Sunday, February 5, 2012

كنيسة "القديسين" وبورسعيد


مصمم اللوحة هو الشاب: محمد عيد، أحد متطوعي صفحة "كلنا خالد سعيد"، فقد إحدى عينيه في اشتباكات الداخلية مع المتظاهرين في 3 فبراير2012


مذبحة بورسعيد تكرار لمذبحة "كنيسة القديسين" في الإسكندرية التي ارتكبت قبل أسابيع من ثورة يناير لإشاعة الخوف والفتنة، ربما يكون مدبر "بورسعيد" قد فكر مع معاونيه في صيغة أخرى غير الفتنة الطائفية تحقق هدف الوقيعة، والوقيعة حالة من الشك في الآخر، تخلخل الثقة الاجتماعية، وتخلق مسافات بين الأفراد وبعضهم البعض، وبين التجمعات والروابط التي تشكل خلايا المجتمع.
 إنها حالة نعرفها جيداً نحن المصريون الذين عشنا سنوات تحت حكم مبارك واليأس يغمرنا من أي عمل جماعي، و"كلنا" نبحث عن حل "فردي" للأزمات التي كانت تغرقنا دون أن نبادر مبادرة جماعية لحل الأزمة الحقيقية وهي النظام الذي ينتج الأزمات.
 لم يكن هناك مجال لأن نقول "كلنا..." ليس لأن خالد سعيد لم يكن قد استشهد على يد جلادين النظام، أبداً، كان هناك كثير  من الأسباب الثقافية التي تجبرنا على تسليم الأمر لسلطة الحاكم الأعلى، ومن طبقات الخوف التي تحذرنا من الاعتراض، ومن الشك في تضامن الآخرين معنا.
"كلنا خالد سعيد" كانت ثورة على هذا الشك، أو القلق من أن الآخر لن يخطو معك خطوة جماعية، وكان خروج تجمعات الشباب إلى الشارع بعدما بنوا قدراً كافياً من مشاعر الثقة على الإنترت شعلة غير مسبوقة استجاب لها الملايين من الشعب كثير منهم لم يعرفوا ما هو الإنترنت أصلاً.

 لقد أعادت الثورة روحاً جماعية غابت عن شخصية المصري طوال عهد مبارك، ربما تكون قد لاحت في عهدي ناصر والسادات في ساعات المواجهة مع عدوان الغرب وعدوان إسرائيل، لكن تجليات تلك الروح الجماعية كانت أسيرة قناة واحدة للتعبير يمسك بزمامها ضباط الجيش، كونه المؤسسة الأكثر نضجاً في السنوات الأولى للاستقلال عن المستعمر.
"كلنا خالد سعيد"، تلك الفكرة والروح التي اختمرت على الإنترنت، ثم فرضت نفسها - مع غيرها من الروابط والإئتلافات- بتجليات رائعة ومتنوعة على الميدان، أعادت روحاً لم تنجح في وأدها جريمة "كنيسة القديسين" التي تمت برعاية "حبيب العادلي" ليلة رأس السنة في مطلع عام 2011.

 "كلنا" الآن نتغنى في داخلنا بروح الميدان، وروعته. لقد منحتنا ذاكرة جماعية، أصبح بمقدورنا أن نبني عليها ونستولد منها مبادرات جديدة، وما خروج المصريين بالملايين يوم 25 يناير 2012 في الذكرى السنوية الأولى إلا إعلان قوي عن تمسك شعبي حاسم بتلك الروح كدرع يحفظ للشعب وجود القرار بيده.
لكن نظام المرحلة الإنتقالية اعتبر أن الخطأ الكبير لمبارك هو إنتخابات 2010 التي أدارها أحمد عز بأسلوب لم ينجح في تزييف قشرة الديموقراطية، وأن تصحيح ذلك الخطأ، مع توجيه آلة التخويف إلى الشباب الذي انضم حديثاً إلى السياسة، وتخويف هذه القطاعات التي كانت قليلاً ما تتعرض لانتهاكات وتعذيب وسحل ومحاكمات عسكرية وأحكام بالسجن، سيكون كفيلاً بإعادة أو ترميم نفس النظام، خاصة أن القوى السياسية التي يمكنها أن تحرز نصيباً كبيراً في البرلمان قد أنهكها الصدام مع نفس آلة التخويف لعقود، وتتطلع لمكاسب مستقرة خاصة إذا تضمن المكسب قدراً من المشاركة في السلطة، فهي تعلم أيضاً أن القبول الدولي لحيازتها النصيب الأكبر من السلطة يحتاج وقتاً، لذا ستقبل بحصة معقولة تمكنها من مواصلة العمل السياسي الجماهيري باستقرار.
وباكتمال هذه الخطوة أصبح الهجوم على إحدى المجموعات الشبابية ممكناً، لبث جرعة تخويف كبيرة بين جموعها، ولتحقيق الهدف الأكبر: تطويق الروابط الاجتماعية التي تماسكت مع الثورة بالوقيعة والخوف والإنكسار؛ والرهان على أن نسبة كبيرة من الشعب ستقبل وتسلم بالأمر، هكذا ظن من دبر العملية في تقديري.
نجح "مهندس" عملية "مذبحة بورسعيد" في تفادي وجود موقف دولي يدين جهة بعينها، كون الحدث غير طائفي، وظن أن ماكينته الإعلامية التي لاتزال تعمل تحت سقف الولاء للأجهزة الأمنية، يمكنها تصوير الحدث وتسويقه على أنه اكثر من مجرد شغب ملاعب صادف ضحاياه سوء حظ نتيجة عدم وجود مخارج متعددة في الاستاد، لو تسمَّعنا ما قاله الإعلاميون المنسوبين للنظام سنجدهم يتكلمون عن أكثر من ذلك، عن ما يشعل فتنة على أساس مناطقي بين مدينة بورسعيد ومدينة القاهرة، وبين رابطة جماهير لنادي يمثل مدينة ليست بالهينة، وبين رابطة جماهير لناد قاهري كبير له أنصار في معظم المحافظات. هناك أيضاً تصريح المشير طنطاوي الذي يبدو أن ظاهره الاستنجاد بالشعب، لكن معناه الحقيقي يقود إلى صراع أهلي وفوضى كبيرة.
لاشك أن مخطط العملية أو"مهندسها" يضرب الآن أخماساً في أسداس متعجباً من تمسك الشباب بفكرة "كلنا" وعدم انسياقه وراء الفتنة والانقسام. إنه يدفع الآن بآخر قطع شطرنج يمكنها أن تمنح عمليته قدراً من النجاح، يقلل من نتائجها الكارثية عليه وعلى من كلفوه بالتخطيط، فيلقي بورقة "شيوخ الأمن"  مثل الشيخ يعقوب صاحب عبارة "غزوة الصناديق" التي جعلت من صوتوا بـ "لا" في الاستفتاء هدفاً للغزو وليسوا حوالي خمسة ملايين مواطن ارتأوا وجهة نظر سياسية معينة كان اختيارها مباحاً وشرعياً ومتاحاً، هذا الرجل يظهر على الشاشات الآن ناصحاً آباء الشباب بسحب أبناءهم من الميدان، ضمن جملة من النصائح تعني تسليم الأمر بالكامل للسلطة القائمة تفعل ما تشاء.
إذن ما الجديد في عملية الترميم التي يقوم بها النظام عن ما سبق؟
باستثناء انتخاب برلمان قليل الصلاحيات، لا شيء.
 فقط رهان أعمى، من أشخاص أغلق تشبثهم بالسطة عقولهم، وجعلهم يصدقون أن الخوف أصيل في الإنسان المصري، وأن الانكسار وغياب الثقة في إنتماء الآخرين للوطن حالة إدمان لنفسية المصري، وأن الشعب بين الخوف والانكسار سيكذب على نفسه كذبة ويصدقها، مستسهلاً فكرة أن القائمين على السلطة لا يخطئون، ولا يتآمرون عليه، بل وربما يبالغ البعض في الكذب فيقول إنهم يتصرفون هذه التصرفات لأنهم وطنيون ويخافون على الشعب من عدوان خارجي!
لم تفلح مذبحة "كنيسة القديسين" في خرق الصفوف التي توحدت والتأمت تحت عاطفة "كلنا"، وقد أعادت مذبحة "استاد بورسعيد" بعضاً ممن كان قد ابتعد عن روح "كلنا"، وهاهم يعيدون أحد رموز التفرقة (صاحب غزوة الصناديق) عله يكرر نجاحه في تفتيت الجموع.
حاصل جمع "نعم" و"لا" هو "كلنا".
مسلة الشهداء التي أقامها الثوار في ميدان التحرير في الذكرى الأولى لإنطلاق الثورة 

1 comment: