Thursday, September 29, 2011

سأصطحب معي


أحمد غريب
هل تذكرون تلك الرسائل التي كنا نتبادلها على صفحات الفيسبوك عن ماذا تأخذ معك إلى مظاهرات يوم 25 يناير المرتقبة؟ تلك  الرسائل المشبعة بروح الخفة والأمل ورشاقة العامية؟

الآن ماذا أصطحب بعد 25 يناير وقد فصلتم الزمن بحسم إلى ما قبل وما بعد هذا التاريخ الفاصل؟ وقطعتم ما تلقنَّاه من صور عن تعاقب وجودنا على هذه الأرض مربوطاً بساقية الفرعون وخيمة الخليفة وقصر السلطان!

وحدي منفصلاً عن تلك الجموع التي التقيتها في ذلك العالم التخيلي، الإعلام بأشكاله وخاصة الإنترنت، أتنصت على نبضي في أيام ما بعد الثورة، ما بعد هذا الالتحام الكبير بأشخاص قامت بيني وبينهم جسور قوية من الثقة في ما يحركهم، فأمضي معهم دون أن أعرفهم، أشعر بهم يستجيبون معي لدفقات تحيي في داخلي صوراً تقليدية لمعاني الترابط والوفاء والشعب والوطن، معاني كنت قد انفصلت عنها وسط دوامات الفن الهابط، وسيل الكلمات والصور التي تسيء للبلد.

 ها أنتم تفصلون الزمن إلى ما قبل وبعد تاريخ يناير، وتضعونني في حيرة وأنا أغربل، وأعيد بناء ذاكرتي من جديد، حيرة تبدأ من محاولة إدراك معانى لم تستطع أن تبني لنفسها في ذاكرتي اللغوية سوى ظلال من الشك، معانى لم أمارس وعيي بها إلا مسلوباً من القدرة على تجسيدها. ماذا أصطحب إذن؟

سآخذ معي صورة لأبي وهو يصوِّت لأول مرة في حياته، صورته في السبعين منحت صوته وهو يبلغني "أنا قلت لأ، علشان انتم محتاجين دستور جديد، أنا كبرت خلاص، لكن انتم وولادكم تستحقوا عيشة جديدة" حيوية وتواصلاً جديداً مع فكرة الأب، تواصل لأول مرة يتم في فضاء الحياة العامة بين أب موظف وابن ساخط على الحياة في مصر، مهاجر إلى الخارج بجسده ومعلَّق بروحه وأمله في حب هذا البلد. سأركِّب من صورته وصوته مزيجاً يناسب ما اعتادته ذاكرتي الحديثة، التي أدمنت اليوتيوب، وأصبحت تثق في قدرة الإعلام الشخصي أكثر من إعلام المحترفين، سأصنع تاريخاً جديداً لعلاقتي بأبي عن المستقبل.

سأصطحب معي ذلك النص الجميل عن اعتصام الثوار الذي كتبه هيثم الورداني "الخروج من الميدان" وجملته الحلوة في وصف لحظة استقلال المعتصمين بميدان التحرير: "أين القاهرة من كل ذلك؟ لقد انزاحت حدود واقعيتها لتنفتح على أماكن أخرى يختلط فيها الواقعي بالمتخيل. القاهرة أصبحت مكانا شفافا مملوءا بكافة الاحتمالات، أو لعلها تبخرت أيضا فباتت هي طبقة البهجة التي تلف الميدان الآن" سآخذها كصورة من ميدان التحرير الجديد، الذي التقيت فيه هيثم لأول مرة عام 1991، بصحبة وائل رجب وأحمد فاروق، واقتربنا من بعضنا على مقهى وادي النيل في أمسية باردة من يناير، ومضينا معاً خطوات البدايات الأولى لكتابة القصة، وسأتذكر تلك الرغبة العارمة التي كانت لدينا في تسعينات القرن العشرين بأن نكسر حاجز نشر الكتب العنيد، الذي كان لزاماً أن يمر بآلية النشر في هيئات الحكومة، وكيف نجحنا في إصدار كتاب مشترك انضمت إليه أيضاً قصص لنادين شمس وعلاء البربري، دون المرور بمسارات التدجين.

سأصطحب معي صورة لصالة التحرير في جريدة "أخبار الأدب"، لمحمود الورداني الصديق الكبير صاحب كتاب حكايات الشيوعيين والشيوعية في مصر، والحالم ياسر عبدالحافظ وآخرين، وأصلها ببيان حديث يؤيد موقف صحفيي أخبار الأدب في إضرابهم حرصاً على قيمة تلك الجريدة التي حركت مياهاً في بحيرة الأدب المصري يوماً(1). سأستدعي هنا صورتي الشخصية، شاباً مشبعاً بالحلم يقف على عتبة طريق الكتابة مسلحاً بالعفوية والجرأة، لتلتبس أمامي صورة الصحفي والكاتب في تلك الجريدة بعد ما رأيتها من الداخل متناقضة بين نبلاء يعرفون الأدب والحلم، وآخرين يتمددون بفضل امتهان الكلمة واتقان دور حماة السلطان متسترين بدعاوي "مهارات البيزنس" وهي أمور مرسومة لهم سلفاً.

ستعتريني رغبة في قراءة نصوص جديدة لإيمان مرسال، وأحمد يماني، وياسر عبداللطيف، ومصطفى ذكري، ومنتصر القفاش، وعلاء خالد، ومي التلمساني، وهدى حسين، وأحمد أبوخنيجر، وآخرين عرفتهم في حقبة التسعينات، رغبة في استعادة تلك اللذة الشيطانية، لذة طفل منبوذ ينثر الكلمات بعناية على مواضع الهشاشة، فتنتج صورة قوية كواقع لكنها قابلة للسقوط. وسأبحث في مدونات أحمد العايدي ونائل الطوخي عن إيقاع طازج لمطاردة الخوف، وستظل عيني على مدونات شباب الثورة.

سأواصل قراءة كتاب How To Read A Film الذي نصحني الناقد السينمائي أحمد يوسف بقراءته ذات مرة، وستحضرني مقالاته في مجلة "اليسار" التي تذوقت بواسطتها أول نقد سينمائي حقيقي، وسأصطحب معي إيمانه القوي بوجود مكان لوطننا بين الأمم المتقدمة، إيمان يمزج بين الحلم وشريط السينما. سأقلب كتالوج لوحات راوية صادق المفعمة بدهشة البسطاء، حيث يتحول ميدان العتبة إلى تخطيطات وتصميمات تلمس ذلك الجمال الكامن وراء طبقات القبح التي حاصرته. سأشاهد بدهشة فيديو لفاطمة لوتاه ترسم لوحة "غضب النيل"على خلفية هتافات أصوات المتظاهرين الذين خرجوا بالملايين، وسأقرأ مع ميسون صقر القاسمي أشعاراً لوالدها تبشر بالثورة، وسأعيد مرة أخرى قراءة روايتها "ريحانة" مستجلياً بطريقة أخرى معنى إنسان هذه الرواية بين عصرين وعالمين.

سيطوف في ذهني حلم بالاقتراب من عالم السينما، ذكريات مجلة "الفن السابع" التي عرفت فيها محاولة أخرى خارج مجال كتابة القصة، لإنتاج لغة ونظرة مختلفة لشاشة الأحلام، هناك التقيت شخصيات عديدة تعبر من مجال إلى مجال، من لغة إلى أخرى، ومن نسق فكري لآخر. كان هناك وائل عبدالفتاح في البداية، ونادين شمس، وكانت السينمائية صفاء الليثي تعبر إلى عالم النقد والكتابة بانفتاح روحي نادر، تفتح أمام عيني فتحات سحرية لأطل منها على ما وراء الكاميرا.

سأصطحب معي رغبة لم تفتر في قراءة بعض الكتب، بدأتها برواية "أثر النبي" لمحمد أبوزيد حيث تستمتع بشخصيات شباب عفوي يرتجل الحلم والنكات وسط مرارة تقودهم إلى التظاهر والاصطدام بالسلطة. وأعتزم مواصلتها بقراءة "رسائل عبدالحكيم قاسم" التي أعدَّها محمد شعير، و"أبناء الجبلاوي" لإبراهيم فرغلي، و"بروكلين هايتس" لميرال الطحاوي، و"وراء الفردوس" لمنصورة عزالدين، وكتب أخرى كثيرة. وسأحث صديقي سيد محمود على التفكير في نسخة ثالثة مغايرة من كتابه الشيق "كوبري عباس"، نسخة تربط الحركة الطلابية القديمة في النصف الأول من القرن العشرين التي تناولها كتابه بصورتها الرائعة كما تجلت في ثورة 25 يناير ونجحت في استقطاب كل فئات الشعب وليس فقط الحركة العمالية مثلما حدث في عقد الأربعينات، سأحثه على أن ينفتح كتابه على نماذج من اليوتيوب والفيسبوك، مثلما استعان بقصائد من نوعية "احنا التلامذة يا عم حمزة".­­­

  وسأستمتع هذه المرة وأنا أقرأ "الحرافيش" مخططاً بالقلم تحت بعض الأسطر لأشارك أصدقائي على الفيسبوك تلك الجمل الحاسمة التي صاغها نجيب محفوظ عن عالم الحارة الجديد الذي ولد بعد الطاعون على يد عاشور الناجي. سأكتب الفقرة على صفحتي وسأندهش قليلاً عندما تمازحني صديقة بتعليق كتبته: ع عاشور... ع عمرو موسى، سأدرك من المزحة أنني لا أفضل حرف العين في بداية الكلمة، سيكون رائعاً في منتصف كلمة "شعب"، وأن ذاكرتي التي أحاول أن أشكلها كسفينة نوح في هذه اللحظة تزهد في اللعب بالأحرف والكلمات، وتشتاق إلى المعنى.

 سأقلِّب في مكتبتي الصغيرة التي ارتحلت معي إلى بلاد بعيدة، باحثاً عمَّا أصطحبه معي لعبور ذلك الفاصل النفسي بين إنسان ما قبل الثورة وما بعدها، سأتنقل بين الكتب بينما أتابع على الإنترنت مقالات لـ د.صبري حافظ مشبعة بعنفوان مثقف حالم بعالم جديد، في الوقت الذي تنزوي فيه صورة منافسه العتيد مثقف السلطة د.جابر عصفور بعد أن اختار موقفاً يذكرني بقصة ابن نوح الذي ظن جبل الوزارة حامياً ورفض ركوب سفينة الثورة. هنا ستهوي تماماً من ذاكرتي دعاوى أمثال عصفور عن المثقف الذي يعمل من داخل السلطة بمنهج إصلاحي، ها هي سلطتكم البائسة تسقط بثورة شعبية، وتنكشف أقنعة عبودية المال والشهرة الزائفة لمن هم أرباع مواهب تتدثر بالمناصب، سيشعرني سقوط هؤلاء براحة من تخلص من ورم لم يكن علاجه بمقدور أحد، ولم يكن متاح سوى الهروب منه. سأتذكر الروائي صنع الله إبراهيم، خاصة زيارتي الأولى له في بيته البسيط مع أحمد فاروق، وكيف رأينا فيه نموذجاً للنأي عن السلطة. وسأتذكر كثيرين تأثرت مكانتهم الإبداعية وتأثر إنتاجهم سلباً أو إيجاباً من غواية المؤسسة الثقافية الرسمية، فسادها على وجه التحديد.

 سأواصل تقليب كتبي الأثيرة ومعها صفحات الذاكرة: "طوق الحمامة" لابن حزم أول كتاب أقرأه عن معنى الحب، كم كنت معتزاً به ككتاب أرى منه ذلك البئر العميق الذي يسمى "هوية"، أراه ولا أخافه لأول مرة، بعدما ظل يقذفني بصور تسلط السلطان وحلم المستبد العادل الذي لا يأتي. وستصل يداي إلى كتاب أمين معلوف "الحروب الصليبية كما رآها العرب" لتقفز صورة وقف معلوف نفسه محتاراً أمامها، صورة أطفال عرب يُسلَقون في القدر من قبل كتائب أوروبيين متطرفين شاركوا ضمن الحروب، ارتبك معلوف من وحشية الصورة فذكر مصدرها على الفور، مشيراً إلى أنها رغم مبالغاتها وردت في ثلاث مصادر تاريخية. ستظل ارتباكات العلاقة بين الشرق والغرب تعيد طرح أسئلة عديدة حول الهوية واستخدام التاريخ، والحرية والتطرف وحداثة الدولة، صور وأسئلة ربما يعقدها استدعاء تلك الصورة من كتاب معلوف، لكن ألا نرى في فلسطين صوراً تُشعرنا بنفس الألم وأكثر؟

سأصطحب معي صورة من قصيدة لا أذكر شاعرها، تصف روعة نداء بائع الألبان في الصباح الباكر، والواصف مناضل سياسي من حقبة خمسينات القرن العشرين يستعد للإعدام!

 سأصطحب معي هذه الصورة مطالباً بإعادة كتابة تاريخنا الذي يدرسه الأبناء في المدارس لرد الاعتبار لكثيرين أغفلتهم الكتب المزيفة، ولا نَعِم وزير للثقافة أو للتعليم أو للمجلس الأعلى للثقافة بمنصبه ما لم يعمل كل منهم على إعادة تصحيح التاريخ الرسمي في مصر.

هامش:
1- انتهى إضراب الصحفيين بجريدة "أخبار الأدب" بتولي الكاتبة عبلة الرويني رئاسة التحرير

كُتب بتاريخ: 30-03-2011

No comments:

Post a Comment