Saturday, July 14, 2018

رحيل الناقد السينمائي أحمد يوسف






أن تختار النقد السينمائي وسيلة ورسالة في حياتك أمر صعب، وأن يكون ذلك في عصر تشهد فيه بلدك وثقافتك كل أشكال التراجع والتقهقر عن العصر الحديث الذي تعتبر السينما نفسها لؤلؤة التاج فيه يصبح الأمر أشبه بمهمة مستحيلة؛ لكن أن تعزّز اختيارك بأن تكون راهباً يقدّس مهنة النقد وتحليل الصورة والدراما، ويبتعد عن كل أشكال المجاملات والانحيازات، مضحياً بما تتيحه من أدوار قيادية في مهرجانات، أو حتى منصات إعلامية للتعبير، لا يعني ذلك إلا أنك أحمد يوسف.


منذ أن تعرّفت على كتابات الناقد السينمائي الدكتور أحمد يوسف في سنوات التسعينات في مجلة "اليسار" وبعض مطبوعات أخرى، انبنت لدي ثقة كبيرة في قدرة هذا المُعلّم على الشرح، والتفسير، والتحليل الهادئ العميق بعبارة بسيطة رائقة؛ ولعله من القلائل الذين كانوا يكتبون العربية بهذه البساطة والقدرة على التعبير عن أي فكرة مهما كانت صعوبتها دون حذلقة، ودون تقصير في شرح المعنى، ودون أن تصبح الجملة والفكرة صعبة على التلقي؛ بل دون أن تصبح الجملة طويلة.

لم ينشغل أحمد يوسف بدور غير بناء ثقافة وخبرة تلقي الفيلم والدراما المصوّرة لدى القارئ وتوضيح القيم التي تتصارع على الشاشة ووضعها تحت المجهر. وكان همّه تعميق القناعة التي ظل يؤمن بها وهي: أن في مصر  إمكانية لبناء مجتمع حديث، وإنسان مبدع، ،وأن الطاقات والمواهب موجودة تحتاج من يكشف عنها ويضع إمكاناتها في منظومة عصرية التفكير، إيجابية المبادئ والأهداف وتراعي جميع الطبقات

على الرغم من التقارب الكبير الذي شعرت به تجاه أحمد يوسف عبر أحاديثنا الهاتفية خلال سنوات التسعينات لم نتقابل إلا مرتين، فقد كان قليل الظهور في الفعاليات دون أن يخل بحرصه على دور المتابع الجيد، ولم يشارك بنفسه اجتماعياً في أنشطة وفاعليات تغلب عليها أو توجد بها شبهة المجاملة.

 ًفي المرة الأولى التي التقيته فيها زرته في مكتبه بوزارة الصحة قرب ميدان الأوبرا وخرجنا معاً في جولة بسيارته، والثانية كان لقاء غير مخطط له في إحدى الفاعليات السينمائية بالمجلس الأعلى للثقافة. لكن حديثنا كان يمتد لساعات؛ فقد كانت آراؤه بوصلة ليس فقط لما هو صائب سياسياً، وإنما للتفكير الشريف بشكل عام.

رأيه وتحليله لظواهر النجومية في مصر، وخاصة ما وصفه بخيانة عادل إمام للنجومية التي منحها إياه جمهوره، من أفضل ما يمكن قراءته عن صورة ما حدث في مصر من تحولات في القيم منذ سبعينات القرن العشرين.

تأملاته في محتوى الأعمال الجميلة والردئية في السينما المصرية وأيضاً العالمية، ثم على شاشة التلفزيون خلال العقدين الأخيرين، نمط من الكتابة خاص ومنفرد بنفسه، ابتعد به أحمد يوسف عن كل المؤثرات، وليس فقط المجاملات أو الانحيازات. بصيغة أخرى كان انحيازه فقط للقارئ الذي يرغب في فهم كيف تتفاعل القيم والقوى الاجتماعية والأفكار والعوامل الاقتصادية مع محتوى وشكل الفيلم، وكيف ولماذا يختار الجهمور فنانا ويصنع منه نجماً.


لا أعتقد أنني سأنجح في كتابة جملة رائقة وبسيطة من القلب في وداع أحمد يوسف تنافس جملته وبساطتها الرائعة. فقط أتذكر الإحساس الذي كان طاغياً عليه في السنوات الأخيرة بأن أحداً لن يتذكّره بعد رحيله، وهو ما جعلني أنظر مرة أخرى إلى مدونته الرائعة  التي سمّاها أحمد يوسف فيلم، بعد أن علمت بخبر وفاته صباح اليوم، وكان قد أخبرني منذ سنوات أنه يحاول تجميع بعض المقالات القديمة أو تضمين أفكار منها في عروض الأفلام التي ينشرها على المدونة. 

نظرة شاملة لمدونة أحمد يوسف تكشف حجم فكر هذا الكاتب الكبير، والمفكر الهادئ صاحب القلم الشريف. هذه المدونة مرجع لكل عاشق للسينما، ومحب لمصر ولإبداعها الدرامي. أما مقالاته وترجماته التي نشرها في مطبوعات ومواقع إلكترونية  أخرى فهي ديوان متميز وفريد للنقد السينمائي المكتوب بالعربية يستحق التجميع والاحتفاء.

اليوم، وأنا أتأكد من خبر الرحيل، علمت من السينمائية والناقدة الكبيرة صفاء الليثي أنها كانت تنوي ترشيح الدكتور أحمد يوسف هذا العام للتكريم على المستوى القومي، وهي خطوة لن يعيقها الرحيل الهادئ لحكيم السينما، لكني أقول لأحمد يوسف إن كتاباتك عالقة في ذاكرة محبيك، ودعمك لتلاميذك علامة في نفوسهم لن تنمحي، وهو ما لمسته لدى كثيرين ممن عرفوك أو حتى ممن عرفوا كتاباتك دون صلة مباشرة معك، فقد كانت لدى عباراتك قدرة رائعة على الوصول إلى القلب والضمير.

لينك مدونة أحمد يوسف:

1 comment: