Tuesday, September 27, 2011

عن فقه الأولويات

أحمد غريب

بداية تفكيري في هذا المقال رغبة في الكتابة عن الكاتب الصحفي فهمي هويدي، أو تلك الفترة عندما كنت طالباً في كلية الإعلام أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، حيث طُلب منا في الكلية أن نصنع أرشيفنا الخاص لكاتب أو أكثر، ولموضوع أو أكثر، نتابع تطوراته ليكون الواحد منا إعلامياً معنياً بهذا الشأن فاهماً له. وقد وجدت في فهمي هويدي، ضمن مجموعة من الأسماء منها لطفي الخولي موضع إشكالية أردت متابعتها: أزمة السياسة مع التزام الأيديولوجيات. وهي أزمة عكسها شيوع استخدام تعبير "فقه الأولويات" مؤخراً من قبل مؤيدين للتيار الإسلامي لتبرير اختيارات سياسية لجماعة منهم، أو فصيل داخل هذه الجماعة؛ دون إدراك للتناقض الكبير بين العاطفة الدينية المرتبطة بكلمة "فقه" وما تقتضيه من "ولاء" و"انصياع"، وبين المرونة القصوى لكلمة "أولويات". ربما وقتها، عندما استهوتني تناقضات السياسة والأيديولوجيا، كنت اجتاز عتبة المراهقة التي أمضيتها ككثير من الشباب المصري قريباً من نشاط الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات، التي عاشت صعوداً كبيراً في الثمانينات، وإن زاد اقترابي إلى حد أكثر من مرور عابر. وقتها، كان لمقال فهمي هويدي يوم الثلاثاء في الأهرام وقع متميز، فقد مثل صوتاً إسلامياً جديداً وإصلاحياً يتكلم عن مفهوم المواطنة من زاوية إسلامية وينتصر له مقابل الذمية، ويطلِع قراءه على تجارب في التحديث لحكومات إسلامية أو مشاريع حكومات تحاول الإفادة من غطاء ديني في إصلاح شئون الدولة، كان أكثرها تشدداً في إيران يتمثل في الإصلاحي محمد خاتمي، وأكثرها نجاحاً في تسريع التنمية ماليزيا وإندونيسيا، بينما مثل صعود الإسلاميين عبر آليات تعزيز الديموقراطية في تركيا (من المحليات إلى البرلمان) تجربة مثيرة للإعجاب لمن يعيشون في دول عربية تحت طبقات من التسلط العسكري والعائلي والطائفي تجثم على الصدور والعقل. كان القاموس الذي يستعمله هويدي ملفتاً، مصطلحات وتعابير جذابة كونها تستخدم مفردات دينية أو تراثية في وصف شئون معاصرة، ولم يكن هذا القاموس مألوفاً في نظر كثيرين، إذ كانت تلك التعابير بعيدة عن مجريات الأحداث في القرون الأخيرة، لكن رشاقة الاستخدام في بعض الأحيان من ناحية، وصعود حكومات إصلاحية إسلامية خارج العالم العربي كانت كلها تدفع إلى السؤال: ولمَ لا؟ في مقاله مثلاً قرأتُ عن تلك الدعوة المخاتلة للملك حسين، ملك الأردن السابق، والتي نادى فيها بـ "التقدم إلى الإسلام" مقابل دعاوي "الرجوع" و"العودة" التي شاعت في الخطاب الديني، ورغم أن أحداً لم يثق أبداً في الملك حسين لارتبط اسمه دائماً بالعمالة في أحط صورها: التجسس لصالح إسرائيل، إلا أن هويدي تلقف الدعوة بحماس كونها صياغة مثالية لما مثله صعود التيار الإسلامي وقتها في دول نامية تمتعت بمؤهلات مكنتها من طرق أبواب التحديث، وبينما كان الملك حسين يتيح للإسلاميين مشاركة محدودة في برلمانه كانت اللافتة المصرية لصعود نفس التيار هي "الإسلام هو الحل"، وقد لقي هذا الشعار نجاحاً، وأثار جدلاً أيضاً كونه بلا محتوى سياسي؛ اللهم إلا استبدال العفة بفساد مثله في الحزب الوطني وقتها يوسف والي (تلاه أحمد عز لمن لم يشهد هذه الفترة).

الإسلاميون في الحكم
سقوط التجربة الديموقراطية في الجزئر مطلع التسعينات منح الخطاب الإصلاحي للإسلاميين فرصة لعب دور الضحية، وهو دور تتوفر لمساندته أدبيات كثيرة يتم تدريسها داخل أوساط الجماعات الإسلامية المختلفة لصياغة هوية مختلفة لأعضائها عن بقية المحيط الاجتماعي الذي يعيشون فيه، فلكي تبرر الاختلاف والمعاناة لابد أن تمنح قيمة إنسانية عليا لمن تلقنه تعاليمك، وهي قيمة أن تكون الضحية بينما تواصل بمضاء ممارسة الدعوة، ويستدعي ذلك إرثاً ثقافياً عريقاً في التعاطف مع المظلوم سواء الذي يتم الاستيلاء على حقوقه أو الذي يتعرض للتعذيب لصرفه عن غايته. يصل خطاب الضحية إلى أعلى مراتبه تجرداً في تفسير سيد قطب لسورة البروج، وهو تفسير أعاد صياغته مرة أخرى تحت عنوان "استعلاء الإيمان" في كتابه الأخير والمثير للجدل "معالم في الطريق"، حيث يصل الأمر إلى الاحتفاء الكامل والمطلق بكون المؤمن/ الداعية ضحية دون أي وعد بانتصار مستقبلي يأتي بعد تضحية كاملة تقدمها الجماعة المؤمنة المجاهدة، وقد كانت تلك الرؤية التي صيغت داخل سجون النظام الناصري في ستينات القرن العشرين مفترق طرق خرجت منه جماعات العنف التي مارست إرهاباً يائساً ثم انضوى معظمها في تنظيم القاعدة. تضمن كتاب "معالم في الطريق" رؤية رافضة كلياً لنتاج العلوم الإنسانية الغربية، ومساواة بين ظلم الغرب وظلم الديكتاتوريات التي تلت الاستعمار، ويصف كل من يختلف مع الجماعة المؤمنة التي تحمل الدعوة على أكتافها بأنها مجتمع جاهلي، وهي ذروة الرؤية المتطرفة التي وصل إليها فكر سيد قطب بعد كتاباته النقدية للرأسمالية والاشتراكية في عقد الخمسينات، فلم يعد النقد والبحث عن التميز والمغايرة منهج من يتعرض للتعذيب في السجون وإنما الرفض الكامل والقطيعة مع هذا المجتمع. يجسد كتاب "معالم في الطريق" مشكلة أن تحمل جماعة معينة رسالة الدعوة لأسلمة مجتمع مسلم بالفعل على عاتقها، بدلاً من أن تكون حزباً سياسياً يحقق غايته من خلال اقناع الشعب بتبني برامجه، أو منظمة اجتماعية ثقافية تنشر الفكر وتجادل تطبيقاته في المجتمع فتسهم في عملية الترقي والتطوير. استلهام عملية التغيير التي قام بها الدعوة النبوية في مستهلها يتطلب إيجاد نفس الظروف وهو أمر غير ممكن، أو تخيلها كما يفعل كل رموز جماعات الدعوة عندما يصطدمون باختلاف الواقع القائم حالياً، وهو التباس لا ينطبق فقط على صدمة الاعتقال والتعذيب السياسي التي لا يجب أن تحدث أو يتعرض لها أي مواطن، وإنما يحدث الاصطدام أيضاً بسبب أمور بسيطة يتعرض لها الإسلاميون حالياً في مصر بعد خروج أنشطتهم للعلن واستضافتهم في التلفزيون، فيصبح أي نقد او سخرية شبيها بالإيذاء الذي تعرض له النبي؛ مثلما قال الأستاذ صبحي صالح عن نفسه "قالوا عني كذابا وقالوا عن النبي ساحر كذاب"! وقتها، الثمانينات والتسعينات عندما بدأت أهتم بأمر تناقض الأيديولوجيا والسياسة، كان خطاب الضحية قد تم استحضاره في الاحتفاء بالجهاد الأفغاني ضد السوفيت، لكن من باب "كم من فئة قليلة غلبت ..." وفي مواجهة صريحة مع قوى خارجية عظمى مثلها الاتحاد السوفيتي، أما الفوز في انتخابات نظمتها السلطة الجزائرية التي قادت البلد منذ التحرر من الاستعمار وعدم تقبل هذه السلطة التنازل عن احتكارها لإدارة شئون البلد، كل ذلك كان سابقة عززت استمرار رؤية وخطاب الضحية في صياغة عقلية التيار الإسلامي المعتدل الذي كان يسعى إلى مكاسب سياسية على أرضية ديموقراطية، لكنه أثار تساؤلات وشكوكاً حول التمايز بين نخب الإسلاميين، والفروق بين توجهاتهم من تركيا إلى ماليزيا إلى باكستان وأفغانستان وإيران. فوز الإسلاميين في الانتخابات النزيهة الوحيدة التي شهدتها الجزائر افتقد إلى وجود أرضية لتداول السلطة، بل لعل اللجوء إلى الانتخابات كان حركة هروب إلى الأمام من قبل السلطة تجنباً لنزاع عرقي، فتجاوب الناخبون مع حركة الهروب بإعلاء التيار الديني أو المعارضة الإسلامية انتخابياً على المطالب العرقية، فكان على السلطة العسكرية أن تواجه حقيقة أرادت الهروب منها: حتمية تداول السلطة، ولأنها لم تستعد لذلك، ولم تستطع إخضاع مكونات المجتمع بالقوة لسلطتها انفجرت حرب أهلية، أطل منها وجه إرهابي لاستخدام الدين في تبرير العنف والترويع؛ حيث وجدت كل خلية تمارسه تبريراً دينياً يوافقها ويمنحها شرعية مطلقة في القتل، وكان موازياً له في نفس حقبة التسعينات تناحر فصائل المجاهدين الأفغان على السلطة وتكفيرهم بعضهم بعضاً، وانتصار طالبان الأكثر تشدداً في ظل انعدام أية أرضية اجتماعية أو ثقافية في أفغانستان تصحح أو تلطف المسار نحو الاعتدال. نمط التناحر ظل يستنسخ نفسه ويعدد صوره وتفاسيره من أفغانستان إلى العراق، بل لقد استخدمت نفس الأساليب في دارفور السودانية المسلمة أيضاً. بعد عقد التسعينات سقط القناع الإصلاحي للنظام الإيراني خلال دورتين رئاسيتين لأحمدي نجاد، متزامناً مع ذوبان الهوية الدينية التي أحاطت بتجربة ماليزيا وإندونيسيا في التنمية، لتصبح الإشارة لهما نوعاً من الاحتفاء باستعادة ثقة غائبة في قدرة المجتمعات الإسلامية على تطوير أدائها الاقتصادي والانضمام لأحد نوادي الدول الصناعية. بينما ظل بريق خاص للتجربة التركية في التعايش بين مكونات مختلفة. وسعي الإسلاميون الأتراك إلى تلبية وإشباع هذه الرغبة الوطنية، رغبة قطاعات عريضة من الشعب التركي في التصالح والتعايش مع مكونات وروافد غذت تاريخهم الحديث، وفي الوقت نفسه إدارة التنمية بقليل من التحيزات، مع إرضاء غرور قومي على الساحة الدولية بحجز مقعد متساوٍ في النادي الأوروبي، أو الاستدارة للعب دور إقليمي متميز في فضاء الشرق الأوسط التائه. وقد نجح الحزب المنبثق من التيار الإسلامي المعتدل بزعامة أردوغان في التجاوب مع هذه التوقعات الشعبية ذات "الأولوية" سياسياً دون تشويش برنامجه بقاموس ملتبس من نوعية "فقه الأولويات"، أو إثارة شكوك حول الوفاء بمبدأ تداول السلطة. في المقابل غرقت سفينة النموذج الباكستاني، في دورات منهكة من العنف والاغتيال وإدارة العنف على أرض الآخرين (كون طالبان تأسست برعاية المخابرات الباكستانية) وأصبحت فترات الاستراحة التي تشهد تبادلاً للسلطة نزعاً لفتيل الإنفجار؛ حيث يلعب الجيش في باكستان دور المدير للعبة السياسية، ويغلب التشدد الديني على قطاع عريض من الإسلاميين في هذا المجتمع، فيحتل خطاب الجهاد والهوية والصراع الحضاري أولوية على أي بعد تنموي أو إصلاحي، ويرضي الجيش هذه النزعة نحو الصراع والعنف- بدلاً من حصرها في التنافس السياسي- مع الاحتفاظ بقدرة على نزع الفتيل قبل الاتفجار، وافتتاح دورة جديدة من نفس الصراع بين المكونات السياسية. وبين النموذجين، التركي والباكستاني، قفز السؤال عن مسار التيار الإسلامي عند مشاركته في حكم مصر أو اضطلاعه به كاملاً بعد ثورة 25 يناير. من شأن السؤال عن خيار الإسلامين المصريين تعزيز مجموعة من التساؤلات التي تدور في حلقة مفرغة منذ تأسيس جماعة الإخوان، ومرورها بمحطات سياسية شهدت انشقاق معظم ما يعرف بالجماعات الإسلامية عن الجماعة الأم، حيث مالت الجماعة إلى عدم حسم أمورها الفكرية، والإبقاء على سياسة أشبه بـ "الغموض النووي" تتعلق بالكيفية التي تعتزم تحقيق هدفها به، إذا ما استطاعت نشر دعوتها وجندت نسبة كبيرة من الناس، وهو سؤال يلح بقوة الآن مع إعلان مرشد الجماعة الدكتور محمد بديع عن انضواء نحو 700 ألف شخص تحت صفة عضو عامل في مصر ضمن الجماعة، ويسبق مرتبة العضوية الرفيعة تلك مرتبة الانتساب، وقد يصعب على الجماعة نفسها تقدير عدد من تنطبق عليهم صفة الانتساب هذه لكنها قد تصل إلى ضعف الأعضاء، إضافة إلى دائرة أوسع من المتعاطفين. هل يمكن أن يغري ذلك العدد، و"فراغ السلطة" في مصر، خلال انتقال من نظام سياسي لآخر قد يستغرق سنوات حتى اكتماله، هل يمكن أن يغري ذلك بمحاولة القفز وتطبيق سياسة أشبه بالحزب الواحد؟ هل يؤدي الانتقال إلى العمل العلني المعترف بقانونيته إلى تغيير في سياسة الجماعة لتقبل بتعدد الاتجاهات السياسية بين مجتمع مؤيديها الضخم؟ فتعيد الاعتراف بانتماء حزب الوسط، وتنظم خلافها مع د. عبدالمنعم أبو الفتوح، وتقبل بتأسيس شبابها الذين شاركوا في الثورة لحزب سياسي يعكس خصوصية تجربتهم؟ وأهم من ذلك هل يخفف العمل العلني من الحاجة لإنشاء مجتمع سري مواز للمجتمع، وإعداد دعاة قد يلتبس على بعضهم الفرق بين حركة إصلاح مجتمع مسلم وحركة أسلمة مجتمع جاهلي؟ وهل يمكن إعادة صياغة العلاقة مع تيارات علمانية وليبرالية كان لها الدور الأساس في تحريك المجتمع باتجاه الثورة؟ وأخيراً ماذا عن صيانة وضمان الانتقال إلى الديموقراطية؟

الإسلاميون في مصر
المأمول من الإسلاميين في مصر أن ينتجوا نموذجهم الخاص، والذي يفترض ألا يكون باكستانياً ولا تركياً وإن اقترب من الأخير وتأثر به، أو على الأقل تخرج من بينهم تجارب واتجاهات حزبية وسياسية تمضي في مسارات تعبر عن أصالة نزعة التحديث الإسلامي في مصر، اتجاهات حزبية تتفاعل مع مكونات وتطلعات المجتمع المصري وتمثله، لكن ثمة عوائق داخلية في نشأة وتاريخ نمو جماعة الإخوان المسلمين تلقي بظلالها على ذلك، تتعلق هذه الشكوك بمشروع الجماعة في إعداد دعاة يعيدون أسلمة المجتمع مرة أخرى بالتدرج من الفرد إلى إحياء الخلافة؛ التي استنفر سقوطها مؤسس الإخوان ومريديه فتأسس المشروع كرد فعل له. من عباءة الإخوان خرجت فصائل وتيارات الإسلام السياسي كحركات انشقاق نتيجة القلق الفكري في تكوين الجماعة وإشكاليات تعريف العلاقة مع مجتمع مسلم من الأساس، لكن بالمقابل يتمتع تنظيم الإخوان بتماسك وترابط عززه العمل ككيان سياسي مواز وغير شرعي لما هو قائم، وفي ظل مجتمع انهارت فيه كل جسور الثقة بين المحكومين والحكام، استطاع هذا الترابط البديل بين أعضاء ومنتسبي كيان مواز يطرح غايات نبيلة أخلاقياً أن يملأ فراغات فكرية وسياسية في بناء الجماعة. هنا، وأعني بذلك اللحظة الراهنة بعد ثورة 25 يناير في مصر، يحتاج الإسلاميون إلى حركة إعادة بناء من الداخل لكل من الهيكل الفكري والبناء التنظيمي الذي يفخر الإخوان أنه حمى جماعتهم طوال العقود الماضية، واستلهمته معظم الكيانات المنشقة عنها. قد تبدو ضرورة هذا التعديل متعلقة بالانتقال من العمل السري إلى العمل العام بشرعية لاتضاهي، يكتسبها الإخوان مثلا من خلال مشاركتهم في الثورة التي أسقطت النظام، لكن ثمة أمور أخرى حول ضرورة هذا التعديل، أولها ان المصريين لن يسامحوا أي تيار أو كيان سياسي قد يعوق انتقال نظامهم السياسي إلى نوع من المشاركة في الحكم يرضي ويتسق مع ما حدث. وثانياً، عتق وقدم البنائين الفكري والتنظيمي للجماعة حيث تشكلا داخل سياقات مغايرة تماماً للحاضر الذي أصبحوا جزءاً منه بمشاركتهم في الثورة. والأخيرة تجربة تمنح شبابهم شحنة انتماء عاطفية مغايرة تماماً لما تربى عليه شيوخهم في السجون وسط التعذيب، بينما يصعب في عصر كهذا أصبح الإعلام فيه شخصياً، وأصبح هذا الإعلام الشخصي فاعلاً إلى درجة هز عروش سياسية عتيدة، يصعب في سياق عصري كهذا أن يظل نفس الترابط وتسلسل التبعية حاكماً لجموع بهذا العدد متعددة الأجيال، فلم يعد هناك حاجة لبناء واحد يمنع من انخراط أعضائه في سياقات حزبية متعددة. كما أن الانتقال من العمل السري إلى العلني يشكل سياقاً مغايراً تماماً سيحتم إسقاط خطاب الضحية الذي يشغل مساحات كبيرة في إعداد المنتمين للتيار الإسلامي وتشكيل فكره وعلاقته بمحيطه الاجتماعي. ثالث الدواعي لتعديل جوهري في خطاب الإسلاميين وخاصة الإخوان، إشكالية أنه لا توجد لدى هذا التيار برامج سياسية معينة ذات طابع حزبي يمكن استلهامها مباشرة من الدين، أو تبرر استخدام الدين كإطار للتكتل السياسي؛ بل مجرد إطار أخلاقي وتعاليم تربوية خاصة ببعض المعاملات التجارية لكنها تواجه عقبات في التفسير أيضاً. إن تحديث الخطاب الديني وعصرنته ستكون مهمة رائعة وصعبة للغاية لأنها تختلف عن مهمة الانتقاد من موقع المعارض. مشكلة أخرى: أن هدف التدرج في أسلمة المجتمع بالكامل، حسب تعاليم مؤسس الإخوان الإمام حسن البنا، لا يضع في اختياراته انشاء أحزاب وخوض لعبة السياسة وتلبية توقعات أغلبية الناس من خلال طرح برامج عملية تحقق أهدافهم، وبالتالي الدخول في لعبة تداول السلطة وتسليمها لطرف آخر وتسلمها منه كلما ارتأت الأغلبية ذلك، وقد ظل موقف واختيار البنا محل جدل في أدبيات الإخوان المسلمين، وإن كنت بشكل شخصي أرى اختياره منطقياً، كون فكرة الإخوان دعوية إصلاحية تتدرج من الفرد إلى دوائر أوسع، لذا هي لا تحتمل وليست مضطرة لأن يتبنى حزب "واحد" منبثق عنها مطالب شعبية قد يصعب تفسير توافقها أو عدمه دينياً؛ فالفكرة الحزبية عبء يلتف حوله خيار البنا من خلال دعوة الناس إلى التدين ووضع هدف نشر الدعوة لتعم أغلبية أفراد وأسر وطبقات المجتمع، لكن خوف البنا من التحول إلى حزب لا يمنع من ممارسة أعضاء الجماعة للعمل الحزبي من خلال عدة أحزاب. قفز طرح إنشاء أحزاب متعددة مع إبقاء الجماعة مرجعية واكتسب أهميته من تبني بعض من شباب الإخوان الذين شاركوا في ثورة 25 يناير له، ويمثل الطرح تعميقاً لإشكالية هدف الجماعة التي اختار حسن البنا عدم التورط فيها من البداية برفضه تحول الجماعة إلى حزب، لكنه تعميق تحتاج الجماعة عدم الالتفاف حوله والهروب منه بل مواجهته، خاصة أن كثيراً من موجات الانشقاق التي شهدتها الجماعة من قبل اضافت إلى التيار الإسلامي فصائل أكثر تعقيداً وخطورة في أطروحاتها، وقد أصبحت تجربة الإخوان ملكاً للمجتمع كله بالمشاركة في ثورة تسقط نظاما قائما وتؤسس لنظام جديد، وباتت الحالة التنظيمية لهم جزءاً من الموضوعات السياسية العامة. فإذا كان هدف الجماعة مثلاً هو أسلمة المجتمع بالكامل فإما أن يتاح للإخوان حق إنشاء أحزاب سياسية متعددة تتبنى أطروحات وبرامج مختلفة، أو عدم إنشاء حزب سياسي والاكتفاء بالمشاركة السياسية لأفرادها مستقلين أو عبر أحزاب أخرى، وإلا فمعنى ذلك أن المشروع السياسي للجماعة هو إخضاع الحياة السياسية لسيطرة حزب واحد!

التنظيم والفكر والثورة
تعتبر إشكاليات التنظيم أقل خطورة مقارنة بإشكاليات الفكر في تيارات الإسلام السياسي خاصة ما يتعلق بموضوع العنف، كونها انعكاس لها. تعرض الإخوان المسلمين منذ البدايات لعنف بدأ باغتيال مؤسس الجماعة عام 1949، وبلغ الذروة في رحلة طويلة وقاسية مع الاعتقال والتعذيب في السجون خلال الخمسينات والستينات، لكن لابد من الإشارة إلى أن الجماعة نفسها امتلكت تنظيماً مسلحاً خاصاً هدفه ممارسة العنف والاغتيال في حقبة الأربعينات من القرن العشرين التي شاع فيها هذا النمط. وثمة ارتباط حاولت الجماعة نفيه كثيراً بينهم وبين محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في الخمسينات ،والتي افتتحت التصعيد تجاههم باستخدام العنف والاعتقال والتعذيب، وهو دورة طويلة كما أشرت تمت كلها في إطار دولة الأحكام العرفية التي حكمت مصر منذ النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين. في ظروف كتلك التي عاشوها في السجون مضى خطاب سيد قطب الفكري شوطاً أبعد مما بلغه حسن البنا، خاصة في وصف المجتمع المسلم الذي تتوجه إليه الدعوة، ومن عباءة هذا الفكر خرجت جماعات العنف والتغيير بالقوة، وخرج فكر التكفير أيضاً. وحتى الآن لم تقم الجماعة بحملة تصحيح لفكر سيد قطب، فهي من ناحية لم تجد من بينها من هو مؤهل لنقد كتابات قطب وعمل حركة تصحيح فكرية، سيما أن لقطب مكانة استثنائية خاصة ضمن رموز الجماعة، ولم تجد أيضاً سبباً في إجراء تصويب في علاقتها بهذا الفكر، مكتفية بموقف مرشد الجماعة في الستينات حسن الهضيبي الذي أصدر كتاب "دعاة لا قضاة" عندما رأى تحولات تتم في السجون بين أتباعه صوب تبني رؤية تكفير المجتمع والجهاد ضده. داخلياً يتم إدراج تدريس كتب سيد قطب وخاصة "معالم في الطريق" ضمن مراتب أعلى في رحلة الترقي داخل سلم الانتماء للجماعة، ولكن في إطار يحذر من المبالغة في تفسير مفهوم "المجتمع الجاهلي" لتصل إلى حد الانشغال بالتكفير عن الدعوة. يتخذ الإخوان موقفاً صريحاً ضد التكفير، لكن بالمقابل تأجيلهم اتخاذ موقف تصحيحي من فكر سيد قطب حول تعريف المجتمع الجاهلي ينتقص هذا الموقف، ويمكن تفسير ذلك في إطار استمرار احتياجات الجماعة لتأهيل أعضائها على العزلة الثقافية والنفسية عن المجتمع، وتوقع التعرض للتعذيب والاعتقال، وأيضاً إعفاءا للجماعة من خوض جدال تنتتج عنه موجة انشقاقات داخلية وصراعات مع تنظيمات إسلامية أخرى انطلقت من استشهادية سيد قطب إلى ما هو أبعد، لكن المشاركة السياسية وتأهيل الأعضاء للعمل العلني تحتاج لمواجهة تصحيحية تضع فكر قطب في سياقه وظروفه التاريخية، انها باختصار تتطلب ثورة داخلية موازية تحل مكان أسلوب المجتمع الموازي. انضم سيد قطب إلى الإخوان مطلع خمسينات القرن العشرين واضطلع بدور المنظِّر الفكري حتى إعدامه في الستينات، وقد درجت العادة على قراءة أفكاره في سياق التشابه مع الفكر الجهادي للباكستاني أبو الأعلى المودودي، وهي قراءة لا تختلف عن خطأ الإسلاميين بربط نزعة التحديث في المجتمع المصري بالغرب والغزو الفكري للمحتل، وإغفال نمو الطبقة الوسطى وممارساتها الاقتصادية وتطلعها إلى ما يعكسها. سيد قطب مفكر مصري، إنتاجه يعكس أزمة الهوية في العقل المصري الحديث، مثلما يعكس نزعة فاشية ورغبة في مصارعة الغرب حضارياً، وكلاهما: النزعة والرغبة غلفا اهتمام قطاع من أبناء جيله ممن عايشوا الاستعمار وتحرروا منه في الخمسينات وصارعوه في الستينات. إن منعطف قطب في الستينات لم يسفر فقط عن انشقاق الجهاديين والتكفيريين، بل يمثل بداية للعبة الإقصاء الخطيرة بين فصائل التيار الإسلامي التي وجدت في مفهوم الضحية فسحة كبيرة في تأويل المواقف وتكييفها بما يحقق غاية الإقصاء في ملعب سياسي يتبنى أساليب ديكتاتورية لا تقبل المشاركة، وقد آن لأن تحل تجربة الثورة وتأسيس نظام سياسي قائم على المشاركة محل خطاب وممارسات ذلك العصر وأزماته. إن نجاح الإخوان في أن يكونوا جزءا من الثورة يبشر بإمكانية إعادة صياغة كيان سياسي جديد؛ خطاباً وتنظيماً وغاية إنسانية. وهو تعديل لا يمكن أن يتم إلا بالنقد اوالتصحيح الذاتي للخروج من حالة المجتمع الموازي والتفاعل مع اللحظة، ومع القوى الأخرى في المجتمع، ومع التطلعات الشعبية التي تستحق نموذجاً خاصاً يمثلها دون استعارات من تركيا أو باكستان.

لينك المقال على صفحة دار صفصافة للنشر: http://www.sefsafa.com/index.php?option=com_content&task=view&id=1162&Itemid=87&lang=ar (يصرح بإعادة النشر والاقتباس شرط الإشارة للمصدر تاريخ الكتابة 4 يونيو 2011


No comments:

Post a Comment