Sunday, October 16, 2011

الخطة بوتن


أحمد غريب

إذا أردت معرفة ما هي سياسة المجلس العسكري في مصر، لا تنظر إلى تونس، بل روسيا.
الشهر الماضي طالب الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف بنفسه خلال اجتماع حزبه الحاكم بأن يقوم الحزب بترشيح شخص آخر للرئاسة بدلاً منه، هو رئيس الوزراء "فلاديمير بوتن"، وفي الاجتماع نفسه طالب بوتن الحزب بتولية "الرئيس ميدفيديف" رئاسة مجلس الوزراء عندما يصبح هو رئيساً!
بالطبع وصلتك الرسالة عزيزي القارئ، وأن النكتة التي تحدثت عن تخلي المجلس العسكري عن السلطة وتسليمها لمبارك مرة أخرى يمكن أن تكون حقيقة، لكن ليس هذا بالضبط ما أسميه "الخطة بوتن" والتي تهدف إلى ترميم بقايا النظام الذي قامت ضده ثورة 25 يناير وانتشاله من السقوط.
لم يكن بوتن يستطيع أن يهزأ بالدستور وبصناديق الاقتراع والناخبين في بلده إلى هذا الحد لولا أن ذاق الشعب الروسي عذاب الحياة لسنوات تحت عصي الخوف التي ألهبته بها "مافيا الجريمة المنظمة"؛ وهم بالضبط زبانية التعذيب في السجون والمعتقلات الذين أطلقتهم أجهزة الأمن للعمل في الشارع، ويحملون في مصر اسم: "البلطجية".
بعد سنوات من لهيب تلك العصا كشف استطلاع للرأي العام في روسيا أن أكثر من نصف الشعب الروسي يهتم بمكافحة التدخين، بينما يقلق 8% منه على مصير الديموقراطية التي تتدهور أوضاعها بشدة في روسيا تحت حكم بوتن، بعدما نجحت الحكومة في عهده كرئيس في انتظام تسليم المعاشات والأجور! أرايتم إلى أي حد بلغ التخويف؟!
"الخطة بوتن" التي تتبناها أجهزة الأمن المصرية لا تسعى إلى نشر الفوضى، وإنما الخوف، وعدم الثقة بالنفس، ونشر اللامبالاة بالشأن العام بين الناس، والشك في بقية أفراد المجتمع لمنع تشكل جبهة كبيرة من الرأي العام، والوصول بالأمن إلى حافة الهاوية، ليقبل الشعب حداً أدنى من الحياة مقابل الأمن، وينهب كل أعوان النظام أفضل الأجور والمزايا وهم ممسكين بعصا التخوف.
لم يكن نجاح مخطط بوتن الذي بدأه خلال سنوات معاونته للرئيس الأسبق يلتسن لولا تمكنه من القضاء مبادرات الإعلام الحر، حتى أصبح معظم الصحفيين يعملون بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية، وفرَّ الشرفاء إلى الخارج خوفا على حياتهم، بينما يلاحق القتل كل من يرفع صوته بمعارضة حقيقية (العام الحالي قتل خمسة صحفيين معارضين في روسيا). وبتراجع منسوب الحقيقة وفقَّت بعض أحزاب المعارضة الضعيفة أوضاعها لتكون "مكياج" يتجمل به النظام ويحقق قادتها مكاسب شخصية معقولة وآمنة (هل يذكرنا ذلك بالخذلان الذي أصابنا من نتائج أول اجتماع يجمع الأحزاب مع الفريق سامي عنان؟).
تطبيق المجلس العسكري لـ "الخطة بوتن" لا يزال في بداياته، فهناك الإعلام الشخصي من فيسبوك ويوتيوب وتويتر، ويشكل الفيسبوك أداة هامة كون المطلعين عليه من المصريين يشكلون نسبة "حيوية"؛ إذ يتجاوز عدد مستخدميه في مصر 6 ملايين شخص حسب إحصاء إبريل الماضي، ما يوفر ساحة إعلامية خصبة تتمكن من خلالها كتلة بشرية معارضة من بلورة آرائها ومواقفها بحرية وبعيداً عن مؤثرات الإعلام الموجه أو المتواطئ. هذه الخصوبة الإعلامية التي يتمتع بها ذلك النوع من الإعلام المستقل لم تتوفر للحركة الديموقراطية في عدة بلدان بدأت تحررها نحو حكم الشعب لنفسه خلال عقد التسعينات الماضي، ما سمح لخطة ترميم النظام السلطوي بشلِّ المؤسسات التقليدية من صحف وإذاعات وقنوات مرئية، والوصول بالرأي العام إلى مرحلة فقدان الثقة بالنفس.
لهذا الشق من "الخطة بوتن" نسخة خاصة بالإسلاميين المصريين، حيث يتحدث الإخوة دائماً بعد الثورة عن شبح جديد هو "العلمانيين" رغم أن مجتمعنا متدين وتدينه محصن والحمدلله بأغلبية عاشقة للدين، لكنهم يفسرون شخصية هذا الشبح أو الشيطان الجديد بكلمة واحدة "الإعلام"، بعدما توقفوا عن معارضة النظام وأصبحوا من المتغزِّلين في القادة الانتقاليين، خاصة أن الأساليب متشابهة فيما يبدو.
"الخطة بوتن" هي ما تعمل أجهزة الأمن المصري من مخابرات وأمن وطني على تطبيقه مستغلة الثقة الشعبية في الجيش ووطنيته، فتستخدمه واجهة، لكن ذلك لعباً خطيراً قد يهدد نسيج البلد مثلما حدث في مذبحة ماسبيرو. وبينما لا نعلم بالضبط حقيقة وعي غالبية ضباط الجيش ومدى رضاهم عن ذلك، لا تعد زيادة رواتب العسكريين بعد الثورة دليلاً كافياً على نجاح السلطة في ضمان شراء ضمائرهم أو كسب ولائهم.
تتواالى أحداث الفوضى ومناورات التخويف وتقسيم الرأي العام، وإنهاك القوى السياسية وبالمقابل يمانع وعي قطاعات غير قليلة من الشعب ولا يبلع الطُعم ويظل كشف الحقائق وراء ألاعيب الخطة مستمراً، ليبقى الفيصل بين استنزاف جهود القوى الثورية عبر إطالة أمد الاستحقاقات السياسية مثل الانتخابات، وبين إلحاح الاستحقاقات وتكثف الضغط الشعبي للمطالبة بالوفاء بجدول تسليم الحكم لسلطة منتخبة؛ ترى أي سلطة يمكن أن تنتج عن مسرح انتخابي تعمل الخطة على تهيئته؟ هل سيأتي بوتن مصري؟.
يفتقر المجلس للعوائد البترولية الكبيرة التي استخدمها بوتن لتحسين الرواتب وصرف الرأي العام عن الاحتشاد وراء مطالب إصلاحية عامة وجماعية، لكن يبدو أن المجلس العسكري يستخدم مقلوب هذه الأداة، حيث يروج إلى أن التعبير الجماعي عن المطالب وعن الرأي العام (المظاهرات والإضرابات) هو ما يعطل عجلة الإنتاج ويفرمل السياحة، بينما يتلخص "سر" انتعاش السياحة في عودة الأمن بسحب عصابات الجريمة السياسية المنظمة "البلطجية" والبدء في عملية تأهيلهم الوظيفي ليكونوا موظفين نافعين.
احذرو "الخطة بوتن" تعمل في مصر.



منشور في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 15 أكتوبر 2011، وفي صباح نفس اليوم سمَّى الحزب الحاكم الروسي فلاديمير بوتن مرشحاً رئاسياً بالفعل
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=279620&fb_ref=.Tprdw588o-4.like&fb_source=profile_multiline

No comments:

Post a Comment