Monday, October 24, 2011

سيلين ديون.. صوت العولمة




أحمد غريب
نادراً ما يمتدح التقد مغنياً شعبياً، إلا إذا أصبحت شعبيته ظاهرة اجتماعية أو ثقافية، هنا يتحول النقد صوب تفسير ما وراء هذه النجومية التي فاقت المعتاد، وفي حالة النجمة الاستثنائية سيلين ديون فقد كان السؤال: ما الذي جعلها مقبولة في كل بلاد العالم، لدي مستمعين لم يهتموا بالغناء الغربي من قبل؟ أغنيتها التي ارتبطت بفيلم "تايتانيك" My Heart Will Go On سُمعت مرَّات ومرَّات خلال السنوات العشر التي تلت إنتاجها (1998) في أكثر المناطق شعبية في آسيا وإفريقيا ، حيث يختلف الذوق الجمالي ونمط الحياة وهمومها تماماً عن منبت هذه المغنية ذات الصوت الأوبرالي في مقاطعة كيبيك الفرنسية بكندا؟ أرقام مبيعات ديون لا تضاهَى منذ ما قبل فيلم "تايتانيك"، وصولاً إلى ما بعد موجة انتشارها بعقد كامل، حتى أنها مؤخراً ردت على منتقديها بأن عرضها الغنائي على المسرح "محجوز لأربع سنوات مقدماً"!

ولدت ديون عام 1968 في بلدة شارليمان Charlemagne القريبة من مونتريال ضمن مقاطعة كيبيك الفرنسية بكندا، وهي الطفلة الرابعة عشر لأبوين موسيقيين، الأم تعزف الكمان والأب على الأكورديون في مطعمهما الخاص، ومعظم إخوتها يعملون في مجال العروض الفنية. في صغرها غنت في مطعم والديها منذ سن السابعة، وقد ساعدها الانتماء لعائلة موسيقية على تعلم عزف البيانو والجيتار العادي والمزدوج إلى جانب آلات أخرى مبكراً. وخلال عقد الثمانينات فازت ديون بعدد من جوائز الأداء الغنائي في مهرجانات دولية، وفي عام 1990 رهن مدير أعمالها رينيه أنجيليل بيته لينتج أول تسجيل لها، وقد حقق نجاحاً كبيراً في العالم الناطق بالفرنسية، وأصبح أنجيليل (مواليد 1942) زوجها ومدير أعمالها الوحيد فيما بعد.

صوت سيلين ديون كان جواز سفرها الأول نحو الشهرة، ليس فقط تمتعه بقوة خمسة أوكتاف، وانتمائه لطبقة سوبرانو الأوبرا، ولكن قدراتها الخاصة، التي تدربت عليها مبكراً، حبث يمكنها أن خلال غناء مقطع صوتي واحد من كلمة أن تؤدي كل نغمات النوتة الموسيقية، وهو أداء موسيقي كنسي يتطلب موهبة خاصة وتدريبات متواصلة. وقد جمع صوتها من حيث شخصيته المنفردة روعة باربرا ستاريسند، وقوة ويتني هيوستن، أما أداءها الحيوي على المسرح فكثيراً ما شُبه بماريا كاري، وقد تمكنت ديون من أداء أغنيات معهن، ما ساعد في ترسيخ هذه الصورة الذهنية عن انتسابها فنياً لأشهر المغنيات واجتماع مواهبهن فيها.

خلال عقد التسعينات من القرن الماضي حققت ديون شهرة طاغية بعدما بدأت تغني بالإنجليزية، وقد جمعت صورتها كنجمة بين مظهر "الفتاة البريئة"، وقوة الصوت وجماله (خمسة أوكتاف)، وصفاء وعذوبة الشخصية، وتحكمها الكامل في تفاصيل عملها، حتى أنها كتبت بعض أغنياتها بنفسها. أما السمة الأكثر وضوحاً، والتي لعبت دوراً مهماً في ذيوع أغنياتها، فهي المبالغات العاطفية للكلمات وإغراق المعنى بتشبيهات واستعارات رومانسية، واتجاه المعنى نحو الحب الشكسبيري بما فيه من قيم التضحية والوفاء والأحلام الكبرى، والذي مثل مطلباً فنياً من جمهور مجتمع العولمة في التسعينات كتعويض عن تغيرات عميقة أصابت الخصوصيات الاجتماعية والثقافية.

 لبَّت أغنيات ديون هذا التطلع إلى صيغة القرية العالمية عبر اهتمامها بتيمات الحب والفقر والألم الإنساني وتغذية الروح بمشاعر السمو المكثفة. وقد سار نهج تأليف كلمات أغنياتها خلف مقولات شائعة فنياً تحدد الوصفة الشعورية للتأليف الشعبي مثل: "لا اكتفاء من العواطف الزائدة"، و"المشاعر الفياضة أكثر واقعية". المفارقة أن أغنيات ديون الفرنسية أكثر عمقاً من حيث المعاني، وتنوعاً من حيث الموضوعات، ودقة في الوصف الشعوري، وفي الوقت نفسه هي الأقل جماهيرية من حيث الانتشار بين الناطقين بالفرنسية مقارنة مع إنتاجها بالإنجليزية بينهم! لكن ذلك لم يغير من واقع أرقامها القياسية التي لا تُضاها، حيث تظل ديون المغنية الأكثر مبيعاً في اللغتين الفرنسية والإنجليزية.

تغني سيلين ديون مزيجاً موسيقي يجمع "البوب" و"الروك" وموسيقى الترانيم الكنسية مع تنويعات من موسيقى R&B أوRhythm and Blues الشعبية وسط الأمريكيين من أصل إفريقي، بذلك تجمع توليفتها الخاصة بين الأنواع الأكثر انتشاراً وقبولاً في أمريكا الشمالية، إلى جانب غنائها بالفرنسية كونها تنتمي للقسم الفرنسي من كندا. لكن النجاح في إيجاد توليفة ترضي الجميع لم يحجب عنها النقد، بل كان مدعاة لتحفيزه، خاصة من قبل نقاد موسيقى الروك التي تحظى بمكانة ثقافية مميزة، وتمثل إطاراً لأفكار وتوجهات الرفض والمغايرة لدى الشباب الأمريكي منذ ستينات القرن الماضي، وهو نقيض ما يمكن أن تمثلة موسيقى البوب الشعبية، أو الترانيم المسيحية الكنسية من ثقافة تقليدية.

النقد والديموقراطية

تلقت سيلين ديون كثيراً من النقد بعد فورة انتشارها في تسعينات القرن الماضي، ويُعد كتاب "لنتحدث عن الحب.. رحلة نحو نهاية التذوق" الذي ألفه المحرر الفني في صحيفة "جلوب أند ميل" الأشهر في كندا كارل ويلسون، من أعمق التحليلات التي بينت ما المقصود بالعولمة في ظاهرة سيلين ديون، ولماذا قبلها جمهور بعيد في وسط إفريقيا وآسيا، مجادلاً فكرة ديموقراطية الفن التي تضع أرقام المبيعات مرشداً للقيمة الجمالية. عناوين فصول الكتاب تسخر من اسم أشهر ألبوماتها "لنتحدث عن الحب" Let’s Talk About Love الذي احتوى أغنية فيلم "تايتانيك" ذائعة الصيت، حيث تتبنى تيمة "لنتحدث عن..." وتبدأ بالحديث عن الكراهية لا الحب، مروراً بالتساؤل عن سبب إعجاب جمهور التسعينات بصورة "الفتاة البريئة"، التي تتزوج أول مدير أعمال لها رغم أنه يكبرها بما يزيد عن ربع قرن، وصولاً إلى فكرة العولمة وتنميط الذوق عن طريق توفير توليفة جماهيرية ترضي الحد الأدنى من متطلبات كل ذائقة.

 كتاب ويلسون رحلة ناقد مفتون بموسيقى الروك وكاره لغناء سيلين ديون نحو فهم الظاهرة، والملفت أن رحلته تنتهي باحترامها، والوقوف على مسافة بين الإعجاب والرفض من إبداع غارق في الشكسبيرية، وهي مسافة سمحت لويلسون بتذوق جماليات ديون وتفهم قيمتها الفنية، وإلقاء الضوء على حاجة جمهور التسعينات، الذي تعاطى مع واقع العولمة لأول مرة، لأن ينحاز إلى أعمال فنية تثبت ترسخ أنتمائه إلى إطار عالمي واحد، وقد استرشد في تحليله بأبحاث وكتابات عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو حول دور التذوق في توكيد التميز أو الانتماء الاجتماعي،  كما تساءل ويلسون حول صواب فكرة ديموقراطية الفن، وما إذا كانت أرقام التوزيع هي تصويت ديموقراطي يحدد بوصلة التقييم الجمالي.

ظاهرة انتقاد سيلين ديون والسخرية من لزمات الأداء لديها، كحركة إصبعها أثناء أنفعالات الأداء، أو ملابسها ومكياجها وغير ذلك من سماتها الشخصصية، أصبحت جزءاً من الثقافة الكندية والأمريكية بشكل عام، بل إنها ظلت لسنوات بعد فوران الشهرة في التسعينات فقرة معتادة في كثير من برامج الترفيه بمحطات التليفزيون، وكذلك فقرة ترفيهية في الفعاليات مثل معارض الطيران واحتفالات اليوم الوطني في كل من كندا وأمريكا، وهو ما يعكس تحول سيلين ديون إلى رمز وطني ثقافي، بل إنه أحياناً ما يُطرح السؤال الساخر حوله من قبل المهاجرين إلى كندا: "هل يجب أن نحب سلين ديون لننتمي إلى كندا؟". والحقيقة أنه على غير المعتاد لظاهرة الانتشار الجماهيري لنجوم موسيقى البوب، لم تنحسر شعبية سلين ديون بعد فوران التسعينات، فقد انقطعت ديون عن العمل الفني عام 2000 لمدة سنتين للتفرغ لإنجاب، وعادت أكثر قوة من الناحية الجماهيرية، ثم قدمت عرضاً مسرحيا مستمراً لعدة سنوات في لاس فيجاس، حقق أرقاماً قياسية هو الآخر في الحجز المسبق ناهيك عن قيمته المالية التي بلغت 100 مليون دولار، وقد اختتمته ديون خلال الصيف 2010، لتتفرغ لإنجاب ثانية.

خلال العقد الأول من القرن العشرين، وبعد إنجابها، انضمت تيمة الأمومة والمشاعر المرتبطة بها إلى مجموعة التيمات العاطفية التي تميز إنتاج ديون، وقد جمعت الفنانة الكندية الأشهر في رصيد جوائزها 33 جائزة منها 5 جوائز جرامي و20 جازة جونو (المعادل الكندي لجرامي الأمريكية)، وبلغ مجموع مبيعات ألبوماتها 175 مليون ألبوم في إحصاء عام 2004، وحققت دخلاً بلغ 55 مليون دولار في أحد أعوام فوران الشهرة. وإذا كانت لقطة الممثلين الشهيرين ليوناردو دي كابريو وكيت وينسلت فارداً كل منهما ذراعيه عند زاوية السفينة "تايتانيك" قد أصبحت أيقونة للحب في عصر العولمة، فلا شك أن صوت سيلين ديون هو الملازم الذي تكتمل به الأيقونة ورمزيتها.
نُشرت في مجلة دبي الثقافية - أكتوبر 2010

No comments:

Post a Comment