Friday, July 18, 2014

داعش وحماس.. ونموذج الصوملة

 
 
 
عندما احتلت إسرائيل غزة عام 1967 كانت تحت إشراف الإدارة المصرية، وعندما أعادت الإدارة المصرية صياغة علاقاتها الإقليمية في ضوء حقائق القوة التي كشف عنها حجم الهزيمة في 67، وحجم النصر في 73، قدمت مصر عدة تضحيات بعضها يتعلق بمصر نفسها، والبعض الآخر يتعلق بفلسطين. اعترفت مصر بإسرائيل دون أن تستطيع الحصول على أي شيء يخص الاعتراف بحقوق لاجئي 48، ودون أن تتوصل إلى ترتيبات لقطاع غزة.
في ظل هزائم القضية الفلسطينية، وهزائم النظام العربي (المنهار حالياً) أمام القوة الإقليمية الكبرى "إسرائيل"، تنامى الوضع المأزوم في غزة ليصل إلى تركيبة غريبة، تجسد مأزق الفلسطينيين وأيضاً الإسرائيليين والمصريين مع القضية.
غزة تتزايد سكانياً لتجسد ما يعرف بالقنبلة الديموغرافية الفلسطينية. وتنهار اقتصادياً وتعليمياً لتصبح نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه معسكر اعتقال في القرن الواحد والعشرين.
لا تستطيع إسرائيل البقاء في غزة، لقد هربت هروباً من التعامل اليومي مع الزيادة السكانية الضخمة وتردي الأوضاع وما يشعله من غضب في قطاع غزة.
ولا تستطيع الحكومة المركزية في مصر توفير حد أدنى من السلطة أو بعض أدواتها  يمكنها من الإشراف الإداري على قطاع غزة، بحيث يتم نزع فتيل أوضاعه الداخلية التي أدت إلى تمكن فصيل أيديولوجي متعصب ومنغلق من الفراغ السياسي والإداري في القطاع.
 في الحقيقة إذا كان فشل مشروع الدولة الحديثة في حقبة ما بعد الاستعمار هو المنبت الأساسي لصعود التوجهات السياسية التي تتخذ من الإسلام الرجعي إطاراً أيديولوجياً، ففي قطاع غزة متسع طبيعي لتمكين القيم الرجعية السابقة على مفهوم الدولة الحديثة من المجتمع، وهو أمر ينطبق جزئياً أيضاً على مناطق داخل مصر ودول عربية أخرى (عشوائيات الحضر والريف)، تحاول الحكومات المركزية الهيمنة عليها أو إخضاعها، والالتفاف على ما تكشفه أوضاع هذه المناطق من ضعف وفشل هذه الحكومات، بواسطة صيغ تجمع بين الترهيب والقمع والرشوة، وبين الإهمال المتعمد لمزيد من الإضعاف.
 لكن في غزة لم يكن هناك ارتباط بحكومة مركزية إلا حكومة الاحتلال الإسرائيلي التي هربت؛ فكان طبيعياً أن تزدهر حكومة تمثل ثقافة ما قبل الدولة، وتتستر بالرداء الديني لإسباغ شرعية على وضعها.
لن يستطيع أي عمل عسكري تغيير الوضع القائم في غزة، يمكنه أن يصيب غزة بجروح إنسانية عميقة، ويمارس انتهاكاً دموياً ضد الآدمية، ودرجة قاسية من التجويع والحرمان من الخدمات، لكن ذلك لن يغير وضعية الأزمة التي أصبحت نمط حياة، وتجتذب كل مشاكس، مثل قطر أو إيران أو تركيا.
غزة مسؤولية مصرية، كانت تحت الإدارة المصرية وقت احتلالها، ولم ترغب مصر في استعادتها، فظلت لعنتها تطارد نظام الحكم المصري، ومع صعود الإخوان داخلياً في مصر إلى درجة أوصلتهم إلى الحكم في لحظة، أصبح النظام المصري الذي يمثل الجيش قوامه ممسوساً بلعنة غزة، ولذلك يطلق أبواقه الإعلامية لتصب اللعنات عليها وعلى سكانها.
من ناحية أخرى، تميل قوى المعارضة المصرية إلى الضغط على موضع الجرح في النظام المصري متمثلاً في حالة غزة، التي تمثل إخفاق السلام المصري الإسرائيلي في توفير مظلة إنسانية لقطاع من الفلسطينيين كان تابعاً للإدارة المصرية وقت احتلاله.
أخطر ما في الجولة الدموية الحالية على غزة هو التشابه الكبير بين خطاب إسرائيل لتبرير جرائمها، وبين التبرير المصري لانتهاك حقوق الإنسان ضد مواطنيها.
داعش دولة البادية بين العراق والشام التي ملأت فراغ وهزيمة دولة ما بعد الاستعمار في كل من العراق وسوريا، وحماس دولة أكبر تجمع عشوائي في العالم (1.8 مليون نسمة) ملأت فراغ وفشل دولة ما بعد الاستعمار في كل من مصر وإسرائيل!
لم تستطع إسرائيل تطوير السلام مع مصر لتصلح بعضاً من جريمتها في حق الشعب الفلسطيني، وتصبح دولة تتسع لسكانها الأصليين أو تعوضهم ولو جزئياً عن جرائمها. لجأت إسرائيل إلى خيارات العنف والسحق على كل الأصعدة مع تحييد علاقة الجانب المصري بالصراع، لترسخ من وضعيتها كدولة احتلال. وفشلت كمشروع دولة نشأت فيما بعد الاستعمار في الاندماج مع المنطقة، إلا بواسطة التواطؤ على بعض المصالح مع بعض الأنظمة العربية.
مشكلة النموذج الطالباني (داعش وحماس) أنه قائم ومؤسس على المواجهة العسكرية، ولا يعد مؤيديه بأفضل من ذلك! أي توفير قدرات لاستمرار النزاع العسكري. وعلى الرغم من أن إسرائيل ترحب بذلك، لأنه يعفيها من وجود ممثل شرعي للدولة الفلسطينية،  وبالتالي من تقديم تنازلات له، إلا أن عليها أن تدفع ضريبة وجود هذا النموذج الذي يخدمها بشكل غير مباشر، والضريبة هي ارتكاب جرائم ضد الإنسانية كل فترة. لكن الخطير أن سقوط ورقة التوت عن الأنظمة العربية بعد الربيع العربي، وضع كثير منها "بشكل علني" في نفس المربع الذي توجد في إسرائيل، وهو ما يقلص كثيراً من شرعيتها المتآكلة، لكنه يعفي إسرائيل من الضغوط الدولية عندما ترتكب ارتكاباتها في حق شعب غزة.
عند سقوط الإخوان في مصر توقعتُ صعوداً كبيراً لخطاب العنف داخل تيار الإسلام السياسي، وتصدره قيادة هذا التيار، وقلتُ إنهم سيبحثون عن موضع لتأسيس دويلات أو السيطرة على مدن تكون تابعة لهم، بديلاً عن الوصول إلى الحكم بطرق مشروعة داخل دولهم بعدما فشلوا في السيطرة المركزية مصر، وأيضاً تونس وسوريا. وأن المناطق التي سيعون للسيطرة عليها غالباً ما تكون حدودية، وسيطرة الدولة عليها هشة ومتآكلة. غزة نموذج مثالي لحكم هذه التيارات المتشددة، وقد يتبع ذلك محاولات على حدود مصر أو دول أخرى، مثل الجزائر وليبيا، وكما تفعل داعش في بادية سوريا والعراق مع محاولة السيطرة على مدن مثل الموصل للتحكم في خطوط البترول. ويعتبر الفراغ المتولد عن فشل النظام الإقليمي متسعاً كبيراً للعب هذه الأدوار، وخوض هذه المحاولات. خاصة أن التمويل (قطر) والسلاح (إيران) متوفران، ومؤخراً انضمت تركياً لتكون وسيلة حصول داعش على أموال مقابل بيع البترول بأسعار زهيدة لها، لتعيد تركيا بيعه بأسعار السوق؛ أي أن اقتصاديات ما يعرف بـ "الصوملة" لم تعد قاصرة على القرصنة، أو تمويل بعض أثرياء البترول، إنها تكتسب وضعيات أكثر ثباتاً من ناحية التمويل.

 
  

No comments:

Post a Comment