Friday, March 9, 2012

الألتراس والسلفيون


أحمد غريب

الثورة غيرت من طرق إنتاج المعلومات والإعلام، وليس المقصود بذلك الوسائط الإعلامية الجديدة مثل الفيسبوك أو اليوتيوب والبلوج وتويتر، الأهم من ذلك أنها كسرت احتكار النظام الرسمي لحق صك المسميات والمصطحات، خاصة أجهزة الأمن فهي مثلاً التي صاغت مسمَّى "جماعة التكفير والهجرة"، بينما كانت تسمي هذه المجموعة نفسها "جماعة المسلمين"، وليس ذلك إلا مثال صريح على نحت المسمىات من الأساس، والذي كان النظام يمارسه بدرجات مختلفه أخطرها هو إسقاط  التفسيرات أو الدلالات والمعاني، واحتكار تفسير الأمور والأحداث من خلال السيطرة على الإعلام والإعلاميين.
"الألتراس" و"السلفيون" مسميان متواجدان قبل ثورة 25 يناير، لكنهما اقتحما عالم السياسة بعدها، وهما إطاران لروابط يمنح كل منها تجربة وسمات للمنتمين لها، وقد تفاعلت هذه الروابط مع الثورة على نحو كشف سمات وملامح جديدة للإنسان المصري في عهد الثورة، خاصة الشباب الذين هم عظم ولحم هذه الثورة.
فمنذ الهبة الشعبية الأولى في يناير كانت الإشارات الصادرة من ميدان التحرير تحمل عبارات الثناء على فدائية وشهامة الألتراس، بكل انتماءاته سواء لأندية الأهلي أو الزمالك أو الإسماعيلي، وهي الأندية الأكثر جماهيرية وعراقة، حيث تشكلت جذور الانتماء لهاً بالتفاعل مع سياقات تاريخية وطنية تكاد أن تكون معروفة للجميع، بينما أثير الجدل حول الفوارق بين دعاوي الفرملة وكبح الثورة التي تصدر بأشكال مختلفة من رموز سلفية (بداية من تحريم الخروج على الحاكم)، إلى درجة وصل معها الأمر أن يرشح واحد كعبدالمنعم الشحات نفسه في الانتخابات البرلمانية التي تمت في عام الثورة بينما هو يصرح بأن الديموقراطية كفر! في تناقض مذهل للجانب الأخلاقي لشخص يفترض أنه يمثل رابطة أساس دعوتها الأخلاق!
بعض الشباب السفلي حائر، فهو مثلاً يحاول محو صورة العزلة عنه، فينشئ صفحات على الفيسبوك بعناوين مثل "سلفيو كوستا"و"الحياة بقى لونها سلفي"، لكنها مبادرات تحمل رسالة طمأنة تؤكد الشكوك ولا تنفيها، وبينما تستمر حالة التناقض باضطراد مع أداء شخصية المتحدث الرسمي باسم حزب النور، نادر بكار، كمعتذر رسمي عن ما يبدر من رفاقه كل حين! يحمل الإعلام الشعبي الجديد (اليوتيوب وغيره من تطبيقات الإنترنت) بعض رسائل شباب سلفيين يبدون منعزلين عن الرموز التي تضفي تناقضات على التيار، وهذه الإشارات تبشر بإيجابية وتبدو صادقة في وطنيتها، بعكس الطريقة التي قدمت بها صورتهم في بداية الثورة وتفاعلاتها، خاصة الاقتحام المتعصب لموضوع تغيير بعض السيدات لديانتهن، بدلاً من لعب دور عكسي يهديء من الخوطر ويشيع الطمأنينة استناداً إلى أن الوطن لجميع المصريين.
من ناحية أخرى، ظلت روابط الألتراس على وفائها وعطائها للثورة، متمردة على نجوم الكرة ومشاهيرها الذين انحازوا للنظام ثم أصبحوا أدوات لفلوله، مثل الأخوين حسن وأحمد شوبير ومصطفى يونس وغيرهم، كانت هذه الروابط أكثر نضجاً واستقلالاً في تشكيل وعيها واختيار مواقفها، وكانت أيضاً أكثر مواجهة للقمع الأمني في الميدان، ولعلها الأكثر تعرضاً لأذيته حالياً بعدما أسفرت اعتداءات الأمن وبلطجيته المتكررة عن عشرات الشهداء في مذبحة استاد بورسعيد، وقبلها كانت هذه الروابط قد قدمت الشهداء بالآحاد والمصابين بالعشرات في أحداث أخرى، لكن حادثة بورسعيد هي الأكثر دموية ولاشك إذ استُشهد العشرات وجُرح المئات غدراً.
يحدث هذا الفارق بين شباب من نفس الجيل يعيشون التجارب نفسها، ويستغلهم الأمن كأدوات ينفذ بها رسائل الخوف والقمع. هنا سيد بلال، وهنا مذبحة استاد بورسعيد، واعتدءات في مباريات أخرى راحت فيها أرواح!
على صفحتي بالفيسبوك تساءلت عن سبب هذا الفرق في الوعي، والفارق في الأداء والمواقف؟ كيف يمكن لشباب من نفس الشوارع والمدن أن ينحاز بعضه لبرلمانيين كرتونيين ورموز متناقضة في قيمها مثل الشحات والبلكيمي، بينما يتمرد آخرون منه على محاولات غسل المخ كاشفين غياب الضمير عن مشاهير للكرة كانوا قد تربوا وشبوا معجبين بهم وبأداءهم كنجوم للعبة التي يحبونها؟
بعض الأصدقاء منحني إجابات مدهشة، سأذكر بعضها منسوبة لأسماء أصحابها وليعذرونني في الألقاب فمنهم الصحفي ومنهم الفنان:
أشرف نسيم: "دول ثقافة السمع والطاعة ... دول ثقافة جيفارا دول تنظيم رأسي ... دول تنظيم أفقي. دول قادتهم عواجيز وعملاء ... دول قادتهم شباب منهم".
محمد حربي: " الكرة لعبة ديمقراطية تشجع فيها باختيارك وهذا أول دروس الديمقراطية، والكرة لعبة جماعية لا يمكن لأحد أن ينفرد فيها بقرار. الديمقراطية سلوك وحياة والكرة ليست لهواً فارغاً كما يظن الكثيرون".
وسام مهنا: " هناك شباب اتجه للجامع نتيجة لعدم ثقته بنفسه، حتى يساعده على البقاء نقيا... وهناك من يثقون بأنفسهم، ويرون أنهم قادرين على الحياة بأمانة، بدون الاحتماء بمثل السلفيين. الأوائل انغلقوا على عالمهم الضيق. والأخرين تعاملوا مع قول السيد المسيح، أعطوا ما لله لله، وأعطوا قيصر ما لقيصر... لقد استغل السلفيون الفراغ الذى عانى منه شباب كثير، للسيطرة عليهم. وللحديث بقية".
وبعبارة موجزة اضاف الصديق عماد إرنست تعليقاً مقتضباً "مكان الشحن" وهي إشارة إلى الفضاء المفتوح لملعب واستاد الكرة وانطلاق الطاقات فيه، بينما – وهذا الكلام من عندي- انعزل في العقود الأخيرة دور المسجد كمعارضة سياسية في تكوين روابط أخوية (بدأها الإخوان المسلمون) تقيم فاصلاً بين الجماعة وبين فعاليات المجتمع، مما فتح الباب أمام دور ووظيفة بالغ المتدينون في ممارستها هي إصدار أحكام التحريم بدلاً من أن يكون المسجد مؤسسة اجتماعية متكاملة وسمحة تطلق الطاقات وتحتفي بالابتكار.
 بات مجال الابتكار الوحيد الذي تحتفي به مؤسسة المسجد في ظل عهد تلك الروابط الأخوية هو المشاريع التجارية الصغيرة، كون تراث الدين الإسلامي يحث على التجارة بشكل عام، إلى جانب ذلك بعض الوظائف العادية كدار للمناسبات وفصول تعليمية للتقوية وعيادة شعبية، وهي أمور محمودة لكنها لا تطلق طاقة خارج سياقها المألوف، ولا تشجع على نقد، بقدر ما تحمل تواصلاً اجتماعياً محموداً بان أثره في الانتخابات، لكن المتأثرين من أنصار هذه الروابط ارتبكوا وتناقضت الصور عن أدائهم عندما وجدوا أنفسهم في مواقف تتطلب استقلال الموقف والرأي والضمير، وربما شعر بعضهم أنهم ضحية تقنُّع البعض برداء التدين.

في  جولتي بالفيسبوك وجدت تعليقا للكاتبة منى برنس، التي أصبحت مرشحة محتملة للرئاسة، عن الألتراس أورده في هذا السياق: "أجمل حاجة في الألتراس دول إنهم أكتر ناس أو تنظيم متجاوز للتقسيمات الطبقية والاجتماعية والدينية... كل التحية للألتراس". هذا الأمر يمكن رصد مقلوبه على الجانب الآخر من الروابط التي اختارها نفس الجيل كروابط شعبية جماهيرية يحشد فيها نفسه، وهي الروابط  ذات النزعةالسلفية، حيث تميل مشاريعهم التجارية، وأيقونتها "محلات التوحيد والنور" إلى التأكيد على توفير ملابس الكاجوال مقلدة بأسعار زهيدة، بأسلوب يشبه نفس الطريقة التي ابتكر بها شباب آخرون تسمية "الحياة بقى لونها سلفي" فهم اختاروا أيقونة للرومانسية لطالما دغدغت مخليلة المشاهد المصري وآذانه وهو يستمع لسندريلا الشاشة تغني "الحياة بقى لونها بمبي" واستبدلوا بكلمة بمبي كلمة سلفي.
  لا أنكر أن ذلك قد يروق للبعض، سواء التسمية أو أسلوب تسهيل ارتداء الملابس الكاجوال، بغض النظر عن إهدار كثير من الذوق الذي لا يتطلب حيازته إنفاق مزيد من المال. فلا شك أنها كطريقة قادرة على حشد أنصار وجذب مؤيدين، ولفت انتباه كثيرين ممن لا يروق لهم، لكن لابد من التفرقة بين حيازة الأسلوب العصري وارتداء الزي الكاجوال، وبين قرصنته!

 قد يبدو الشكل لمن ينظر من بعيد متشابهاً إلى حد ما، لكن مجرد الاقتراب وتدقيق النظر يبين الفارق الأساسي بين صاحب الشيء ومن قرصنه منه.

 ولعل من المهم هنا الإشارة إلى أن حركات اجتماعية مشابهة آلت إليها الأمور بعد فشل الدولة في الصومال، نتج عنها "قرصنة" صريحة للسفن الملاحية التجارية. وهي حالة متطرفة بلغت حدها الأقصى سواء في فشل الدولة أو في ممارسة القرصنة الصريحة. ومن جانب آخر، وللأسف، لا يمكن أن أحتسب ما يفعله "التوحيد والنور" على النمط الصيني، رغم أن بضاعته المقلدة مستورة من الصين، فالصين تقوم بتصنيع رديء وقليل التكلفة تحارب به التفوق الصناعي الغربي، وهو ما يمكن لمصر أن تفعله أيضا لاعبة على وتر الهوية المصرية في ترويج بضاعتها مثلما تضرب الصين على وتر الهوية الصينية، لكن للأسف ما يحدث في مصر مسخ ليس له علاقة باستقلال الصناعة أو تطويرها، وإنما استغلال شكلي لفكرة الهوية الدينية لجمع أموال سريعة عن طريق الاستيراد!
الألتراس ليسوا ملائكة، هم متهمون بالتعصب، وأحياناً الشغب إذا زاد التعصب عن حده ولم يستطع هضم الهزيمة، وهم مبدعون في تأليف وغناء الأغاني، وتكوين الأشكال الجمالية التي تعبر عن عشقهم للكرة ولشخصية الأندية الرياضية التي التقوا على مناصرتها، لكنهم رغم تأييدهم لهذه الأندية ومناصرتهم لها فائزة أو مهزومة، لا تمنعهم محبتهم للاعب نجم أو مدرب ذكي من نقده، بل إنهم يستمتعون بالبحث عن مواطن الضعف مطالبين أنديتهم بالتغلب عليها.
 ولعل أحد عوامل الجذب في الكرة أنها قائمة على التطوير، وأنها مدرسة لتعاون الأجيال، فتسليم الراية من جيل لجيل من سنن الحياة في لعبة الكرة، بل إنه يتم كل خمس سنوات تقريباً في كل فريق، ووجود لاعب معمِّر يلعب وهو في الثلاثينات من عمره جوار لاعب يصغره بأكثر من عشر سنوات دليل خصوبة وتجدد وتعاون بين الأجيال، كذلك تحول الكبير لمدير للكرة أو مدرب أو انتخابه إدارياً أمر طبيعي، ولطالما تردد على ألسنة الشباب في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة أن الأندية المصرية هي الوحيدة التي تمارس قدراً معقولاً من الديموقراطية، وأنها الوحيدة التي تجري فيها الانتخابات بحد مقبول من النزاهة. يكفيهم من الديموقراطية أنهم معتادون على تقبل حالتي الفوز والهزيمة، ولا يعيشون في حلم مثالي يجعلهم محتاجين لإصدار أحكام بالتحليل أو التحريم على كل جديد استحدث على مدى قرون من الزمن!

No comments:

Post a Comment