Tuesday, September 27, 2011

الراجل اللي ورا الغيطاني



أحمد غريب

لماذا انتشرت تيمة "الراجل اللي ورا..." منذ اجتذبت نظرات الضابط الذي ظهر في الخلفية وراء عمر سليمان وقت إعلانه تنحي حسني مبارك؟ لماذا ارتبطت بسقوط النظام؟ وهل يمكن أن نتساءل عن "الراجل اللي ورا الأديب جمال الغيطاني" الذي دعا مؤخراً لإعادة العسكر إلى السلطة ممثلين في شخص المشير طنطاوي؟

تيمة "الراجل اللي ورا..." قالب عصري لإحدى أذكى الطرائف المصرية، سرت بقوة في حياتنا مستخدمة تقنيات اتصالية حديثة كالتويتر والفيسبوك واليوتيوب، أو بمعى أدق قالب الرسائل النصية التي تتفاعل مع الصورة والصوت، فيكون الناتج محصلة يمر من خلالها النقد الساخر بمراحل سريعة ومتعاقبة من التشذيب، وتعديل التصويب نحو هدف النقد، وكذلك حشد التوافق الجمعي حول الفكرة ونشرها وإعادة نشرها إليكترونياً، وقد كانت تيمة "الراجل اللي ورا..." نموذجا مثالياً لهذا التفاعل، فقد انطلقت التيمة كتعليق مختصر من ثلاث كلمات رئيسية على صورة ملفتة شاهدها الجميع، وأصبح التعليق قابلاً لإعادة الاستخدام مع استبدال الاسم ولكن بنمطين مختلفين من التساؤل: الأول سؤال عن من وراء الشخص، والثاني عن خلفية من وراء الشخص الذي يمثل اقتحامه للصورة رسالة ما يراد تفسيرها، مثل الراجل أبو جلابية في مشهد انفلات مباراة كرة القدم. لكن عودة للسؤال الأول، لمذا انتشرت هذه التيمة؟ ولمذا يتوقع تجدد استخدامها؟ وهل تنطبق على الأديب الغيطاني؟

تزامن الإنجاز غير المسبوق بإسقاط رئيس مصري لأول مرة بواسطة ثورة شعبية مع انتقال الاهتمام الجماهيري إلى ما وراء الواجهة، والتي اعتدنا في ثقافتنا الشرقية أن تتكون من طبقات من الحُجُب والستائر تليها غرف مغلقة تُطبَخ فيها الأحداث وتُجَهَّز لتقديمها للناس في قوالب مبسطة تُصَمَّم خصيصاً لعزلهم عن أي نوع من المشاركة في القرار، بما فيها الموافقة عليه؛ كون الموافقة تعني إمكانية الرفض، لذا يتم إعداد الطبخة بحيث تتوافق مع تبسيط أخلاقي للموضوع يضع موقف السلطة في خانة الحرص الأبوي على قطيعها من الشعب.

كان الإطلاع على أي لقطة مما يدور وراء الحجاب ليس إلا نتيجة لتمزُّق خرقة أو تفتُّق نسيجاً من تلك الستائر؛ بفعل معارك تدور بين هؤلاء الأقوياء في الخلف. فتبدو صورة لقطرات دماء هنا، أو خيانة هناك، ويتزامن ذلك مع فترات صراع سياسي أو انقلاب، يكشف فيها المنتصر عن بعض ما وراء الحجب بقصد منه أحياناً، أو يتستر على أجزاء من الصورة التي كُشفت بفعل إزاحة بعض الستائر خلال الصراع في الخلفية، ويسعى التستر إلى منحه زمام تفسير قصة وجود السلطة في موقعها، وسبب استمرارها. خلف هذه الطبقات من الستائر والحُجُب يقف في الظل أشخاص يحركون الأحداث، ويتلاعبون بمجموعة من القيم الأخلاقية التقليدية شكلياً لتوجيه جموع الناس، بينما يمارسون في الخفاء أساليب تمكنهم من تركيز السلطة في يد نخبة معينة من الحلفاء يربطهم ولاء معين مع رمز النظام، عائلي (دول الخليج) أو طائفي (سوريا) أو عرقي (المماليك مثلا) أو قبلي (القذافي نموذجاً). وقد بلغ هذه الولاء حداً غير مسبوق من المصالح المالية التي تقوم على مبدأ النهب في عهد مبارك، أفضى إلى ثورة شعبية لتقويض سلطته هو وحلفائه الرئيسيين ممن شكلوا أركان نظامه.



 لكن التحول كلية إلى حكم الشعب لنفسه بنفسه يواجه عنتاً وتحايلاً من عدة شرائح وقوى في المجتمع، بعضها تحالف مع النظام أو كان جزءاً منه ولم تصبه الموجة الثورية، وهؤلاء يفضلون نسخة إصلاحية من نظام الرجل القوي أو نخبة القوياء، والذين يكونون في العادة من طبقة ضباط الجيش في مصر منذ المماليك. دعوة الأديب جمال الغيطاني التي أطلقها في حوار صحفي مؤخراً إلى إبقاء المجلس العسكري في الحكم 3 سنوات وتولي المشير طنطاوي الحكم تعد نموذجاً صريحاً لهذه الفئة التي لا تتخيل حكم الشعب لنفسه من خلال مؤسسات، وهي للأسف فئة لايزال كثير منها في مواقع المسئولية والقرار، ناهيك عن عدم تقبل بعضها للطريقة التي تم بها التغيير، لأنه مفاجئ وغير مسبوق، ولأنه هدم طموحاتهم التي ربما أنفقوا عليها رشاوي أو قدموا تنازلات إلى من كانوا فاعلين في النظام السابق للحصول عليها، والأخيرين ليسوا مجرد المجموعة المحتجزة احتياطيا في سجن طره، بل هناك كثير منهم في مواقع مسئولية وسيطة في مختلف أجهزة تسيير الخدمات والإدارة في المحافظات والمرافق الكبرى، بل إن من تم استبدالهم من رؤوس المؤسسات الإعلامية مشكوك في استعدادهم للخروج عن هذا التصور التقليدي لطريقة إنتاج السلطة، خاصة من نالوا رضا العسكر وتم تعيينهم في مناصب مؤخراً.

إذن، من هو "الراجل اللي ورا الغيطاني"؟
الإجابة الأقرب: المشير طنطاوي، والإجابة الأقل قرباً: شخص عسكري آخر يتطلع إلى "حرق" صورة طنطاوي الإيجابية نسبياً لدى شرائح من الجماهير، ليحل هو بديلاً. لكن ما استند إليه الغيطاني في دعواه، التي لقيت استياءاً واستخفافاً داخل أوساط ثقافية يفترض أنها تقدره، هو عدم جاهزية الشباب الذين قامو بالثورة للقيام بدور قيادي. وهو أمر عجيب من ناحية المنطق، لأن كون الثورة شعبية هو أحد أكثر إيجابياتها، وهو أكثر ما يمدها بالقوة والمصداقية، وهو أكثر ما يضعف الثورة المضادة، ثم إنه كيف يتم تقييم "نجاح" قيادات هذه الثورة التي لا يزال هديرها في أجساد المصريين، والمنطقة العربية، بأنه عدم قدرة على القيادة؟ الإجابة في أن "الراجل اللي ورا الغيطاني" هو نفسه من يخفي هذا "الصندوق الأسود"، حسب تعبير الأستاذ محمد حسنين هيكل، وهو من يعلم أن عدم اطلاع ممثلي الثورة على خفايا هذا الصندوق يمثل ورقة القوة الوحيدة في يده، وقد استخدم صوت الأديب جمال الغيطاني بوقاً يكبِّر الصوت ليبدو كأنه نقطة ضعف في الثوار والثورة. تضخيم الصوت من خلال الأبواق لا يصنع حقيقة، إلا أنه ينذر بأن من يسيطر على مفاتيح السلطة (الصندوق الأسود) قد يعمل على تأجيل الانتخابات المتتالية التي يحتاجها أنتاج نظام جديد للسلطة، أو عرقلة تتابعها، من أجل إيقاف إنتاج سلطة ديموقراطية، وفرض بدائل تلبي احتياجات الأمن، فلا نستغرب إذا سمعناً كثيراً خلال الفترة المقبلة عن نقص الغذاء، أو عدم الأمان الغذائي، أو المالي، أو ربما بعض المشكلات الحدودية، فتضخيم الخوف، واختلاقه أحياناً، هو الوسيلة المتبقية لغير المرحبين بالثورة، أو حتى من يسعون لتمديد أدوارهم كأبواق، مثل الغيطاني نفسه.

نشرت في جريدة "الثوار" بتاريخ 1 مايو 2011

No comments:

Post a Comment