيرة داخل سياق مختلف يهدف إلى إظهار الانفتاح مقابل تشدد تيارات إسلامية أخرى تحرِّم التعاطي مع هذه الوسائل، وهو استخدام مختلف عن ما كان يهدف إليه صاحب الاستخدام الأصلي).

لكن الصدمة الأولى التي تلقتها كلمة "الداعية" واكتسب منها معنى الكلمة أول شحنة التباس كانت في معتقلات العهد الناصري، بعد صدام الجماعة مع السلطة، وانقلاب عبدالناصر على الإخوان كشريك كان قد وفَّر دعماً شعبياً لثورة يوليو في بدايتها حتى لا تبدو إنقلاباً على ملك شرعي تردد أنه كان ينوي اعتبار نفسه أميراً للمؤمنين.

كان الصدام قاسياً، وكانت الصدمة التي تلقاها مفهوم الداعية مصدرها "القياس"، وهو أحد أدوات الاجتهاد في الإسلام، حيث اختمرت الفكرة كالآتي: أن التعذيب الذي تعرض له المسلمون الأوائل كان بواسطة "أبو جهل" وأمثاله من الكفار، ومن يتم تعذيبهم في السجون يستعينون بنفس الآيات القرآنية حول صبر المؤمنين، والتي نزلت فيمن كانوا يتعرضون للتعذيب من الكفار، إذن فمن يقوم بالتعذيب ويأمر به في العصر الحديث هو شبيه لأبي جهل، وتلك البداية النفسية لمنهج التفكير.

 هنا كان رد الفعل من مرشد الإخوان المستشار حسن الهضيبي الذي كان معتقلاً، ومحكوماً بالإعدام مع إيقاف التنفيذ، بكتاب "دعاة لا قضاة" الذي كتبه في السجن. وهو كتاب مهم في تاريخ الجماعة وهو الإسهام الوحيد تقريباً لحسن الهضيبي الذي لم يكن مرتاحاً لعبدالناصر منذ بداية تحالفهما.

حافظت صيحة حسن الهضيبي "دعاة لا قضاة" على تماسك جسم رئيسي من الجماعة في محنتها، لكن ذلك لم يمنع من سلسلة من الإنشقاقات الفكرية ثم التنظيمية وضع حجر أساسها داخل السجون، والمثير أن هذه الانشقاقات حافظت على مفهوم "الداعية" أيضاً! ويشير الإخوان أنفسهم إلي أسباب الإنشقاق بـ "ضعف التكوين" والمقصود ضعف التثقيف والإعداد للكوادر التي اعتقلت وتعرضت لمحنة في السجون، نتيجة انضمام أفواج من الشباب إلى الجماعة بين فترة اغتيال حسن البنا عام 1949 ومنتصف الخمسينات إثر نجاح ثورة يوليو وتقدم الإخوان للمشهد السياسي مع الضباط الثوار، هذه الأفواج لم يتم تثقيفهم وتأهيلهم بالقدر الكافي.

كان الظلم والتعذيب وانتهاك حقوق الإنسان مصدر الخلل والإنشقاق، وليس غيره، لكن ضعف المعرفة بالدين، وعدم امتلاك القدرة على الاجتهاد والقياس، كان المصدر وراء رد الفعل الخاطئ والذي أحدث خللاً يوازي خلل الظلم والانتهاك ولكن مضاداً له في الاتجاه. فمن هذه الانشقاقات ظهر فكر جماعات العنف الجهادي التي عُرفت بالإرهاب، وكان أكثرها تطرفاً ما عرف بتنظيم "التكفير والهجرة" الذين كانوا يسمون أنفسهم "جماعة المسلمين" ويلقب قائدهم بالأمير، وكان اسمه شكري مصطفى، أما أكثرها شهرة فهي جماعة الجهاد ورموزها من عمر عبدالرحمن إلى أيمن الظواهري

عنف السلطة كان كارثة تحول في مسار عاصفة الدعاة التي تشهدها مصر منذ سقوط الخلافة

أين كان الأزهر؟

بعد أن وضعت الدولة السلطوية يدها الثقيلة على مؤسسة الأزهر اكتسبت المؤسسة بعض التحديث والاتساع وتمكنت من أدوات جديدة، فقد تم تزويدها بقدرات تخدم توسعة النفوذ المصري المتنامي على المحيطين العربي والإسلامي في العهد الناصري، من خلال منح دراسية لطلاب من دول إسلامية وابتعاث الأزهريين للخارج للإرشاد الديني، ثم تأسيس جامعة الأزهر ومدارسه المتعددة، لكن دورها السياسي أصبح مقيداً بالدولة، حتى أصبحت ظلاً للحاكم في صراعاته السياسية مع تيارات الإسلام السياسي في بعض الأوقات.

لكن الأمر لم يكن خلافاً حول العلاقة مع السلطة فقط، فلم يستطع اتساع المدارس والمعاهد الأزهرية وانتشارها جغرافياً استيعاب الطاقات الشبابية التي التمست في الدين ملاذاً من الانهيار والفساد بعد هزيمة 1967 وتحولات السبعينات. كان النمو العشوائي طاغياً في كل شيء، اقتصاد كامل يوازي ما هو رسمي، في البناء والمواصلات والتعليم وأيضا المساجد. وكانت محاولة الرئيس السادات إنعاش الحركات الصوفية لتستوعب جزءا من هذه الطاقة محاولة بائسة، ولم تنجح في جذب أنصار جدد بأعداد كبيرة، لكن التنافس بين الدعاة أخذ شكلاً استثنائياً في عهده باغتيال الشيخ الذهبي.

كان الدكتور محمد حسين الذهبى –وزيراً للأوقاف فى وزارة (ممدوح سالم ) فى الفترة من (أبريل 1975) –حتى(نوفمبر – 1976)، وكان قد دخل في مواجهة إدارية لتطهير الوزارة من الفساد والتسيب المالي وضعته خصماً لتلاعبات مالية تحوم الشبهات فيها حول أسرة الرئيس السادات نفسه، خاصة زوجته، ما أفقده تأييد ودعم النظام، في الوقت الذي بادر فيه الشيخ بعرض إجراء مناقشات مع الشباب القطبي (نسبة إلى الشهيد سيد قطب وهو خريج لدار العلوم أيضاً!) الذي يتزعمه شكري مصطفى ويدعو إلى التكفير، فكان أن تم اختطاف الشيخ الذهبي وقتله، وتحوم شبهات أيضاً أن العملية تم تسهيلها من قبل رجال أمن الدولة إن لم تكن بإيعاز منهم، والتضحية فيها برجل كان قد أصبح خصماً للنظام يفضح فساده.

لم يكن أمر "فزاعة" الإسلاميين منطلقاً من فراغ، حتى لو ظلت أطروحات جماعات العنف غير جماهيرية، كانت هناك بؤرة للخلل تنتج درجات وظلال من الفكر المتشدد في مجالات مختلفة من شئون الحياة وليس التشدد السياسي فقط، وكانت هناك أرضية من غياب الدولة، والسقوط الأخلاقي لهيبتها ولدورها في تقديم الخدمات، كل ذلك أسهم في صنع حقيقة الفزاعة، والتي غذتها واستفادت منها أجهزة الأمن التي أوكل إليها إدارة كل أزمات البلد.

خالد عبدالله.. التعصب المشبوه بولائه لجهات أمنية
 

إذا أردت أن تكون معارضاً فالأسهل أن تسمي نفسك داعية!

للأسف هذه حقيقة ما جرىت عليه الأمور، فقد وجد كثيرون في مسمّى "الداعية" متسعاً لكسر احتكار التعبير من قبل المؤسسات الرسمية التي تمجد حسني مبارك وزمانه وأفعاله! ولم يعد بمقدور مؤسسة بعينها احتكار إنتاج الدعاة أو "الشيوخ"، خاصة الأزهر الذي عانى من ثقل يد الدولة عليه من جانب ومن هجمات "الدعاة العشوائيين" انتقاداً لانحيازه للسلطة ضدهم أو على الأقل عدم مساندته لبعض أطروحات جماعات الإسلام السياسي؛ كونه يمثل رمزاً للاعتدال والوسطية. ولم يكن الأزهر بعد اغتيال الشيخ الذهبي في وضعية تسمح بعدم الوقوف ضد هذا العدوان على أحد رموزه، مهما كانت المبررات، خاصة أن الرجل دعا قتلته إلى الحوار لكنهم غدروه.

شيوخ الثورة وما بعدها

هناك شيوخ الأزهر بمؤهلاتهم، وهناك من يفوق إسهامه ومكانته لدى الناس أية مؤهلات مثل الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي لاتزال أصداؤه تصل إلى أيامنا هذه، خاصة أنه نموذج للداعية "الإعلامي" الحديث، فهو ليس من طبقة الشيخ محمد عبده الذي جمع بين السياسة والرؤية والتوجه الإصلاحي والأستاذية لجيل مؤثر، وليس كالشيخ سيد سابق الفقيه الذي قدم موسوعة فقهية عصرية، وإنما  يمثل الشعراوي نموذجاً لذلك التحول الكبير من عالم إلى رمز شعبي يتجاوز تأثيره الحدود التقليدية رغم أنه كشيخ كان تقليدياً. لقد كان الشعراوي نموذجاً لنجاح أسلوب التبسيط من خلال وسيلة إعلامية فائقة الجماهيرية.

محمد متولي الشعراوي.. التفسير بالعامية

 لم يرتد الشعراوي ملابس الكشافة، ولا قدم إنتاجاً سينمائياً؛ فقط توصل إلى طريقة الشرح المنسجمة مع الوسيلة الإعلامية المستخدمة، وفي ذلك شيء من العبقرية، تغيب عندما تقرأ أحاديثه مكتوبة في كتاب.

كانت ظاهرة الشعراوي نموذجاً للحالة التعليمية التي تدهورت إليها البلد، لذا كانت جماهيريته ظاهرة صوتية، تعتمد على تكرار الشرح، وتبسيطه، وطقس التلقي الممتع الذي يستحضر عناصر تراثية من قرون الإمبراطوريات الإسلامية، حيث يسترسل المتحدث في مجلسه ويفيض، فتتوالد فنون اللعب بالمرادفات والمتشابهات. لم يكن غريباً أن يبلغ ذلك الأسلوب مبلغه قديماً مع فن المقامة الأدبي، الذي يعتمد على السجع والجناس (يتم تفسير انتشار المقامة في القرن الرابع الهجري بسبب ضعف اللغة العربية في ذلك القرن)، لكن مع تدهور حالة التعليم، وتمدد العشوائيات في حياتنا لتصبح واقعاً يفرض أسلوبه باتت اللهجة العامية المصرية أقوى لتفرض نفسها على تفسير القرآن بلغته الفصيحة المحكمة. كان الشعراوي بأسلوبه تجسيداً لانتصار نمط إقتصادي واجتماعي، لكن تجسيد الشعراوي للوجه الحسن لم يمنع من موجة أخرى من "عاصفة الدعاة" يكون أقبحها تحول طباَّل في إمبابة إلى أمير داعية هو الآخر.

بإسقاط المؤهلات العلمية، ودرجات الترقي المطلوبة لأن يكون المرء شيخاً، وتحولها إلى علاقة إعلامية (عرض وطلب) أصبح للجمهور الكلمة العليا، فلم تجد المؤسسة الأمنية إلا دس مندسيها ضمن هذه الظاهرة، وهم من يقال لهم "شيوخ أمن الدولة" الذين استمعنا لهم يحذرون من الخروج على الحاكم وقت تساقط مبارك، أو يبررون ضرب المتظاهرين بعد خطابه الثاني الذي وعد فيه وعداً كاذباً بتسليم السلطة. هؤلاء الشيوخ عاثوا في الإعلام فساداً بهدف تمييع الموضوعات المهمة، وتضليل الناس في القضايا الحاسمة منذ الاستفتاء على منهج التغيير السياسي بعد الثورة.

لكن بالمقابل تقوم عملية الوعي السياسي التي أطلقتها الثورة بفرز لهم. وعلى الجبهة المقابلة يجسد خطيب التحرير نموذجاً رائعاً للشيخ الوطني، وبالمثل الشهيد عماد عفت، وهما ومعهما أفواج من الأزهريين الذين أطلقتهم الثورة يسعون لاستعادة قيمة الأزهري ودوره وتأثيره التي تآكلت بسبب سيطرة الدولة على هذه المؤسسة، خاصة بعدما بلغت الدولة مستويات كبيرة من الفساد وفقدان القدرة على القيام بدور الراعي للشعب.

في الحقيقة نحن لا نعرف كثيراً عن الوضع الداخلي للأزهر بعدما ظل طوال هذه العقود تحت التأميم، وظل سنوات مجرد ظل ديني لرغبات مبارك ونظامه، نحن لا نعرف مدى رضاء الأزهريين عن مؤسستهم بوضعها الحالي، ولا نعرف أيضاً حدود تطلعاتهم السياسية؛ الأزهر مؤسسة ذات تأثير كبير لكنه أيضاً حائر فلم يكن ينظر له إلا باعتباره معارضاً للتحديث قبل ثورة يوليو، وعنصراً كمالياً بعدها؛ لم يكن جزءاً من أي مشروع للتحديث، والحقيقة أن ذوي النزعة الليبرالية الذين يلجأون للأزهر كلما امتدت مظلة التشدد، لم يقوموا بدورهم في تحفيز هذه المؤسسة على الانخراط في أي مشروع للتحديث الفكري.

كيف سيتعامل المصريون مع نجاحهم في إيصال كل هؤلاء "الدعاة" إلى البرلمان؟ (حالياً تم حل البرلمان ووصل مرشح الإخوان المسلمين لمنصب الرئاسة) كيف سيتعاملون مع عالم الدعاة الذي لجأوا إليه كبديل لإضفاء قيمة ومكانة على صوتهم الشعبي المعارض لعدوانية الدولة على شعبها؟  كيف سيتم ضبط العلاقة بين كل هؤلاء في ظل إمكانية إطلاق التفسير وراء التفسير وراء التفسير، لكل شيء وفي كل شيء ودون مرجعية أو قاعدة علمية متينة. لا أقصد هنا فتاوى أمن الدولة التي تهدف إلى الإلهاء، مثل إرضاع الكبير وما إلى ذلك، ولكن مع وجود نحو أربعمائة "داعية" في البرلمان، و(آلاف الأزهريين في الميدان!) ومئات الدعاة على شاشات التلفزيون، كيف ستصوغ مصر جدول أعمالها ونظرتها لمستقبل نظامها السياسي، وإدارة شئون البلد؟

ذات مرة انتقدت الشيخ يوسف القرضاوي، كونه اهتم بالإفتاء في "المسيار" الذي يهم عدداً محدوداً من أثرياء منطقة الخليج، بينما كانت ترزح الكثير من النساء المصريات تحت وطأة التعسف في قوانين وإجراءات الطلاق، وتأخر الحل القانوني الذي جاء في شكل قانون الخلع. فلفتت انتباهي صديقة إلى أن القرضاوي لم يمنح أهمية للمسيار، وإنما كانت فتواه إجابة على سؤال، وبعض الأسئلة توجه عبر الإعلام، من المتصلين، وقد لا تهم إلا عدد محدود منهم.
هذا تحديداً أسوأ ما يمكن أن تصل إليه عواصف الدعاة الإعلاميين، ومنهم للأسف من يترشح للرئاسة استناداً لشعبيته. للأسف رغم وجود مئات الدعاة في البرلمان المصري الآن، لم يخرج أحد أو تيار منهم ببرنامج نناقشه، يبين منهجه "الإسلامي" في مراجعة التشريعات، أو اقتراح الخطط والقوانين، بل النكتة أنه يبدو أن هناك اتفاق على أربعة فصول من خمسة هي دستور 1971، إذن لماذا كان رفض بعض الوثائق الاسترشادية حول كتابة الدستور بمساهمة أساتذة الجامعات وممثلي النقابات والاتحادات المهنية في كتابة الدستور (وهي هيئات منتخبة كلها بعد الثورة بحيادية أكثر من حيادية انتخابات البرلمان)؟
 الجميع في انتظار سؤال أحد المتصلين، ليدلي بفتواه.
أرجوكم خيبوا هذه الظنون.

إطلاق الطاقات أحد مطاالب الأزهر بعد الثورة 

Friday, January 20, 2012

متحف الأحذية.. تاريخ الشعوب "سيراً على الأقدام"

"الكعب العالي" وصل أوروبا بتحالف الفرس والإنجليز ضد الأتراك!
 
الحذاء الفارسي الذي نقل الكعب العالي لأوروبا ومنها إلى العالم

أحمد غريب
Photos: Bata Shoe Museum- Toronto

تقترح الباحثة الكندية إليزابث سيميلهالك نظرية مثيرة حول انتقال حذاء الكعب العالي إلى أوروبا يلعب فيها التحالف السياسي بين الفرس والإنجليز ضد الأتراك العثمانيين دوراً رئيسياً، وتشير نتائج نشرها متحف "باتا للأحذية بتورنتو" إلى الجذور الفارسية لهذه الموضة التي بدأت كحذاء للفرسان ثم أصبحت حكراً على النساء، وتسلط سيملهاك الضوء على دور التحالف بين الإنجليز والشاه عباس الأول الذي حكم إيران في أواخر القرن السادس عشر ضد الأتراك العثمانيين الذين شهدت إمبراطوريتهم نمواً هدد طرق الوصول إلى المستعمرات البريطانية.
 تعمل سيملهاك باحثة وأمينة مقتنيات متحف باتا للأحذية الفريد من نوعه في تورنتو، والذي يعرض 12500 قطعة هي مقتنيات السيدة سونيا باتا منذ أربعينات القرن العشرين، وقد أصدر المتحف كتابين لسيملهاك المتخصصة في تاريخ الفنون، تشرح في أحدهما ملابسات انتقال الكعب العالي إلى أوروبا، ودور الرفض المسيحي في القرون الوسطى للحمام الشرقي في تراجع صناعة القبقاب أوروبياً رغم نشأته اليونانية، إلى جانب تتبع تفاصيل تاريخية إنسانية حول مقتنيات المتحف من أحذية يعود بعضها إلى الفراعنة والعهد القبطي في مصر.
تستمد نظرية سيملهاك حول الأصل الفارسي للكعب العالي من ثلاثة شواهد في تصميم الأحذية الفارسية ورسومات بعضها للشاه عباس الأول وفرسانه مرتدين أحذية الفرسان ذات الكعب العالي والتي اشتهرت لاحقاً كأحذية لـ "الكاوبوي"، وقد نال فرسان الشاه إعجاب الأوروبيين حيث لعبوا دوراً في لجم التوسع العثماني، والشواهد التي أوردتها الباحثة هي: موضع الكعب من الحذاء، استعمال نعل من الخشب مغطى بعدة طبقات خشبية يتكون منها الكعب المعروف حالياً بأنه تصميم إنجليزي، استلهام تصميم ذيل السمكة الفارسي في شكل الحذاء.
 وتستبعد الباحثة الكندية فكرة تطوير صنَّاع الأحذية لأسلوب ترقيع الحذاء بقطعة جلدية ليراكمو طبقات تصنع كعباً عالياً، بل تعتبر ذلك التفسير سخيفاً كونه تجاهل لحقيقة واضحة تاريخياً أن الكعب العالي وصل إلى أوروبا من الشرق، وأن نماذجاً منه وُجدت بين مقتنيات بعض النبلاء من أحذية مشرقية تلقوها هدايا من بعض الأتراك العثمانيين وغيرهم ضمن محاولات ترطيب العلاقات خلال القرنين السادس والسابع عشر.
وتتخذ الباحثة الكندية من تاريخ صنع حذاء ذي كعب عال للملكة إليزابث الأولى عام 1590 نقطة تحول في تاريخ صناعة الأحذية في أوروبا، وهي الفترة التي شهدت انتقال مركز الموضة من فينيسيا إلى شمال أوروبا، وتحديداً إنجلترا وهولندا، وتوجد وثيقة تؤرخ لأحد أوامر تصنيع الأحذية للملكة عام 1595 وُجدت بين دفاتر حساباتها تتضمن مواصفات الحذاء المطلوب وهي "أن يكون من الجلد الإسباني، وذا كعب عال، ومقوس الشكل".
    من أوائل أحذية الكعب الأوروبية بتصميم ذيل السمكة الفارسي
من الفروسية إلى الأنوثة!
وقد وجدت سيملهاك أن ارتداء الكعب العالي خلال القرن السابع عشر علامة انتماء للطبقة العليا، وقد ارتداه كل من الرجال والنساء والأطفال بشكل واسع ولم يعد مقصوراً على أغراض ركوب الخيل والفروسية التي انتقل بسببها من فرسان الشاه عباس الأول إلى حلفائه الإنجليز، وتتكئ أطروحة الباحثة على أن الكعب العالي كان غير عملي للمشي، وهو ما لبى تطلع الطبقة العليا للتميز لعدم إمكانية انتشاره بين الطبقات الأدنى كونه غير مناسب للأرض الطينية.
وعن تحول ارتداء الكعب العالي إلى سمة نسائية فقط ترصد الباحثة موجة "تمييز الرجولة" في الثقافة الأوروبية خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر، والتي تحدثت عنها بوضوح مسرحية السير جورج إيثيرج الكوميدية عام 1676 "رجل الموضة"، وصولاً إلى كتابات توماس باركنز عام 1714 التي تدعو الرجل إلى تقصير كعب حذائه درجة أقل من امرأته، حتى اعتبر الكعب العالي حكراً على النساء وحدهن عام 1730.
 ويبدو تراث الشعوب كما يعرضه متحف باتا للأحذية خليطاً من صراع القيم الثقافية، حيث يحتوي بعضاً من نوادر المقتنيات الفرعونية يعود تاريخها لأكثر من أربعة آلاف سنة وأخرى قبطية صنعت حوالي عام 400 م، ومجموعة من قوالب الأحذية الفارسية تعود إلى 800 عام قبل الميلاد، إضافة إلى أحذية أخرى تقوم سيملهاك بتتبع تاريخها الإنساني من أطرفها حذاء فارسي مزين بكثير من الخرز من القرن الـ 19 وُجدت داخله ورقة ملفوفة هي قصيدة شعر من صانع الحذاء لمن ارتدته! كما يقتني المتحف حذاء تزلج بأربع عجلات معدنية صُنع عام 1840 وهو قطعة "تقدمية" بكل المقاييس حيث لم يكن تركيب عجلات للحذاء منتشراً وقتها!
وعن القيم الثقافية والجمالية وراء أشكال الأحذية تقول سيملهاك: "خلال بحثي وجدت أن كلا من العامل الوظيفي والجمالي ليسا الأكثر تأثيراً، فمثلاً أحذية البربر تتميز برقبة عالية للحماية من زواحف الصحراء، لكن أشكالها تأثرت بقيم أخرى حيث يرمز شكل الضفدع إلى جلب الخصوبة، والمثلث إلى إبعاد الأعين الشريرة، بينما تجد أصداء الميل القبطي للون الأحمر في زي رجال الدين حالياً، وترى تأثيراً حاسماً لرفض المسيحية في أوروبا للحمام الشرقي على اختفاء صناعة القبقاب في أوروبا، بينما تشاهد ازدهاره في بلاد إسلامية بسبب حث الثقافة على الاستحمام".

حذاء قبطي من القرن الرابع من مقتنيات متحف باتا بتورنتو
وتوضح الباحثة الكندية: " ما جذبني إلى هذا النوع من البحث التاريخي منذ عشر سنوات هو تقديري للأعمال التي عبرت عن لحظتها وكان لها قيمة وقت صناعتها، فهي صُممت ليتم ارتداءها وتعيش لحظتها، والكشف عن ما كانت تعنيه لكل من صانعها ومرتديها هو ما يحفزني على البحث التاريخي".
 وتشير سيملهاك إلى قصة "صانعة أحذية أمريكية الأصل تدعى سين كويت ستيرم (من الهنود الحمر) صنعتْ تصميمات أحذية تنتمي إلى مناطق أخرى في أمريكا وكندا بعيدة تماماً عن منطقة "كودو" التي عاشت فيها، وهي تكساس الحالية، وقاد البحث إلى الربط بين تاريخ الصناعة 1909 وقرار حكومة الولايات المتحدة بترحيل جميع السكان الأصليين من ساحل الأطلنطي وشرق القارة إلى ما وراء المسيسيبي، حيث تعلمت هذه الإسكافية تصميمات من هنود حمر آخرين لم تكن تعرف لغتهم، ومنها أحذية صُنعت للسيدة فرجيل روبينز، وقد نظم باتا معرضاً لأحذية هذه الفترة وفوجئتُ باتصال الحفيدة الرابعة لهذه السيدة ورغبتها في حضور معرض أحذية جدتها".
60 عاماً في جمع الأحذية!
بدأت السيدة سونيا باتا جمع الأحذية في أربعينات القرن العشرين، ولا تزال مستمرة في هوايتها، وهي المصدر الوحيد لتزويد المتحف الفريد من نوعه في العالم بمقتنياته. وقد تأسس مشروع المتحف في تورنتو عام 1979، وفتح أبوابه في مقره الحالي بشارع بلور عام 1995، ونال تصميم مبناه المكون من خمس طوابق جائزة أفضل تصميم في كندا لنفس العام، حيث يستلهم المبنى فكرة صندوق الأحذية، ويحولها إلى نوع من المغامرة الطفولية عند  الانتقال من طابق إلى آخر، إلى جانب طريقة العرض التي تشجع على التعرف على الجانب الإنساني وراء كل من صانع الحذاء ومن ارتداه.
تزوجت سنويا باتا المولودة في سويسرا توماس باتا عام 1946، وهو من عائلة تشيكوسلوفاكية شهيرة هاجرت إلى كندا مع نشوب الحرب العالمية الثانية، وتم تأميم ممتلكات العائلة في تشيكوسلوفاكيا عقب الحرب تحت الحكم الشيوعي. وقد أولت سونيا باتا اهتماماً بتوثيق تاريخ كل من الحذاء العادي الذي ارتداه الإنسان عبر التاريخ وكذلك التصميمات الغرائبية، وقامت خلال رحلاتها بتوثيق طرق الصناعة وأدواتها وتاريخ الطبقات الاجتماعية واختلاف ذوق المرأة والرجل، وقد نالت عديداً من جوائز التقدير كسيدة أعمال وكناشطة اجتماعية.


 
قبقاب سوري من القرن الثامن عشر


حذاء صنعته أمريكية من الهنود الحمر



Saturday, January 7, 2012

وماذا عن مدمني أفيون الشعوب؟

ليس حزب النور وحده من يقف في خانة مروجي أفيون السطة



أحمد غريب
ترك مبارك تركة ثقيلة، ليس فقط من ناحية الإقتصاد، أو رأسمال الدولة من التعليم، فهناك ما هو أخطر، إنه العقلية نفسها التي أدمنت الأفيون السياسي، خاصة أن نظام مبارك استخدم كل أنواع الأفيون من الخطاب الديني المشوه، إلى النبرة الوطنية الزائفة التي يهب أصحابها رافضين أي نقد للسلطة القائمة على إدارة شئون البلد، خاصة لو كانت ترتدي زيا عسكرياً.
لم يكن مبارك بدعة، هو مجرد امتداد لديكتاتورية تأسست على أهداف وطنية مناهضة لاستعمار كان قد امتص رحيق البلاد سبعين عاما سبقته. ما مبارك إلا امتداد متدهور لنظام فقد الغاية من وجوده، فلم يعد لديه إلا استخدام توليفة مكثفة من "أفيون الشعوب" تفادياً لمأزق أن يحكم البلد بالقوة العارية، وهو المأزق الذي وصل إليه النظام عندما انهارت مؤسساته الإعلامية الرسمية أمام الإرادة الشعبية التي تجسدت والتحمت مكوناتها في ميدان التحرير خلال يناير الماضي.

ولكن هل يعني ذلك أن مدمني الأفيون أنفسهم قد توقفوا؟
أبدا.
توفيق عكاشة أو أحمد سبايدر أو الشيخة ماجدة أو الشيخ الجندي ليسوا إلا وسائل محفزة، مجرد جرعات لإبقاء المدمن في دائرة عدم النجاة من الإدمان، دائرة النكوص.

أما جرعة الأفيون الحقيقية فهي المجلس العسكري نفسه؛ تلك الصورة الوطنية لرجال بالزي العسكري يحمون البلد من الانهيار، وقد استخدمت كل أساليب التخويف بكثافة، من فتن طائفية، وتهديد بنقص في المخزون المالي للدولة، ثم استبدل هذا الموضوع ليحل محله "عجلة الإنتاج" حتى لا تؤدي تلك النغمة إلى فزع عام يصيب الملايين، وتم اللعب على وتر المؤامرة الخارجية بشدة، وتم تسهيل إن لم يكن ترتيب اقتحام سفارة إسرائيل ( لا نعلم إن كان موضوع قتل الجنود المصريين على الحدود مصطنعاً)، ثم تم الدفع في موقعة العباسية وفي أحداث ماسبيرو بالعناصر الأمنية ذات الملابس المدنية لإثارة النموذج الذي يعرف بـ"المواطن الشريف" الذي يهب لنجدة الوطن فيضرب ويعتدي على من يقال عليهم خونة مدفوع لهم أموال من الخارج.

 هذا النموذج الذي اعتمد عليه نظام مبارك في فض الاحتجاجات عامي 2005 و2006 أعيد إحياءه في موقعة العباسية يوم 20 يوليو 2011، ثم تم استخدامه استخداما أكثر خطورة في أحداث ماسبيرو، حيث تجاوز الأمر موضوع االإدعاء بأن الخصوم السياسيين خونة للوطن، إلى التحريض الصريح في التلفزيون الرسمي ضد طائفة الأقباط المصريين، بما يهدد البلد بفتنة طائفية عميقة.

وسط هذه المخاوف الكبيرة التي تمت محاصرة المواطن البسيط بها، والتي تهدد بقوة حالة الحلم الجميل التي عاشها عندما انزاح كابوس مبارك عن كاهله يوم 11 فبراير، ليس أمام هذا الإنسان البسيط إلا الدفاع عن حلمه، أو حتى عن أفيونه بأن يساهم هو في عملية الكذب على نفسه، أو التعسف في تأويل الأمور لتظل الكذبة مقنعة.

وقد باتت حقائق الوضع السياسي واستجابات الجمهور تجاه الصراع السياسي الدائر في البلد انعكاساً لتمسك قطاع كبير من الناس بإدمانهم السابق لأكذوبة المستبد العادل، بل إنهم يطالبون المستبد بالقسوة وضرب المتظاهرين الذين يهدد نشاطهم إيقاظ المدمن من حلمه اللذيذ.

هذا القطاع ليس هو المستهدف من الدعوة التي يحاول بعض السياسيين ترويجها مؤخراً بمنح حصانة للمجلس العسكري من أي ارتكابات تستحق المحاكمة خلال الفترة الانتقالية، لأن قطاع مدمني أفيون الشعوب لا يتطلع أصلا إلى محاكة السلطة الحاكمة له، هو فقط يحلم بها كمستبد عادل، ولذلك يؤيد قسوتها على المتظاهرين الذين يهددون استمرار حلمه الجميل بنجاح الثورة ووجود مستبد عادل يحميها. من تتوجه لهم هذه لعبة الحصانة هم من أيقظتهم من الحلم أحداث الفترة الماضية وتناقضات خطاب السلطة في تفسيرها!

لا يستطيع مدمنوا أفيون الشعوب "سواء كان خطاباً يتستر بالدين أو بالوطنية" الخروج من السلطة البطريركية فجأة. منهم من كان مؤيداً للثورة، غاضباً أشد الغضب من مبارك، لكن ليسوا كلهم بنفس القدر من الغضب الثائر، بعضهم ضايقته أحوال البلاد بشكل عام، بينما استطاع البعض أن يؤمن لنفسه صيغاً مادية للعيش وسط الفساد، ضيقه كان من الخدمات وأشياء أخرى، لكنها ليست بأهمية وجود البطريركية وأفيونها ليواصل دعم أو حتى تقبل من يناضل من أجل تغيير النظام إلى الآن.

الخطير في هؤلاء أنهم ليسوا كحالة "متلازمة استوكهولم"، التي تعبر عن ضعف ولا تملك طرح البديل، ما يجعل خيار أصحاب المتلازمة بتقبل الظالم مثيراً للشفقة، وغير جماهيري، بل مجرد رد فعل عصبي يعقبه نوع من الإنزواء
.
مدمنوا البطريركية أكبر قطاع شعبي للأسف في مصر، هم مرتاحون لاستبدال مبارك ومجيء عسكر آخرين، وهم ضد فكرة التغيير بل مع الاستقرار. هؤلاء لا يتقبلون غير رسالة إعلامية تحتفل بالثورة وبالوطن. رأيت وتابعت منهم كثيرين، من خلال جروبات على الفيسبوك ينشط عليها بعض الإسلاميين وإن كانت الجروبات نفسها تحمل سمات التجمع الوظيفي او روابط الصداقة بحسب المنطقة أو الانتماء الإقليمي إلى نفس المحافظة. كانوا ينشرون لهم مواداً احتفالية طوال السنة، وينظمون لقاءات مباشرة على إفطارات رمضانية أو سهرات عشاء، كلها فرح واحتفال، يعقبها نشر احتفالي للصور على الفيسبوك. بالطبع كانت هناك احتفاليات افتتاح المقرات الإخوانية، واحتفاليات بيع السلع المخفضة في أسواق وسرادقات ينظمها السلفيون والإخوان (يُتهم الإخوان بأن فرق التخفيض في الأسعار مصدره أموال الزكاة). جمهور تلك الرسائل الاحتفالية يرد بعنف على كل من يحاول إيقاظه من الحلم الجميل الذي يعيشه؛ وهؤلاء لا أمل في زحزحة مواقفهم بأنشطة ثورية، هم يحتاجون عملاً خدمياً تطوعياً، وتدرجاً بطيئاً حتى يخرجوا "خروجاً آمناً" من الحلم اللذيذ الذي اعتادوه، لقد اعتادوا الكذب على النفس وليس فقط المبالغة في تصوير الأشياء.



 البطريركية بكل أشكالها سواء عسكرية أو دينية توزع أفيوناً معنوياً على الشعوب، لكن النظام في مأزق، وقد بدا ذلك واضحاً في بشاعة الجريمة التي ارتكبها أذنابه في استاد بورسعيد، وقد سبب ذلك قلقاً كبيراً أصاب من كانوا لايزالون يصدقونه بإحباط، وافاق كثيرون منهم من سطوة التخدير.

 لكن هؤلاء المدمنون لن يتوقفوا عن تعاطي هذا الأفيون بسهولة، أسهل عليهم تخوين من يحاول إيقاظهم، أو تجريحه، فيتم التساؤل :" وإيه اللي منزلها التحرير؟"، أو: "وإزاي تلبس العباية على اللحم؟"، أو: "أعطوا الجيش فرصة.. 6 أشهر فقط" رغم مرور عام، أو يستسهلون ترديد دعاوي التمويل الخارجي والتخوين، وتكرار رسائل التخويف من المجهول الغامض غذا رحل رجل عجوز عمره 79 عاماً عن كرسي السلطة!

ما الحل؟
لم نسمع أبداً عن مدمن سعيد خلال فترة توقفه عن تعاطي المخدر.
الألم والصراخ، والرفض، وتوجيه الشتائم لمن يساعده على العلاج؛ كل ذلك من مظاهر التعافي. لكنها كلفة كبيرة على من يقدمون التضحيات.

كشف تناقضات الإعلام الرسمي عبر الإعلام الإلكتروني البديل كان وسيلة وأداة منذ ما قبل الثورة، وهو أداة مستمرة، بل تطورت أساليبه، لكن ذلك لا يكفي، فالسؤال الذي اعتمده مؤخراً أنصار السلطة البطريركية "وماذا يريد المتظاهرون الآن؟"، وهو سؤال يرددونه خلف من يمنحهم الأفيون دون أن يقصدوه حرفياً، لكنه سؤال ماكر بالفعل تم وضعه على ألسنتهم، فالأنشطة الحقوقية التي تعتمد على إظهار الجانب الوحشي في السطة وأنها لم تختلف كثيراً عن النظام السابق، بل هي تكرار وامتداد له يسحل ويضرب ويعتقل ويجري محاكمات إستثنائية؛ كل تلك الأنشطة دفاع يلتمس تأييد الجماهير من خلال "التعاطف" مع من وقع عليه الظلم  وتعرض للعنف، وحتى هذا الأمر يخضع لجدل بين الإعلام الرسمي والإعلام البديل، لكن يبقى السؤال الخبيث نفسه.

في هذه الحالة، كما حدث مع أحداث ماسبيرو ومحمد محمود، ومجلس الوزراء، يكون كشف التناقضات دفاعياً، وقد أعقبه مؤخراً حملة "كاذبون" الهجومية نسبياً للخروج إلى ميادين أخرى غير التحرير، لكن لايزال الأمر موضوعاً للمشاهدة والفرجة من قبل أبناء وطننا المدمنين لأفيون السلطة، دون أن يشعروا بأن المطالب تمسهم مساً مباشراً.

من الأفضل للحملة المقبلة التي انطلقت مع الذكرى الأولى لثورة 25 يناير أن تطرح البعد الإقتصادي في عملية نقل السلطة، فوجود المجلس العسكري لفترة أطول عقبة إقتصادية ثقيلة على البلد، التسريع بالانتخابات الرئاسية من شأنه أن يعيد السياحة إلى دائرة التنشيط، وأهم من ذلك أن يعيد لمنصب "الرئيس المصري" دوره ومكانته الدولية، فلا توجد بلد الآن لديها استعداد لتوقيع اتفاقات جديدة ذات توجهات تنموية غير التي كانت أيام مبارك في ظل وجود سلطة باهتة ليس من المعروف مستقبلها، فلا هذه السلطة اكتفت بالدور الانتقالي ورحلت بعد 6 أشهر، ولا هي ااستطاعت إقناع شعبها ببقائها.

 لا يستطيع رئيس مصر الحالي تمثيل مصر في المحافل الدولية، ولا الضغط الاستراتيجي باتجاه أي موضوع دولي أو إقليمي، إنه رئيس "شكلي" إن جاز التعبير وليس مجرد رئيس انتقالي.

لابد للمطالبة بتسليم السلطة أن تظهر على حقيقتها أمام الناس، كرغبة في تحريك حقيقي لعجلة الإنتاج، وليس نزاعاً على من يتولى السلطة، أو رفض شخص أو جهة في حد ذاتها (المجلس العسكري). لقد انتهت الفترة الانتقالية، ومصر بلد كبير لا يمكن أن تستمر فترة طويلة بقيادة "شكلية"، لا توجد بلد في العالم يمكنها أن تدخل معنا في اتفاقية تعاون إقتصادي يتضمن برنامجها سنوات من تبادل المنفعة والاستثمارات، لأن توقيع السلطة الحالية على أي اتفاق من هذا النوع ليس له قيمة في نظر شركاء دوليين سيطلب منهم استثمار أموال، أو نقل تكنولوجيا، او فتح أسواق. مصر أكبر من أن تعيش عامين بلا رئيس، وبلا سياسة وخطط تنموية، خاصة بعدما خضعات عجلة إنتاجها لتلبية فئة محدودة من أبنائها طوال تلك السنوات إلى جانب عمليات النهب المنظم والتي لاتزال مستمرة، فقد كشف تقرير للبنك الجولي أنه تم تهريب 19 مليار دولار للخارج في عهد حكومتي شفيق وشرف، لابد لهذا الوضع أن ينتهي، وننتقل لسلطة مدنية منتخبة من الشعب.

هذه الأمور وغيرها ينبغي توضيحها لمن يعيشون تحت تاثير المخدر بأن الثورة نجحت وأن قيادة الجيش وطنية تحمي البلد من الخونة.. لا سبيل لإيقاظ هؤلاء من حلم كهذا إلا بمخاطبة مصالحهم والنداء على وطنيتهم


الصورة من اعتصام 8 يوليو، وقد مضى عام الآن على الفترة الانتقالية.