Thursday, March 15, 2012

تورنتو..مدينة الأشجار الواقفة في الماء


برج سى إن تاور (CN Tower) ثاني أعلى بناء في العالم حاليا

أحمد غريب
الصور من: www.torontowide.com
تصوير: دوجلاس براون

لمدينة "تورنتو" الكندية حظ من اسمها، والذي يُنطق بلغة قبائل الإروكوي التي سكنتها قبل وصول الأوروبيين "تكارنتو" Tkaronto  ويعني "حيث تقف الأشجار في الماء" ويرجَّح أن هذه التسمية تعود تحديداً لمنطقة شمال تورنتو الحالية، التي تتصل فيها بحيرتان من البحيرات العظمى. يجسد المعنى القديم لاسم المدينة صورة أصيلة في شخصيتها الحديثة، فبالرغم من أنها أكبر مدن كندا وخامس أكبر المدن في أمريكا الشمالية إلا إنها تتمتع بكثافة المساحات الخضراء وتداخلها مع البنيان على نحو نادر. كما يفسر معنى الاسم تلك النزعة في شخصية المدينة  نحو مراعاة معايير البيئة وتغليب قيم الانسجام مع الطبيعة، باستلهام قيم ثقافة الهنود الحمر أو السكان الأصليين، كما يكشف الاسم خلفية الحالة النابضة والحيوية للمدينة والتي وضعت تورنتو في مركز القلب الإقتصادي لكندا ومنحتها درجات عليا في تصنيف جودة المعيشة بين مدن العالم.

 تجسد مدينة تورنتو، التي يبلغ عمرها 176 عاماً فقط، صورة الماء منساباً بسلاسة بين الأشجار بأكثر من طريقة. سلاسة الحركة في الطرقات ملحوظة مثلما هو تناغم الأعراق المهاجرة إليها، حيث وُلد خارج كندا نصف سكان المدينة البالغ عددهم 5.5 مليون نسمة، ما جعل اليونسكو تصنفها أكثر مدن العالم تنوعاً في الأعراق. ويبلغ عدد سكانها الكلي شاملاً ضواحي المدينة أكثر من 8 مليون نسمة، وهو ربع سكان كندا، ما يجعلها قلبا نابضاً للبلد في الثقافة والفنون، وإدارة الاقتصاد، والتأثير والإلهام السياسي أيضاً.

 وقد شهدت تورنتو عدة دورات من البناء والتشييد والتوسع وإعادة التشكيل رغم شبابها، وفي كل مرة كان الهدف إعادة صياغة شخصية المدينة لتستوعب سكانها الجدد أو المتوقع وصولهم. ينقسم تاريخ المدينة إلى ثلاث مراحل رئيسية الأولى هي ما قبل عام 1800، حيث سكنتها قبائل الهورون منذ 1500 ثم الإروكوي ثم توافد المستوطنون الإنجليز خلال القرن الثامن عشر، ومنذ عام 1793 تم تخطيط المستوطنات كمدينة بهدف تأمينها من هجمات الأمريكيين الذين خاضوا بالفعل حرباً هاجموا فيها تورنتو عام 1812. من هذا التخطيط اكتسبت المدينة مخططها الرئيسي الحالي، وفي إطاره نمت جماعات المستوطنين وتفاعلت خلال الفترة من 1800إلى 1945، فكانت تورنتو من أول مدن أمريكا الشمالية التي تمنع العبودية وتسلك طريق الحداثة وحقوق الإنسان وتلقي بثقلها على مبادئ التعايش والعلم والتكنولوجيا كأداة للحياة العصرية.

 تورنتو هي عاصمة مقاطعة أونتاريو كبرى مقاطعات كندا، ويتحدث سكانها الإنجليزية كلغة أولى إلى جانب خليط من اللغات. يجسد مبنى بلدية تورنتو الحديث، بتصميمه على شكل مركبة فضائية، الطور الحالي الذي تعيشه المدينة منذ عام 1945، كمركز تكنولوجي ومالي للدولة وملتقى للفنون والأفكار والفعاليات ليس في كندا وحدها ولكن على مستوى أمريكا الشمالية،  وقد استطاعت تورنتو أن تتقدم خلال السبعينات من القرن العشرين صوب مكانة المدينة الأولى في كندا متقدمة على مونتريال التي تمتعت بهذه الصفة منذ قيام الدولة عام 1886. وقد أثمرت موجة العصرية التي سادت في السبعينات عن تحول مشروع برج كانت تعتزم تشييده هيئة سكك حديد كندا إلي مشروع أطول برج في العالم وقتها، وقد ظل كذلك منذ عام 1976 حتى فاقه "برج خليفة" طولاً، ويبلغ ارتفاع برج "سي إن تاور" CN Tower 553 متراً ويتمتع بتجهيزات خاصة لتوفير الأمان خاصة عند تساقط الثلوج.

 يطل برج السي إن تاور على جزيرة تورنتو في بحيرة أونتاريو، والتي تمثل زيارتها استعادة لصورة مسمى المدينة القديم "حيث تقف الأشجار في الماء" فهي عبارة عن سلسلة من الجزر الصغيرة تسبح بينها طيور البجع والبط الأمريكي بأمان بينها تنمو عليها أنواع عديدة من الأشجار والنباتات بغزارة نادرة وهي مجهزة للضيافة السياحية.

ساحة عامة للتزلج أمام مبنى بلدية تورنتو القديم (بني في القرن التاسع عشر)

مدينة التصاميم
 اكتسبت النزعة العصرية التي تأكدت منذ السبعينات سمة إنسانية بانفتاح المدينة أمام موجات من الهجرة القادمة من آسيا وإفريقيا لتصبح كوزموبوليتانية بالفعل وليست قصرا على الأوروبيين، وأهم ما يميز هذا الطور طموح كبير نحو الريادة في تطبيقات التكنولوجيا الحديثة والمساواة وحقوق الإنسان، أما البحث عن معادلة صعبة تحافظ على الروح الأصلية للمكان، وهي الانسجام مع الطبيعة، فيجسدها ذاك القانون الذي يحتم على كل بناء معماري تخصيص ما يعادل 1% من ميزانية تشييده من أجل عمل فني أو بيئي حول أو داخل البناء يكون متاحاً للعامة، فتتبارى ناطحات السحاب وسط المدينة في ابتكار أشكال جمالية ومجسمات ومساحات خضراء ونوافير، تتميز بابتكارات تصميمية لخدمة التفاعل مع الجمهور؛ أما إذا كان العمل الفني جدارية داخل المبنى أو مجموعة من اللوحات فتتاح زيارتها للجمهور نهاراً.

لفنون التصميم مكانة ودور بالغ الأثر في تميز هذه المدينة، فأعرق وأكبر معاهد وكليات التصميم العديدة هو معهد أونتاريو للفن والتصميم تأسس عام 1876، يعد بناءه الأحدث من أروع البنية تصميما فهو يشبه المنضدة ويرتفع بأعمدة مائلة عن الأرض بينما تبدو طوابقه الأربعة كصندوق قد يحتوي على مفاجأة ما، وهو من تصميم المعماري البرؤيطاني ويليام ألسوب وقد افتتح المبنى عام 2004. وتتميز تورنتو بمجموعة من الشوارع القديمة التي تحمل تراث المدينة خلال مائة عام مضت، وقد تبارى الرسامون قديماً في تصور الحياة في شارعي كينج وكوين اللذان يوازيان شاطئ بحيرة أونتاريو، يتميز الشارعان بأنهما مركز للجاليرهات والمسارح والأنشطة الفنية والفنادق، ويخترق الترام كلا من الشارعين حيث تعد هذه الوسيلة التقليدية للمواصلات علامة جمالية للشارعين، وهما مقصد الفنانين والأدباء عند زيارة المدينة وبهما عدد كبير من المقاهي التي تحمل نفحات ثقافية من مختلف البلدان.

بهذا المزيج الذي يجمع بين سخاء الطبيعة، وغزارة الفنون والتصاميم التي تنمو بالتوازي مع حركة البناء، وتتنوع أشكالها مع تزايد العرقيات والجنسيات، لا تعتبر تورنتو مكاناً قليل التاريخ مقارنة بعمرها وبالنزعة الحداثية في شخصيتها الحالية، والتي تجسدها أيضاً "قلعة كازالوما" بإرثها الأوروبي كمقر للحاكم في زمن الإمبراطورية البريطانية. تورنتو ليست نسخة ترفيهية لامعة على طريقة "ديزني لاند"، بل مكان تتنافس فيه مكونات ثقافية وجماليات من خلفيات تاريخية مختلفة، وهي عاصمة أولى للتصميم والمصممين في العالم من هذه الزاوية التي ينصهر فيها التاريخ ليكشف حكايات إنسانية لا صراعات على السلطة.
قلعة "كازالوما" مقر الحاكم الكولونيالي في القرن التاسع عشر، وتتميز بتطبيقات طليعية لتكنولوجيا الرفاهية المنزلية
Photo: Tourism_Toronto

متاحف غير سياسية
تحتضن تورنتو عدداً كبيراً من المتاحف، مثل متحف أونتاريو الملكي الذي يضم أقساماً للتاريخ الطبيعي وخاصة هياكل الديناصورات التي عثر عليها بوفرة في كندا حول البحيرات العظمى وفي المناطق الجبلية، كما يضم أقساماً عن الحضارات القديمة في مصر والصين والهند واليابان، وحضارة السكان الأصليين في أمريكا، وتشجع طريقة العرض العصرية الزوار على لمس ومعايشة الأجواء، سواء أجواء البحث والتنقيب عن الحفريات أو أجواء التاريخ القديمة، من خلال ارتداء الملابس والتسلية بألعب مستوحاة من وحي أنماط الحياة التاريخية، لكن ذلك مجهز بطريقة تحفز الزائر على التساؤل والتنقيب وتثير فضوله نحو مزيد من المعلومات.

تتفرد متاحف تورنتو بنظرتها للماضي بحثاً عن الإنسان وليس السرد التاريخي الزمني للأحداث الكبرى، لذا تحتفي بأدوات المائدة في الحضارات الصينية والهندية وغيرها، بينما تضم المدينة متحفين أحدهما متخصص في الأحذية، والآخر في الأنسجة، ومن الحذاء والملبس تتكشف صور إنسانية غير معتادة عن الماضي في المتاحف التقليدية، قد نتتبع تطور نوع معين من النسيج بالتفاعل مع البرد أو الحر الشديد في منطقة معينة، وكيف تطورت طرق الحياكة لتلبي الحاجة الجمالية والأخلاقيةو الثقافية، كما تحكي الأحذية قصص الحمام الإسلامي والكعب العالي الفارسي وزهد الحذاء القبطي، وقصص غنسانية مدهشة يتبارى ألمع الباحثين في مجال التاريخ في نفض الغبار عنها بهدف توكيد البعد الإنساني في البحث التاريخي الذي تعرض للظلم بسبب طغيان زاوية الحكاية السياسية  عليه.

من المتاحف المميزة جاليري أونتاريو للفنون Art Gallery of Ontario المتخصص في الفن الحديث والمعاصر، ويتضمن مجموعات من إبداع مشاهير الفنانين مثل بيكاسو وبراك وماتيس وجوجان، ومركز أونتاريو العلمي وهو متخصص في تطبيقات علوم الفضاء والفيزياء، متحف فنون الإنويت المتخصص في الأعمال فنية والحرفية لأبناء شمال كندا الأصليين الذين كانو يعرفون بالإسكيمو وأصبحوا يسمون بالإنويت نسبة إلى لغتهم. وتقام في تورنتو خلال الصيف والخريف مجموعة من المهرجانات الفنية والإبداعية أهمها مهرجان تورنتو السينمائي الذي فاق مهرجان فينيسيا أهمية في السنوات الأخيرة وأصبح تالياً في المكانة لمهرجان كان الشهير، وتعد المدينة أحد مراكز لعبة هوكي الجليد في أمريكا الشمالية.

جانب من الواجهة الخارجية لجاليري أونتاريو للفنون
Art Gallery of Ontario
فصل الخريف

No comments:

Post a Comment