Sunday, October 9, 2011

رواية ألمانية تحكي عن العالم السفلي لمدينة عربية


على عكس الفتور الذي أصابني من اسم رواية "ليبيديسي"، عندما استلمت نسخة مهداة من المترجم "أحمد فاروق"، تزايدت رغبتي في قراءتها منذ الصفحات الأولى، ليس فقط لأنها تلعب على نمط الرواية البوليسية المشوق، بل لأنها تحديداً تسخر من جملة من الكليشيهات من بينها تيمة الجاسوسية، إلى جانب الصور النمطية الاستشراقية عن الحياة في مدن العالم الثالث، وكذلك الواقع السياسي والطائفي فيه خلال عقود ما بعد الاستعمار، وصولاً إلى الاستهزاء من صورة الانسان الغربي في المشرق، ومن عجزه عن اختراق تجمعات بشرية تعيش حالة الدولة المفككة. بصيغة أخرى إن الأكثر تشويقاً في هذه الرواية الأولى لمؤلفها الألماني "غيورغ كلاين" أنها نجحت في إلقاء حجر على كل هذه الأفكار والمعطيات التي تتجاذب الإنسان العربي في العقدين الأخيرين، بينما هي تبني مدينة متخيلة ينهض معها العالم الروائي إلى مستويات عالية من الجمال الفني ولذة التلقي.

كرواية أولى لمؤلفها تعتبر "لبيديسي" عملاً استثنائياً، فكلاين، الذي نشر روايته عام 1998/1999 وهو في الخامسة والأربعين من عمره، قفز ببراعة فوق عتبة السيرة الذاتية، التي تجتذب كثيراً من المؤلفين في البدايات، ليدخل إلى قلب المتخيل بتقديمه مدينة مراوغة، لا تمثل بضعة مدن عربية فقط، بل تفتح ستائر عالمها السفلي أيضاً، بحماماته الشرقية، وحاناته، ومثلييه، وتجمعات الأقليات فيه، وطرق هذه الجماعات لتأكيد وجودها المحذوف رسمياً، حيث تعبر عن حضورها فجأة وبعنف ثم تختبيء. كذلك قدمت الرواية لمحات عن صيغة تحالف أعداء الغرب، التي يستريح إليها أضداد ليس بينهم رابط سوى تعرضهم للتهميش.

تلقي الرواية الضوء على العنف والقلق السياسي المختزن في المشرق، والذي يتم التنفيس عن بعض أبخرته في عالم المدينة السفلي، حيث يلقي الشعراء بقصائد ساخطة في حانة ليلية، وتفرض بعض العصابات سيطرتها لفترات على شوارع داخلية. وبينما تغيب المرأة الشرقية عادة عن العالم السفلي لمدينة تتنفس التوتر، فتتعذر العلاقة بينها وبين شخص أجنبي هو الراوي الجاسوس في الرواية، كان غياب الشخصيات النسائية عن الأحداث توثيقاً لافتاً لتغييب المرأة، كونها أكبر أقلية تعاني في الشرق، حيث لم ترد سوى إشارات عابرة لشخصيات نسائية، إحداها كانت رسماً لإمرأة من قرن ماضٍ، يتأملها الراوي بإحساس عميق بالوحدة.

المثير أن المؤلف كلاين، الذي قام بزيارته الأولى للعالم العربي عام 2005 بعد أن تُرجمت عدة فصول من الرواية، استطاع أن يجمع ملامح مدينة عربية تعيش تمزقاً سياسياً في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين كالجزائر وبيروت مثلاً، في الوقت الذي تتماس هذه الملامح أيضاً مع صراعات شهدتها مدن عراقية ويمنية في العقد التالي لتأليف الرواية، حيث اعتمد المؤلف في تخليق هذا العالم، حسب رأى المترجم أحمد فاروق: "على قراءاته ومصادر إعلامية مرئية ومخيلته الرائعة، بل إنه يرفض أي ربط بين الرواية وبين الواقع السياسي، رغم أنه استلهم عالمه من أجواء بلاد قد تكون العراق أو أوزبكستان أو لبنان".

تبدأ أحداث الرواية بقلق الراوي، وهو الجاسوس الألماني "سبايك"، خلال انتظاره وصول بديل له يحل في هذه المدينة الشرقية التي تكره الغربيين، ولا يتورع سكانها عن إهانة أي أجنبي بملامح بيضاء في بعض شوارعها، كما لا يتمتع أهل المدينة أنفسهم بالقدرة على الحركة التلقائية في أحيائها الداخلية، نظراً للوضع الأمني. لكن الرواية التي تتكون من سبعة وعشرين فصلاً قصيراً لا يزيد أطولها عن بضع صفحات، يتناوب على سردها راوٍ آخر مع "سبايك" هو البديل الذي جاء لقتله وليس فقط لخلافته، حيث تعتقد المخابرات الألمانية أن "سبايك" خرج عن مسار مهمته، وأصبحت معلوماته ورسائله طويلة ومثيرة للشك، كما أنه فقد القدرة على إدراك الأمور.
في هذا العالم، كما يخبرنا الجاسوس "سبايك"، يتم تقسيم التجمعات السكانية حسب الطائفة والولاء، ويكون نصيب بعضها التخصص في مهن بعينها تتجنب القيام بها مجموعة عرقية أكبر أوأكثر نفوذاً، كتربية حيوانات معينة مثيرة للقرف، أو صناعة مشروب محلي، يخبرنا "سبايك" أن اسمه "مشروب زليخة"، وأن الجماعات الحزبية في المدينة تناوبت على اعتباره مشروباً وطنياً مرة ثم منعه مرة أخرى كرمز للخيانة الوطنية، وأن صناعته من نصيب جماعة سمَّاها "الإكيخيين". أما المهنة الأخرى التي وقعت من نصيب طائفة اسمها "الكيرنيين" فهي مهنة دفن الحيوانات الميتة، واستخلاص الصابون من جلودها! وهي طائفة سقطت شرعيتها الوطنية بتعاونها مع احتلال غادر المدينة ولم يفقد اهتمامه بها.

توازِن الأجواء الغرائبية بين السخرية من أهل مدينة "ليبيديسي" ومن الأجانب فيها، الذين يتعرضون لمرض محلي اسمه "الماو"، لكنهم على خلاف السكان المحليين المتواضعين لا تستطيع أجسامهم مقاومته، بل يحطمهم حتى الموت دون علاج ودون تفسير علمي لمناعة المحليين. وبينما ينحت المؤلف لقباً خاصة للزعيم السياسي والروحي، الذي يتوقع أن يعود أتباعه للسيطرة على المدينة، وهو لقب "الجاهي"، تتسم شخصية هذا الزعيم بخلطة غرائبية بدورها، فقد اعتاد مخاطبة الناس عبر أشرطة الفيديو، بل إنه انتحر أمام الكاميرا، وأصبحت أشرطة الفيديو لخطبه بما فيها طقس انتحاره مصدراً للتعاليم، حتى أن الأجانب شبه مجبرين على شراء هذه الأشرطة إذا أرادوا أن تطول إقامتهم وتمضي بسلام. طقس الانتحار هنا قد يحيلنا إلى تطبيقات إرهابية لمفهوم "الاستشهاد" الديني الذي يتم الإلحاح عليه من قبل جماعات سياسية نشطة في العالمين العربي والإسلامي، لكن الانشغال بهكذا تأويل قد يفقد متعة قراءة رواية تراواغ في تشبهها بالوقع السياسي، بينما تحشد تفاصيل موازية لهذا الوقع، وتقدمها بشكل ساخر وممتع.

معمار المدينة التي تحمل اسم "ليبيديسي" أضفى مسحته الخاصة هو الآخر على غرائبيتها وشخصيتها المراوغة، فهو من الطين الأزرق، ويخترق المدينة نهر، والأبنية متشابهة إلى درجة تصعِّب على الجاسوس "سبايك" تمييز الشوارع، بل إنه كثيراً ما يحتاج معاونة السكان المحليين ليعود إلى بيته رغم طول إقامته في المدينة، وبدورهم يعتبره أهلها بمثابة "نصف سائح"، وهي صفة تحصره في خانة المرفوضين وتجعل مهمته مستحيلة، وقد باءت محاولاته المستميتة لفهم ما حوله والتماهي معه إلى تحلل شخصيته هو، وفقدانه البوصلة والقدرة على تمييز الاتجاه، يكفي أنه يعيش مع جثة الساكن السابق لبيته، وهو صحفي إيطالي أصيب بمرض "الماو"، ولم يقبل القيام بدفنه أحد حتى ممن يقومون بدفن الحيوانات!

حكايات مخابراتية
"أنا سبايك" هكذا يشير الراوي لنفسه طوال صفحات الرواية، وهي صيغة يكشف تكرارها عن أحد مستويات القلق الذي تعيشه الشخصية، والذي يصل ذروته مع ابتكار "سبايك" لشخصية طفلة تعيش معه في غرفة التخزين بالمنزل، وهي بالضبط درجة الشيزوفرينيا التي تتناقض معها كلمة "أنا". لكن "سبايك" يتمتع أيضاً بروح ساخرة محبة للحياة، تجعل من تأكيده على الـ "أنا" موضعاً للهزل أحياناً مثلما هي وسيلة لإدراك وفهم الآخر المستعصي على الفهم. ويأتي "حب الحياة" كعنوان للفصل الأخير من الرواية، وهي سمة لم تميز الراوي الآخر أو الجاسوس البديل، الذي بدت حكايته للأمور ووصفه لمدينة "ليبيديسي" متمحوراً حول ذاته وحول عاطفته تجاه شخص غير مؤكد، ابتكره خياله هو الآخر، حيث يعاني من شيزوفرينيا بدوره، ويعشق شخصاً مبهماً إلا من وضوح النزعة المثلية، ولعل ذلك يبرر تفوق "سبايك" عليه، فقد قتله تمسكاً بوجوده في مدينة "ليبيديسي" التي أحبها رغم كل ما فيها من صعوبات.
تجمع وسائل الاتصال المخابراتية في هذا العالم الغريب بين أضداد، فـ "سبايك" يتلقى رسائل إدارته ضمن فقرات برنامج ترفيهي تلفزيوني تبثه شبكة تلفزيونية دولية، ويراسلها هو بواسطة جهاز كومبيوتر مدفون تحت أرضية طابق في مبنى عام مهجور، والرسائل تمر عبر شبكة بريد إلكتروني نادرة الاستعمال، في الوقت الذي يتلقى هو رسائل شديدة البدائية من مجهول، أو مجهولين في المدينة، وذلك عبر شبكة سمَّاها المؤلف "جهاز الأنابيب البريدية"، وهي فكرة متخيلة رائعة عن أنابيب أنشأتها شركة زمن الاحتلال تصل ما بين البيوت ويتم توصيل علب معدنية صغيرة من خلال نفخها عبر تلك الأنابيب، وتحوي العلب رسائل مكتوبة، ثم تناوبت الجماعات السياسية على السيطرة على تلك الشبكة عند الاضطرابات وتوظيفها كجهاز دعائي يوصل البيانات إلى البيوت، ثم قلَّ استخدام الشبكة ويعتقد الكثير أنها أصبحت متهالكة، لكن "سبايك" تلقى أولى الرسائل لحظة غرقه في إحساس عميق بالعزلة، وكانت عبارة عن علبة من مشروب "زليخة"، تلتها رسائل تقدم معلومات وشروح عن المدينة استفاد منها في تحليلاته المطولة لإدارته، وهو ما قاده إلى وضعية الجاسوس المزدوج في نظرهم!
في رواية "لبيديسي" مزيد من الحكايات المشوقة لعالم موازٍ للواقع، عالم الشواذ والمحبطين والغاضبين والخائفين، وأحداث مشوقة وسط خليط التوتر وعدم الثقة هذا، خاصة مطاردة الجاسوسين لبعضهما في مدينة غريبة الأحوال، والتي رغم ذلك لا تبتعد عن واقع بعض مدن الشرق كثيراً. فقط بقيت حكاية نقل هذه الرواية إلى العربية، فعلى عكس المعتاد سعت هذه الرواية إلى مترجمها، الذي تلقى اتصالاً عام 2005 من معرض فرانكفورت للكتاب يطالبه بترجمة سبعة فصول يعتمد عليها المؤلف في زيارته الأولى لبلد عربي هو لبنان وتقديمه قراءة لعمله هناك، وقد نجح أحمد فاروق في نقل هذا العالم الغرائبي المكتوب بلغة تجمع الرصانة والسخرية إلى عربية سلسة.

أحمد غريب
أكتوبر 2010

رواية: ليبيديسي
المؤلف: غيورغ كلاين
المترجم: أحمد فاروق
إصدار: منشورات الجمل 2010

No comments:

Post a Comment