Tuesday, September 27, 2011

إعادة كتابة تاريخ مصر



تحكي قصة الإنسان المصري، كما يتم تدريسها وفق مناهج التعليم قبل الثورة، نضاله من أجل التحرر من الاستعمار، ومن أجل صد عدوان خارجي تلو الآخر رغم وجود فواصل زمنية كبرى بين معركة وأخرى. القصة ليست مزيفة أو محرفة كثيراً كلما عاد ما ترويه إلى أزمنة بعيدة، وهي تعتمد على مبدأ الحذف وتبسيط الصراع الإنساني واختصاره في أبعاد وملامح طفولية، ما يخل بالصورة الكلية خاصة عندما يصل الحذف إلى تشويهات كبرى للحقيقة فيما يتعلق بفصول التاريخ المعاصرة. خدم الحذف والإقصاء لجوانب من التاريخ هدف "دولة ما بعد الاستعمار" التي بدأت في خمسينات القرن العشرين بإنقلابات عسكرية وطنية رأت في التاريخ نوعاً من التعبئة والتجييش، وانتهى نظام الحكم إلى دولة بوليسية تخيف مواطنيها بقوتها العسكرية، فيصبح رصيدها العسكري خصماً من ميزانها الإستراتيجي بين الدول الأخرى.

إذن كيف سنروي التاريخ لأبنائنا؟

لاشك أنه ستشكل لجنة من الخبراء لإعادة كتابة التاريخ، وستجمع بين أساتذة جامعيين، وربما أعضاء في لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة، وربما تضم بعض الشخصيات العامة ذات المكانة والمصداقية، ولاشك أن لخبراء وزارة التعليم حضور ضروري في لجنة من هذا النوع، لكن المسألة: كيف ستروي القصة؟ كيف تصالح القصة حقيقة ما جرى؟ وكيف تقيم القصة جسر الثقة الأول بين المؤسسة التعليمية، الممثل لكل مؤسسات الدولة في نظر الطالب اليافع، وبين هذا الإنسان؟ الذي يٌطلَب منه الانتماء والتضحية، والإسهام في عجلة البناء من خلال العمل ودفع الضرائب والرسوم، والتنازل بدرجات عن خدمات معيشية عند الأزمات، ثم التضحية بالنفس عند الحروب، لا قدر الله.

"دولة ما بعد الاستعمار" بدأت بتبسيط القصة كصراع للتحرر من الاستعمار والقوى الخارجية، لم يرد في قصتها أي ملامح للصراع من أجل المساواة، بين الطبقات، وبين المرأة والرجل، وبين جميع أبناء البلد في حقوق المواطنة. هذه الدولة، أطلق تلفزيونها الرسمي أكاذيباً لم تختلف عن أي نهج سابق له طوال تاريخه منذ إنشائه، في طبيعة تأليف القصة: أخرون يحاولون التغرير بنا، ولكننا طرف الخير ولذلك سننتصر.

نحن طرف الخير في القصة لأننا نلتزم القيم الأبوية أو العائلية، أو الدينية، وتستخدم هذه الحكاية أساليب عجيبة في تبسيط القيم وليها وطيها وتفصيلها تفصيلاً على مقاس الحدث. وقد رأينا نموذجاً صارخا في تلفزيوني مصر وليبيا خلال الثورة، بلغ حداً غير مسبوق من الكوميديا عندما قالت مذيعة ليبية "إن مجلس الأمن تبنى قراراً ضد ليبيا ومعروف أن التبني حرام شرعاً".. هكذا بالحرف الواحد قرأت المذيعة الخبر بأسلوب ظنت أنه يحط من شأنه في نظر جمهورها. وقد أوردتُ هذا المثال حتى لا يظن البعض أنني ضد استخدام القيم الأبوية أو العائلية كأحد جوانب رواية القصة.

كان تناقض الواقع بين ما يفعله الشعب وبين رواية الأخبار بطريقة مزيفة كافياً لسقوط المؤسسات الرسمية لدولة ما بعد الاستعمار، وليس فقط قياداتها.

الشعب هو من قام بالثورة، وهو من يجب أن يروي التاريخ حكايته، سواء مع كفاحه من أجل التعليم، ومن أجل تعديل القوانين التي تضمن له عيشاً كريماً وفق منظومة قيم متغيرة مع كل زمان وعصر. لا يمكن مثلاً أن تُروَى حكاية المرأة في ثورة 1919 بأسلوب من خلعت النقاب دون شرح فكرة الحداثة التي سيطرت على هذا الجيل بأسلوب يناسب المرحلة التعليمية، ولابد من توضيح حقيقة قمع الثقافة الذكورية للمرأة في عصور الانحطاط، فلا يمكن أن يصل الاحتلال لأرضنا ويمتص خيراتها، لأننا نتمتع بمنظومة قيم رائعة وشفافة وطاهرة! حتى لو لدينا قيماً مثالية، لابد أننا لم نمارسها فتمكن منا الآخرون القادمون من بلدان بعيدة.

لا يمكن أن يتجنب تاريخ المدارس قصص الإعدام السياسي، والتعذيب في المعتقلات. لا يمكن أن يتجنب الأعمال الأدبية التي تكتب عن إشكاليات شخصية الإنسان المصري/ العربي الحديث وتناقضاتها. لا يمكن أن تظل الفجوة كبيرة بين حقائق الحياة وما تحكيه المؤسسة التعليمية الرسمية عنها، فيلجأ أبناؤنا إلى رواة قصص آخرين نسميهم المتطرفين، يقدمون شيئاً من الحقائق الغائبة (أحد كتب جماعة الجهاد يسمى الفريضة الغائبة) وكثيراً من الأوهام والضلال. تعليمنا قبل الثورة هو خير منتج لخطاب الإرهاب، إنه يمنحه مصداقية لا يستحقها، وخير حاسم لهذا التناقض، الشيزوفرينيا، أن نحكي أخطاء دولة ما بعد الاستعمار التي تحولت إلى دولة بوليسية، تغذي أكاذيبها مصداقية الخارجين عن القانون، ويتعيش بوليسها وتتعيش بوليسيتها من وجودهم.

لاشك أن الأمر سيتطلب كثيراً من الجدل، لكن هدير الملايين التي خرجت تهتف بسقوط النظام هتافاً هادراً غير تاريخ العالم قادر على أن يمهد لنا طريقاً جديداً مع الصدق. لقد كانت أولى الممارسات بعد تنحي رأس النظام أن نظف المتظاهرون الشوارع، فأعادوا الثقة والانتماء للشارع مسقطين ثقافة التخريب، التي أشاعها تسلط البوليس وعنفه. عودة القانون عبر الشعب، وعودة البوليس في حماية الجماهير، عودة الثقة، كل ذلك يعيد لنا الصدق مع النفس لنروي قصة الإنسان المصري الحقيقية.

أحمد غريب

الصورة: من أعمال الطفلة فيروز محمد صلاح، 11 سنة، ورشة "انطباعات عن المكان" فكرة وإشراف وتنفيذ راوية صادق، مركز سعد زغلول الثقافي، يوليو 2011

No comments:

Post a Comment