Saturday, January 7, 2012

وماذا عن مدمني أفيون الشعوب؟

ليس حزب النور وحده من يقف في خانة مروجي أفيون السطة



أحمد غريب
ترك مبارك تركة ثقيلة، ليس فقط من ناحية الإقتصاد، أو رأسمال الدولة من التعليم، فهناك ما هو أخطر، إنه العقلية نفسها التي أدمنت الأفيون السياسي، خاصة أن نظام مبارك استخدم كل أنواع الأفيون من الخطاب الديني المشوه، إلى النبرة الوطنية الزائفة التي يهب أصحابها رافضين أي نقد للسلطة القائمة على إدارة شئون البلد، خاصة لو كانت ترتدي زيا عسكرياً.
لم يكن مبارك بدعة، هو مجرد امتداد لديكتاتورية تأسست على أهداف وطنية مناهضة لاستعمار كان قد امتص رحيق البلاد سبعين عاما سبقته. ما مبارك إلا امتداد متدهور لنظام فقد الغاية من وجوده، فلم يعد لديه إلا استخدام توليفة مكثفة من "أفيون الشعوب" تفادياً لمأزق أن يحكم البلد بالقوة العارية، وهو المأزق الذي وصل إليه النظام عندما انهارت مؤسساته الإعلامية الرسمية أمام الإرادة الشعبية التي تجسدت والتحمت مكوناتها في ميدان التحرير خلال يناير الماضي.

ولكن هل يعني ذلك أن مدمني الأفيون أنفسهم قد توقفوا؟
أبدا.
توفيق عكاشة أو أحمد سبايدر أو الشيخة ماجدة أو الشيخ الجندي ليسوا إلا وسائل محفزة، مجرد جرعات لإبقاء المدمن في دائرة عدم النجاة من الإدمان، دائرة النكوص.

أما جرعة الأفيون الحقيقية فهي المجلس العسكري نفسه؛ تلك الصورة الوطنية لرجال بالزي العسكري يحمون البلد من الانهيار، وقد استخدمت كل أساليب التخويف بكثافة، من فتن طائفية، وتهديد بنقص في المخزون المالي للدولة، ثم استبدل هذا الموضوع ليحل محله "عجلة الإنتاج" حتى لا تؤدي تلك النغمة إلى فزع عام يصيب الملايين، وتم اللعب على وتر المؤامرة الخارجية بشدة، وتم تسهيل إن لم يكن ترتيب اقتحام سفارة إسرائيل ( لا نعلم إن كان موضوع قتل الجنود المصريين على الحدود مصطنعاً)، ثم تم الدفع في موقعة العباسية وفي أحداث ماسبيرو بالعناصر الأمنية ذات الملابس المدنية لإثارة النموذج الذي يعرف بـ"المواطن الشريف" الذي يهب لنجدة الوطن فيضرب ويعتدي على من يقال عليهم خونة مدفوع لهم أموال من الخارج.

 هذا النموذج الذي اعتمد عليه نظام مبارك في فض الاحتجاجات عامي 2005 و2006 أعيد إحياءه في موقعة العباسية يوم 20 يوليو 2011، ثم تم استخدامه استخداما أكثر خطورة في أحداث ماسبيرو، حيث تجاوز الأمر موضوع االإدعاء بأن الخصوم السياسيين خونة للوطن، إلى التحريض الصريح في التلفزيون الرسمي ضد طائفة الأقباط المصريين، بما يهدد البلد بفتنة طائفية عميقة.

وسط هذه المخاوف الكبيرة التي تمت محاصرة المواطن البسيط بها، والتي تهدد بقوة حالة الحلم الجميل التي عاشها عندما انزاح كابوس مبارك عن كاهله يوم 11 فبراير، ليس أمام هذا الإنسان البسيط إلا الدفاع عن حلمه، أو حتى عن أفيونه بأن يساهم هو في عملية الكذب على نفسه، أو التعسف في تأويل الأمور لتظل الكذبة مقنعة.

وقد باتت حقائق الوضع السياسي واستجابات الجمهور تجاه الصراع السياسي الدائر في البلد انعكاساً لتمسك قطاع كبير من الناس بإدمانهم السابق لأكذوبة المستبد العادل، بل إنهم يطالبون المستبد بالقسوة وضرب المتظاهرين الذين يهدد نشاطهم إيقاظ المدمن من حلمه اللذيذ.

هذا القطاع ليس هو المستهدف من الدعوة التي يحاول بعض السياسيين ترويجها مؤخراً بمنح حصانة للمجلس العسكري من أي ارتكابات تستحق المحاكمة خلال الفترة الانتقالية، لأن قطاع مدمني أفيون الشعوب لا يتطلع أصلا إلى محاكة السلطة الحاكمة له، هو فقط يحلم بها كمستبد عادل، ولذلك يؤيد قسوتها على المتظاهرين الذين يهددون استمرار حلمه الجميل بنجاح الثورة ووجود مستبد عادل يحميها. من تتوجه لهم هذه لعبة الحصانة هم من أيقظتهم من الحلم أحداث الفترة الماضية وتناقضات خطاب السلطة في تفسيرها!

لا يستطيع مدمنوا أفيون الشعوب "سواء كان خطاباً يتستر بالدين أو بالوطنية" الخروج من السلطة البطريركية فجأة. منهم من كان مؤيداً للثورة، غاضباً أشد الغضب من مبارك، لكن ليسوا كلهم بنفس القدر من الغضب الثائر، بعضهم ضايقته أحوال البلاد بشكل عام، بينما استطاع البعض أن يؤمن لنفسه صيغاً مادية للعيش وسط الفساد، ضيقه كان من الخدمات وأشياء أخرى، لكنها ليست بأهمية وجود البطريركية وأفيونها ليواصل دعم أو حتى تقبل من يناضل من أجل تغيير النظام إلى الآن.

الخطير في هؤلاء أنهم ليسوا كحالة "متلازمة استوكهولم"، التي تعبر عن ضعف ولا تملك طرح البديل، ما يجعل خيار أصحاب المتلازمة بتقبل الظالم مثيراً للشفقة، وغير جماهيري، بل مجرد رد فعل عصبي يعقبه نوع من الإنزواء
.
مدمنوا البطريركية أكبر قطاع شعبي للأسف في مصر، هم مرتاحون لاستبدال مبارك ومجيء عسكر آخرين، وهم ضد فكرة التغيير بل مع الاستقرار. هؤلاء لا يتقبلون غير رسالة إعلامية تحتفل بالثورة وبالوطن. رأيت وتابعت منهم كثيرين، من خلال جروبات على الفيسبوك ينشط عليها بعض الإسلاميين وإن كانت الجروبات نفسها تحمل سمات التجمع الوظيفي او روابط الصداقة بحسب المنطقة أو الانتماء الإقليمي إلى نفس المحافظة. كانوا ينشرون لهم مواداً احتفالية طوال السنة، وينظمون لقاءات مباشرة على إفطارات رمضانية أو سهرات عشاء، كلها فرح واحتفال، يعقبها نشر احتفالي للصور على الفيسبوك. بالطبع كانت هناك احتفاليات افتتاح المقرات الإخوانية، واحتفاليات بيع السلع المخفضة في أسواق وسرادقات ينظمها السلفيون والإخوان (يُتهم الإخوان بأن فرق التخفيض في الأسعار مصدره أموال الزكاة). جمهور تلك الرسائل الاحتفالية يرد بعنف على كل من يحاول إيقاظه من الحلم الجميل الذي يعيشه؛ وهؤلاء لا أمل في زحزحة مواقفهم بأنشطة ثورية، هم يحتاجون عملاً خدمياً تطوعياً، وتدرجاً بطيئاً حتى يخرجوا "خروجاً آمناً" من الحلم اللذيذ الذي اعتادوه، لقد اعتادوا الكذب على النفس وليس فقط المبالغة في تصوير الأشياء.



 البطريركية بكل أشكالها سواء عسكرية أو دينية توزع أفيوناً معنوياً على الشعوب، لكن النظام في مأزق، وقد بدا ذلك واضحاً في بشاعة الجريمة التي ارتكبها أذنابه في استاد بورسعيد، وقد سبب ذلك قلقاً كبيراً أصاب من كانوا لايزالون يصدقونه بإحباط، وافاق كثيرون منهم من سطوة التخدير.

 لكن هؤلاء المدمنون لن يتوقفوا عن تعاطي هذا الأفيون بسهولة، أسهل عليهم تخوين من يحاول إيقاظهم، أو تجريحه، فيتم التساؤل :" وإيه اللي منزلها التحرير؟"، أو: "وإزاي تلبس العباية على اللحم؟"، أو: "أعطوا الجيش فرصة.. 6 أشهر فقط" رغم مرور عام، أو يستسهلون ترديد دعاوي التمويل الخارجي والتخوين، وتكرار رسائل التخويف من المجهول الغامض غذا رحل رجل عجوز عمره 79 عاماً عن كرسي السلطة!

ما الحل؟
لم نسمع أبداً عن مدمن سعيد خلال فترة توقفه عن تعاطي المخدر.
الألم والصراخ، والرفض، وتوجيه الشتائم لمن يساعده على العلاج؛ كل ذلك من مظاهر التعافي. لكنها كلفة كبيرة على من يقدمون التضحيات.

كشف تناقضات الإعلام الرسمي عبر الإعلام الإلكتروني البديل كان وسيلة وأداة منذ ما قبل الثورة، وهو أداة مستمرة، بل تطورت أساليبه، لكن ذلك لا يكفي، فالسؤال الذي اعتمده مؤخراً أنصار السلطة البطريركية "وماذا يريد المتظاهرون الآن؟"، وهو سؤال يرددونه خلف من يمنحهم الأفيون دون أن يقصدوه حرفياً، لكنه سؤال ماكر بالفعل تم وضعه على ألسنتهم، فالأنشطة الحقوقية التي تعتمد على إظهار الجانب الوحشي في السطة وأنها لم تختلف كثيراً عن النظام السابق، بل هي تكرار وامتداد له يسحل ويضرب ويعتقل ويجري محاكمات إستثنائية؛ كل تلك الأنشطة دفاع يلتمس تأييد الجماهير من خلال "التعاطف" مع من وقع عليه الظلم  وتعرض للعنف، وحتى هذا الأمر يخضع لجدل بين الإعلام الرسمي والإعلام البديل، لكن يبقى السؤال الخبيث نفسه.

في هذه الحالة، كما حدث مع أحداث ماسبيرو ومحمد محمود، ومجلس الوزراء، يكون كشف التناقضات دفاعياً، وقد أعقبه مؤخراً حملة "كاذبون" الهجومية نسبياً للخروج إلى ميادين أخرى غير التحرير، لكن لايزال الأمر موضوعاً للمشاهدة والفرجة من قبل أبناء وطننا المدمنين لأفيون السلطة، دون أن يشعروا بأن المطالب تمسهم مساً مباشراً.

من الأفضل للحملة المقبلة التي انطلقت مع الذكرى الأولى لثورة 25 يناير أن تطرح البعد الإقتصادي في عملية نقل السلطة، فوجود المجلس العسكري لفترة أطول عقبة إقتصادية ثقيلة على البلد، التسريع بالانتخابات الرئاسية من شأنه أن يعيد السياحة إلى دائرة التنشيط، وأهم من ذلك أن يعيد لمنصب "الرئيس المصري" دوره ومكانته الدولية، فلا توجد بلد الآن لديها استعداد لتوقيع اتفاقات جديدة ذات توجهات تنموية غير التي كانت أيام مبارك في ظل وجود سلطة باهتة ليس من المعروف مستقبلها، فلا هذه السلطة اكتفت بالدور الانتقالي ورحلت بعد 6 أشهر، ولا هي ااستطاعت إقناع شعبها ببقائها.

 لا يستطيع رئيس مصر الحالي تمثيل مصر في المحافل الدولية، ولا الضغط الاستراتيجي باتجاه أي موضوع دولي أو إقليمي، إنه رئيس "شكلي" إن جاز التعبير وليس مجرد رئيس انتقالي.

لابد للمطالبة بتسليم السلطة أن تظهر على حقيقتها أمام الناس، كرغبة في تحريك حقيقي لعجلة الإنتاج، وليس نزاعاً على من يتولى السلطة، أو رفض شخص أو جهة في حد ذاتها (المجلس العسكري). لقد انتهت الفترة الانتقالية، ومصر بلد كبير لا يمكن أن تستمر فترة طويلة بقيادة "شكلية"، لا توجد بلد في العالم يمكنها أن تدخل معنا في اتفاقية تعاون إقتصادي يتضمن برنامجها سنوات من تبادل المنفعة والاستثمارات، لأن توقيع السلطة الحالية على أي اتفاق من هذا النوع ليس له قيمة في نظر شركاء دوليين سيطلب منهم استثمار أموال، أو نقل تكنولوجيا، او فتح أسواق. مصر أكبر من أن تعيش عامين بلا رئيس، وبلا سياسة وخطط تنموية، خاصة بعدما خضعات عجلة إنتاجها لتلبية فئة محدودة من أبنائها طوال تلك السنوات إلى جانب عمليات النهب المنظم والتي لاتزال مستمرة، فقد كشف تقرير للبنك الجولي أنه تم تهريب 19 مليار دولار للخارج في عهد حكومتي شفيق وشرف، لابد لهذا الوضع أن ينتهي، وننتقل لسلطة مدنية منتخبة من الشعب.

هذه الأمور وغيرها ينبغي توضيحها لمن يعيشون تحت تاثير المخدر بأن الثورة نجحت وأن قيادة الجيش وطنية تحمي البلد من الخونة.. لا سبيل لإيقاظ هؤلاء من حلم كهذا إلا بمخاطبة مصالحهم والنداء على وطنيتهم


الصورة من اعتصام 8 يوليو، وقد مضى عام الآن على الفترة الانتقالية.

No comments:

Post a Comment