Sunday, February 19, 2012

موسيقى الجاز (2-2): ديانا كرال.. بيضاء على عرش اللحن الأسود




الملف منشور في مجلة "درة قطر"- فبراير 2012
أحمد غريب

ربما لم يرد استعمال تعبير "التربع على عرش موسيقى "الجاز" قبل أن تطرحه إنجازات المطربة الكندية ديانا كرال، فهذه المرتبة ذات الطابع الترويجي لصيقة بموسيقى "البوب" الشعبية، لكن الاستثنائي هنا مع كرال التي تعزف البيانو منذ عمر 4 سنوات أن بعض ألبوماتها تفوَّق على ألبومات "البوب" رواجاً، حيث سجلتْ مبيعات
ألبوماتها أرقاماً غير مسبوقة بداية منذ عام 2000 عندما حصل ألبومها
When I Look in Your Eyes
على لقب ألبوم العام في الولايات المتحدة، محققاً نسبة مبيعات هي الأعلى في تاريخ"الجاز"، تلاه ألبوم
The Look of Love
عام 2001 الذي نافس في قائمة أغنيات "بيلبورد" - أشهر وأهم سباقات الأغاني- ضمن العشر الأوائل ليكون أول ألبوم"جاز" في تاريخ سباق الأغنيات الأمريكي يسجل تقدماً على أغنيات البوب والروك معاً.




بالطبع تحتل ألبومات كرال، التي بدأت مشوارها الفني عام 1993، مراكز أولى أو متقدمة في موطنها الأصلي كندا، فقد حصلت على 3 جوائز "جرامي" الأمريكية من أصل 9 ترشيحات بينما نالت 8 جوائز"جونو"؛ المعادل الكندي للجائزة الأمريكية. لكن القصد من ذلك العرض للتقديرات التي نالتها نجمة "الجاز" الحالية ليس إلا الإشارة لتغيير أحدثته أغنيات كرال في علاقة الجمهور بموسيقى "الجاز"، والذي يلخصه ذلك الإحصاء الأخير: تخطى مجموع مبيعات هذه المطربة من ألبومات "الجاز" 15مليون نسخة، وهو الأعلى في تاريخ هذه الموسيقى الأمريكية العريقة!


Cry Me A River From "Live In Paris"
الأغنية كتبها آرثر هاميلتون كي تغنيها أسطورة الجاز إيلا فيتزجرالد عام 1920 في فيلم
 Pete Kelly's Blues
لكنها استُبعدت من الفيلم، وغنتها فيما بعد الكثيرات أشهرهن دينا واشنطن، ثم أضافت ديانا كرال كثيراً لطريقة أداء الأغنية فتفوقت

 ثمة شيء ما في موسيقى "الجاز" يعاند الشهرة الفائقة والانتشار الجماهيري الذي تحققه موسيقى البوب، شيء له علاقة بتاريخ صناعة النجومية في هذا اللون الغنائي المفعم بالشجن، حيث يعيد معظم نجومه غناء ألحان قديمة بأساليبهم الخاصة في الأداء، والملفت أن ديانا كرال ليست استثناء عن تلك القاعدة، فقد ظلت تعيد أداء أغنيات من ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين لمدة 8 سنوات نالت خلالها أغلب ما حصدته من جوائز!

 تُعد إعادة إنتاج الكلمات أو الألحان سمة جوهرية من سمات موسيقى "الجاز" تميزها عن غيرها من ألوان الموسيقى والغناء الأمريكيين، سمة تمنح كلمات الأغنية عمقاً شعورياً مع تلوُّن نبرات وطبقات الصوت، وتجعل من الأغنية، كلمة ولحناً، نصاً إبداعياً مفتوحاً يتفاعل مع زمان ومكان وحالة المطرب وتوليفة الآلات الموسيقية التي تعزفها الفرقة المصاحبة، بل وحتى حالة المسرح الذي يكون "تقليدياً" ضمن ملهى ليلي.

 هنا تكتسب معايير التنافس بين نجوم "الجاز" سمات ديناميكية ومتناقضة، فالنجاح في تقديم جوهر المشاعر التي حملها النص الأصلي كلاماً ولحناً شرط أساسي، لكن بالمقابل لا يكتسب فنان "الجاز" هويته دون تقديم الإحساس طازجاً من خلال علاقته باللحظة، وتوظيفه الدقيق لموهبته الشخصية وقدراته، خاصة أنه في أغلب الأحوال يكون عازفاً لآلة موسيقية يبثها أشجانه أثناء الغناء وترد عليه، وبذلك يصبح الارتجال قيمة أسمى في الأداء، ويستخدم لقب "أسطورة الجاز" للتعبير عن التفوق الإبداعي بدلاً من الألقاب المستوحاة من فكرة السيطرة والنجاح الجماهيري الطاغي مثل لقب "ملك الروك" الذي أُطلق على إلفيس بريسلي، أو "ملك البوب" الذي التصق بمايكل جاكسون.
لم تعرف صناعة الموسيقى في أمريكا رواجاً تجارياً لألبومات "الجاز" بل تشهد مهرجاناً سنوياً واحداً على الأقل لكل مدينة وبلدة في أنحاء القارة، حيث يتم التفاعل الحي بين الفنان والجمهور والآلة الموسيقية. ظهور ديانا كرال في التسعينات وتصدرها للمشهد الخاص بموسيقى "الجاز" كان انعكاساً لتغيير في هذه السمات الأصيلة في نظرة الجمهور الأمريكي لـ "الجاز". تغيير له صلة بعمليات تصحيح ثقافي في الوعي الأمريكي تجاه تراثه وتاريخ المجموعات العرقية المكونة للمجتمع. وتغير في دور موسيقى "الجاز" نفسها، وفي ذائقة الجمهور الذي بات متقبلاً للاستماع لتسجيلات الحفلات الحية عبر وسائط حديثة.

 وُلدت كرال في بلدة صغيرة قرب مدينة فانكوفر على الساحل الغربي لكندا عام 1964، ويعد وصولها كامرأة بيضاء إلى قمة موسيقى ارتبطت تاريخياً بالسود وبقضاياهم تغيراً عميقاً في الدور الذي أصبحت تلعبه هذه الموسيقى، ما دفع بعض النقاد التقليديين إلى التشكيك في أسباب شهرتها، ملمِّحين إلى عناصر ترويجية أخرى كالشكل والأنوثة، أو لظهورها المتكرر كمطربة "جاز" في بعض الأفلام السينمائية والمسلسلات الدرامية، وهي انتقادات لم تجد ترحيباً من الجمهور وكذلك من قسم آخر من النقاد، لأن أداء ديانا كرال للنمط الكلاسيكي من "الجاز" يجعلها تندمج كلياً في عزفها على البيانو على المسرح ما يتناقض مع اتهامها باستغلال أنوثتها، وقد أشارت كرال بشكل غير مباشر في الحوارات الصحفية القليلة التي أجرتها إلى رغبتها المتحفظة في إبقاء حياتها الشخصية بعيدة عن فنها، ورفضها الكامل للحديث عن استغلالها للشكل في جذب الجمهور قائلة "أنا أم، وبخلاف ذلك لا أهتم بهذا النوع من النقد".

إذن، كيف يمكن أن نفسر هذه الحالة الجماهيرية الإستثنائية لفنانة تتحفظ في اللعب بأدوات الرواج الجماهيري غير الفنية؟

رومانسية "الجاز" دون أيديولوجيا

 للمؤرخ الموسيقي الأمريكي القدير تيد جويا إجابة تحليلية جديرة بالتأمل، قدمها في دراسته "حالة غناء الجاز اليوم" التي رصد فيها مشهد هذا اللون الغنائي في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، بداية من ظاهرة تصدُّر المغنيات النساء للساحة الفنية إلى الدرجة التي جعلته يتساءل "هل دخلت مجلة فوج مجال إنتاج موسيقى الجاز؟" معدداً أسماء: ديانا كرال وجين مونهيت وروبرتا جامباريني ومادلين بيروكس، إلى جانب نورا جونز التي يتراواح إنتاجها ما بين "الجاز" و"الكنتري ميوزيك"، كون هؤلاء هن أشهر وأهم من يغني "الجاز" حالياً. ويعتبر جويا تلك الظاهرة دليل حيوية هذا اللون الفني الذي تخلَّص على يد هؤلاء وغيرهن من مطربات ومطربي العقدين الأخيرين من حمولته الأيديولوجية، ليصبح مضماراً للتعبير الجمالي والشعوري عن العواطف العميقة، ويغدو التنافس فيه بحسب القدرة على بلوغ ذروة التعبير عن العاطفة وفق التقاليد الجمالية وحدها لفن الجاز، والتي تحققها ديانا كرال بشكل مثالي.

لم يُشِر جويا في دراسته إلى أن جميع هؤلاء المطربات لسن من ذوات البشرة السوداء، لكنه أشار إلى أن الشكل الذي ظهر به مطربوا ومطربات "الجاز" كان يلبي دائماً تطلعاً في مخيلة جمهور كل حقبة زمنية بذاتها، وهو في الحقبة الأولى من القرن الواحد وعشرين تجسيد لرغبة تواقة إلى التعبير عن مشاعر رومانسية بألحان مرهفة ابتعدت عنها ألوان موسيقى البوب والروك.

 رصد جويا أيضاً نهجاً تميزت به كرال وكان له دور في تصدرها المشهد الغنائي، وهو اختيارها للون "الجاز الكلاسيكي" الذي يجسد أصفى الحالات الجمالية لغناء هذه الألحان المفعمة بالشجن، ونجاحها في تطوير وتسريع نبض وإيقاع أغنيات حقبة الأربعينات من القرن العشرين بما يسمح بتقبل الأذن لها في الوقت الراهن دون أن تفقد انتمائها لـ "الجاز"، وقدرة هذه المطربة على تحديث كلمات وجُمل الأغنيات خلال الارتجال إلى درجة اعتُبرت بمثابة إعادة تأليف، وهو ما تنفيه كرال مؤكدة أنها تؤلف الموسيقى أولاً ثم تبحث عن كلمات تتوافق معها بعد ذلك. ولعل التعبير الذي وصف به المؤرخ تيد جويا أداء كرال على المسرح معتبراً أنه سر تفوقها على منافساتها من المطربات "تمنح نفسها بالكامل لعملها" هو أكثر ما يلفت بالفعل في حضور هذه الفنانة على المسرح.

 لا تضع كرال إلا القليل من تفاصيل حياتها الخاصة تحت الضوء، فباستثناء إشارات إلى نشأتها في بلدة صغيرة على الساحل الغربي لأسرة من الطبقة الوسطى، ما جعل مخيلتها ترتبط برومانسية مشهد البحر، وبأنها أم لتوأمين، لا يلفت في سيرتها إلا العزف المبكر على البيانو ودراستها للجاز في لوس أنجلوس، والتزامها بالغناء مع نفس عازفي فرقتها الرباعية منذ بدأت وحتى الآن، وتتكون الفرقة من بيانو تعزف عليه بنفسها، وجيتار وكونترباص وآلة إيقاع، وتصاحب الفرقة الرباعية أوركسترا عندما تغني كرال على مسارح كبرى مثل مسرح "الأولمبيا" بباريس.

 تأثرت كرال بفنان الجاز الرائد "نات كينج كول" الذي عزف البيانو وغنى الجاز في خمسينات القرن العشرين وكان أول أميركي أسود يقدم برنامجاً للمنوعات في التلفزيون يستضيف فيه مشاهير ويقدم فقرات غنائية، ولعل ذلك سبب ترحيبها بالظهور التلفزيوني في مسلسلات درامية بشخصيتها كمغنية "جاز"، وقد أصدرتْ ألبوماً خاصاً أعادت فيه تقديم بعض أعمال "كول". أما أول ألبوم تقدم فيه أغنياتها هي فقد صدر عام 2004، وقد ألَّفت ألحانه بنفسها ووضع زوجها المطرب البريطاني إلفيس كوستيلو كلماته لاحقاً بعد تأليف الموسيقى.

يمكن الاستماع لأداء دينا واشنطن لأغنية  Cry me a river عبر الرابط التالي لمعرفة الفرق الذي أضافته كرال لأداء الأغنية:
وللمزيد من أداء كرال الأغنية التالية:   - Lets fall in love  
 

No comments:

Post a Comment