Monday, June 4, 2018

من تاريخ الترحال: القطار لا يعرف قيود النهر

قطار بخاري عتيق


قبل المحرك البخاري وخطوط السكك الحديدية استخدم الإنسان خطوط السكك الخشبية، والتي لا تختلف إلا قليلاً عن مثيلتها الحديدية سوى في استخدام الخشب، وأن العجلات لم تكن تجري فوق القضبان وإنما جوارها من الخارج، وكانت الأحصنة هي التي تقوم بقطر العربات، ومن هنا استخدمت قوة الحصان فيما بعد كوحدة قياس لقوة المحركات الآلية التي حلت محل الحيوانات. ولم تكن القضبان متصلة بالرابط الذي يُعرف الآن باسم الفلنكات، عندما بدأ عام 1800 التفكير الجاد في ضرورة وجود محرِّك غير الأحصنة.

 كانت المصانع تنتشر باضطراد في أوروبا وأمريكا في ذلك الوقت وتريد الحصول على  مواد خام طازجة، ولم تكن سرعة الأحصنة كافية، أما مناجم الفحم فقد كانت الأكثر استخداماً للقاطرات في نقل الفحم، ومن هناك ولد اختراع المحرك الآلي الذي يتحرك بقوة البخار، لكن الغريب أن مخاوف بعض الناس من الأسلوب الجديد في الترحال الذي قد يجعل الإنسان يتحرك بسرعة كبيرة هي 20 كيلومتراً في الساعة أدى لنشر إشاعات خرافية عن الاختراع الجديد!

كان التحول كبيراً، وقد شهدته بريطانيا أولاً عندما تمكن البريطاني جورج ستيفنسون عام 1814 من بناء أول محرك بخاري، وبعد نجاحه في قطر الفحم، حيث كان يعمل مهندساً في أحد المناجم، نجح ستيفنسون في تصميم قاطرة بخارية لسفر الأشخاص وكان ذلك عام 1820 عندما نقل 60 مسافراً من دارلنجتون إلى ستوكتون في ثلاث ساعات تضمنت التوقف في محطات، بعدها بشهر واحد انتظم خط ثابت لخدمة المسافرين بين هاتين المدينتين.

   قطار بخاري

منذ ذلك الوقت أخذت علاقة الإنسان بالقطار مساراً آخر، مادياً وشعورياً، ففي محطات القطار تجمعت أحاسيس الوداع والفراق، وتكثفت مشاعر اللقاء، بعد أن اقتربت المسافات. كذلك تزايدت المخاوف من القادمين الغرباء، وانفتحت القرى والمدن البعيدة أمام أخبار الصحف؛ لقد أخذ مفهوم الانتماء إلى المكان معاني مختلفة لم تعد قاصرة على مساحة القرية أو المدينة أو الدائرة المغلقة، بل مفتوحة أمام العالم للمجيء أو الرحيل.  

لكن علاقة الإنسان باستخدام الخطوط الخشبية قديمة جداً، لذلك لم تُقابَل التغييرات برفض كبير من الناس بقدر ما عبّرت صُحف تلك الفترة عن هواجس القلق من سرعة عبور القطار داخل المدينة، وضرورة وجود نوع من الإشارة لمرور القاطرة. وكان التحول إلى الخطوط الحديدية قد سبق المحرّك، حيث حلّت عام 1740 مكان الخطوط الخشبية لأنها تستطيع تحمل الأثقال بعدما زاد الاعتماد على النقل بهذه الوسيلة، وفي عام 1780 أصبح للقضبان حواف تشبه المستخدمة حالياً، والتي تمكِّن العجلات من الدوران بانتظام فوق القضبان وليس إلى جوارها، وفي ذلك الوقت اختُصرت المسافة العريضة بين القضيبين التي كانت موجودة وقت السكك الخشبية، ليصبح عرض المسافة بينهما 3 إلى 4 أقدام، مما سهل الربط بالفلنكات، وهو ما أدى لزيادة الأحمال والسرعة في آن واحد.

وبالنظر إلى أن الإنسان قد اخترع العجلة قديماً، تُعتبر خطوط السكك الخشبية أو الحديدية قد تأخرت نسبياً، خاصة أن مسارات طرق النقل التجاري وطرق السفر بين المدن كانت مستقرّة ومعروفة منذ مئات السنين، لكن اعتماد الإنسان على المواصلات النهرية في المجتمعات القديمة وفّر وسيلة جيدة وعملية لنقل البضائع، فقط عندما بدأ استخراج الفحم بكميات ضخمة من مناجمه، والتوسع في قارة أمريكا الشمالية انتبه الإنسان إلى أن مسارات الأنهار تسمح له باستخدامها في النقل بين الشمال والجنوب فقط، ولا يوجد أنهار تتحرك بين الشرق والغرب والعكس، هنا بدأ الاعتماد على خطوط القضبان كوسيلة للتوسع في القارة المكتشفة حديثاً، وكذلك مثلت القاطرة وسيلة ممتازة لرفع الأحمال الثقيلة للمعادن المستخرجة من المناجم .

بدأ سباق السرعة منذ أول أستخدام للقطارات في نقل المسافرين، فلم يتم اختيار قاطرة ستيفنسون التي نقلت المسافرين لأول مرة بين دارلنجتون وستوكتون إلا بعد أن تنافست مع أربع قاطرات أخريات، وربحت بسبب السرعة والراحة الداخلية للمسافرين.

ويذكر الروائي تشارلز ديكنز وصفاً لرحلات القطار البخاري في أمريكا الشمالية في القرن التاسع عشر، حيث كان الركاب يستخدمون البخار لتسخين القهوة والشاي وحليب الأطفال، وكانوا يجدون تعاوناً من مساعد السائق المسئول عن الجانب الميكانيكي في المحرك البخاري.

لكن رغم أن السبق في القاطرة البخارية للبريطانيين، وخلفهم بخطوة يأتي الأمريكان ودورهم في تطوير شبكات السكك الحديدية، ونشر القطار كوسيلة قليلة التكلفة ومريحة للمسافرين من حيث التصميم الداخلي للعربات ومقاعدها، إلا أن تسمية Train ذات أصل فرنسي، كما أن الفرنسيين مغرمون بالسباق من أجل وصول قطاراتهم لأقصى سرعة يبلغها قطار في العالم، وتأتي معهم في ذلك ألمانيا والصين واليابان، وكانت اليابان أول من بادر بتوفير خدمة القطارات السريعة التي تجري بسرعة أكبر من 200 كم في الساعة تحت مسمى "القطار- الرصاصة" عام 1964.

ويحمل القطار الفرنسي رقم أسرع قطار يجري على قضبان في العالم حالياً، مسجلا سرعة 574.8 كم في الساعة، وهي سرعة تفوق الموديلات غير الحديثة من طائرة البوينج 727، بينما يحمل قطار ياباني رقم أسرع قطار مغناطيسي (يطير فوق القضبان) بسرعة 581 كم في الساعة، والطريف أن هناك مقالاً قديماً يعود إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر في صحيفة إنجليزية يتحدث عن المخاوف التي يحملها اختراع القاطرة البخارية، ويتكلم كاتبه عن الإنسان سوف يطير على القضبان من فرط السرعة، لكن كاتبه كان يقصد وقتها السفر بسرعة تزيد على 20 كم في الساعة، والتي كانت وقتها مهولة مقارنة بسرعة الأحصنة.

 خلال نقل القطار الفرنسي الأسرع في العالم حالياً

الفنون والقطار. هناك عدد كبير من الروايات والأفلام التي تدور أحداثها في القطارات، نوعيتها لا تقتصر فقط على المغامرات أو الجريمة بل هناك أيضا الرومانسية إلى جانب الموضوعات العامة، ويعتبر الوداع في محطات القطار من المشاهد الكلاسيكية السينمائية، خاصة أن نقل الجنود في أزمنة الحروب الحديثة كالحربين العالميتين اعتمد بشكل رئيسي على القطارات، التي كانت محطاتها فاصلاً ينتقل بعده الشخص إلى حياة الجندية مودعاً أحباءه.

وقد أسهمت السينما المصرية، والفن المصري بشكل عام، في تقديم صور متنوعة عن القطار بداية من أغنية "يا وابور" ومشاهد الموسيقار محمد عبدالوهاب في القطار، إلى مجموعة كبيرة من الأفلام ساهم فيها مخرجون متنوعوا الأذواق من أفلام "سيدة القطار" ليوسف شاهين وعمله الشهير "باب الحديد" الذي قام فيه بدور البطولة ودارت الأحداث في محطة القطارات الرئيسية بالقاهرة والتي كانت تسمى "باب الحديد" واسمها الرسمي محطة مصر، وتقع في ميدان رمسيس.

هناك روايات مصرية وأعمال سينمائية قدمت نماذج بشرية من راكبي القطارات، وأحوال المسافرين، وقد واكبت الدراما المصرية تمدد القطارات داخل المدينة من خلال محطات مترو الأنفاق مثل جوهرة محمد خان "ضربة شمس".

ولعل فيلم "هستيريا" للفنان أحمد زكي نموذجاً عن حالة الاغتراب التي يعيشها الناس في المدن فيصبح التواصل عن طريق عزف الموسيقى هو الأداة للتفاعل مع الحشود التي يجمعها الزحام لكنها تعيش حالات من الغربة والعزلة والانشغال بالذات.

لم تكن السكك الحديدية غائبة عن المواصلات الداخلية داخل المدينة نفسها، فهناك "الترام" الذي تشتهر به مدن عديدة منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الآن، ومنها مدينة الإسكندرية وإسطنبول التي تحتفظ بخط وحيد للترام العتيق يمر بشارع "تكسيم" الشهير في وسط المدينة، وهناك ترام في مدن غربية شهيرة منها تورنتو بكندا وسان فرانسيسكو بالولايات المتحدة. وقد قدمت السينما والفنون المختلفة أعمالاً تبين الشخصيات الاجتماعية من طبقات مختلفة التي تتفاعل داخل عربات القطارات سواء في رحلاتها بين المدن أو داخلها؛ فهذا السلوب الذي بدأ حلماً أصبح من تفاصيل الحياة اليومية، وينتج منه كثير من المفارقات الدرامية.

 تراجيديا القطار. الدراما الإنسانية التي ارتبطت بالقطارات تصل في الواقع إلى درجات كبيرة من التراجيديا، فمد السكك الحديدية ارتبط بالألم، وقد تكلف تشييد خط قطار شرق إفريقيا آلاف الأرواح التي كانت تسقط نتيجة مشقة العمل وإصاباته ولا تجد علاجاً او رعاية، حيث عاملتهم الإدارة الاستعمارية لبلجيكا باستهانة شديدة، وهي الدولة التي كانت تسيطر على مستعمرات في شرق إفريقيا وقت مد خطوط السكك الحديدية، وقد أسرعت من العمل لتمتص خيرات المناجم الإفريقية قبل أن تصل إليها فرنسا، التي أيضاً أدارت عملية مد جزء من هذه الخطوط الحديدية بقسوة شديدة في المناطق الإفريقية التي تسيطر عليها، وهو أمر تكرر أيضاً في أمريكا اللاتينية تحت الحكم الإسباني.

لكن أكثر أشكال الدراما مأساوية تلك الحالة التي شاعت في الصين وقت حكم ماو تسيتونج، عندما كان يلجأ الفقراء إلى الانتحار تحت عجلات القطار ليضمنوا تشييع جثامينهم في جنازات بأكفان جيدة، بعدما ألزم القانون شركة القطارات الصينية بالتكفل بهذه التكاليف حالة وفاة شخص تحت عجلات القطار!

وحمل التاريخ حالة غريبة بخصوص مد السكك الحديدية في سيبيريا بروسيا خلال القرن التاسع عشر، وهي خطوط شاسعة بمعنى الكلمة تمتد على مساحات من الثلوج التي تعصف بها قسوة الشتاء، وكانت روسيا القيصرية تحتاج لهذه الخطوط لنقل البترول وتسريع لحاقها بالعالم الصناعي الأوروبي، ولأنها لم تمتلك الموارد المالية الكافية استدانت من الولايات المتحدة، التي تكفلت بالتغطية المالية لهذا الاستثمار الضخم مقابل تنازل روسيا عن منطقة ألاسكا التي كانت واقعة تحت الحكم الروسي! وبذلك غيرت خطوط السكك الحديدةي الروسية من الجغرافيا السياسية ووضعت أميركا وروسيا على حدود شاطئية يفصل بينهما مسافة بحرية قصيرة، بينما حمت كندا من غزو روسي محتمل في مراحل الحرب الباردة!

محطة النبلاء. أبدع المعماريون في تزيين محطات القطار، خاصة في فرنسا، التي تكاد أسقف بعض المحطات الريفية فيها أن تنافس أسقف الكاتدرائيات بما فيها من إبداع في مجال الرسم والتلوين، لقد اعتبر المعماريون والمصممون أسقف هذه المحطات عنواناً للحداثة والصلابة والنهضة الكبيرة للعالم الحديث، وقدموا أشكالاً من التصاميم الباروكية التي تعبر عن أن محطات القطار هي ما يعادل قصور النبلاء في العصور الوسطى.


  أحد أسرع القطارات الأوروبية



وتعد الرحلة بالقطار الذي يعرف بقطار النوم من أمتع الوسائل السياحية، خاصة تلك الرحلات التي تقطع قارة أمريكا من المحيط إلى المحيط، ليمضي القطار مخترقا الغابات وسهول البراري والجبال، وهناك أكثر من خط بعرض قارة أمريكا الشمالية في الولايات المتحدة وفي كندا، وتوجد مسافات محددة في خط كندا تخترق جبال روكي وصولاً إلى المحيط الهادي تعد فريدة في جمالها، حيث تتجول عين السائح بين مشاهد من أروع ما يمكن أن يشاهده إنسان، بين الوديان والجبال والغابات، ويوفر هذا القطار، الذي يتكون من طابقين، رفاهية فائقة لركابه، ويوجد به عربات زجاجية خاصة في الطابق العلوي لمشاهدة إبداعات الطبيعة الرائعة.

ويبقى أن تعبير "رحلة سعيدة" الذي نستخدمه الآن في وداع المسافرين بالطائرة أو بالبحر ينتسب ألى أدبيات السفر بالقطار.

No comments:

Post a Comment