Wednesday, August 1, 2012

ماذا حدث لسوريا؟



كانت الأشهر الأولى من الثورة السورية مثالاً لما نحب أن نسميه "الربيع العربي".. لحظات يسمو فيها الإنسان فوق الواقع، من يتذكر الصور الأولى لوجوه السوريين الذين كانوا يتلفتون بدهشة حولهم وهم يرون استجابة الآخرين لصيحات الهتاف، مستعيدين جزءاً غامضاً من الذات كان قد انسحب إلى منطقة مجهولة. وقتها خرجوا مئات إلى الشوارع، وانضم لهم مئات آخرون ليواجهوا بصدور عارية رصاصاً لا يرحم يطلقه مسعورون.
في الأشهر الأولى كان الربيع، اللاعب الجديد الذي أيقظ الإنسان العربي، كل العرب استيقظوا حتى من لم يثوروا، يعرفون أن التغيير سيطولهم ولو في آخر الموجة، التي قد تستمر سنوات، مثلما استغرقت موجة التحرر الأولى من الاستعمار عقد الخمسينات بأكمله وظلت دول تلحق بارتداداتها خلال الستينات. لكن بشار الأسد "نجح" فيما أخفق فيه القذافي.
لم ينته الربيع في سوريا، لكن الأسد أدخله في تيه كبير، أصبحت فيه موجات الاحتجاج، والتمرد الشعبي انتحاراً شاملاً لكل الأطراف، لنظام بشار ولمناهضيه، كان نظام الأسد يضرب بوحشية ليبعد طيف الربيع عن الإنسان السوري، ليقول له: أفق، أنت نجحت في ربيعك وكسرت حاجز الخوف لكنك لم تسقط النظام، انتهى ربيعك عند ذلك، ما بعده صراع سياسي ندخل فيه جميعاً، النظام والثوار، ومختلف المكونات السياسية والطائفية والثقافية السورية لنعيد معاً اختراع سوريا.
للأسف نجح بشار في ذلك، أوصل الربيع لحائط مسدود، لتبدأ الثورة رحلتها نحو مجهول حقيقي سيكون عليها فيه أن تعيد اختراع كل شيء في سوريا، وأولها قناعات الإنسان، بحثاً عن توافق وعقد اجتماعي جديد، يبدو – للأسف- أن لمؤيدي نظام الأسد فرصة غير هينة لتحقيق ما أخفق فيه القذافي: تقسيم البلد، يدعمه في ذلك الدعم الروسي الذي يرى في نظام الأسد المعزول، والوحشي، حالة مثلي لإعادة إنتاج النظام الكوري الشمالي.
نظام معزول عن محيطه، تمارس سلطته القوة بأساليب إجرامية شبه علنية، وليس لنسيج مجتمعه (أغلبية علوية وتحالفات مع قطاعات وعائلات من عدة طوائف أقلية أخرى) طموحات كبرى، لا تقوم مثل هذه التركيبة على مفهوم الطبقة الوسطى من الأساس لتقلق السلطة من عدم تلبية تطلعات بعينها تُحرَم منها الدول المعزولة. لكن في المقابل تستطيع روسيا أن تحفظ بحمايتها لهذه الحلقة السلسلة المناوئة للغرب" إيران- سوريا- حزب الله"، وأهم من ذلك أنها تحتفظ بوجودها الوحيد على شاطيء البحر المتوسط. نظام الأسد حليف مثالي لروسيا الحالية، التي تفضل قيادة وحشية، مكروهة من شعبها ومن العالم، مناوئة لأمريكا، وليست لها أهمية بترولية أو استراتيجية كبرى في نظر أميركا، بل يعد لوجودها فائدة لأمريكا التي تحتاج "لدولةٍ شر" كي تبرر بعض أوجه الإنفاق والممارسات.
 كاريكاتير: أمجد رسمي
لا تحتاج روسيا حلفاء مثل صدام حسين يطلب منها دعما إقليمياً لمغامرات لا تجني هي منها شيئاً، بل تغلق أسواق الإقليم أمامها لو أيدته، لأن قوتها الإستراتيجية لم تعد كما كانت وقت السوفيت، ولذلك خذلت روسيا صدام عند غزوه الكويت، هي أيضاً تقلق من نمط الحكام عاشقي الشهرة والجماهيرية، أصحاب الكاريزما لهم وجهة نظر أو طريقة مختلفة وأيضاً اعتبارات لحماية جماهيريتهم، كما أنهم يعترضون أحياناً ويستطيعون اللعب على التحالفات الدولية، بل قد ينشئون أطراً خاصة بهم مثل "حركة عدم الانحياز". لم يعد هذا النوع ملائماً لروسيا، لكنها أيضاً لا تقبل بالمجانين مثل القذافي الذين يتقلبون بين لحظة وأخرى تبعاً لمزاجيتهم، هي بحاجة لسجَّان يكرهه شعبه المسجون ويخافه، ويكرهه العالم ويحتقره، وأيضاً يزهد في القيمة الاستراتيجية للأرض التي يحكمها.

 البيئة الدولية والإقليمية مهمة لأية عملية تحول ديموقراطي نحو حكم الشعب لنفسه. والربيع العربي في سوريا واجه النقيضين: ترحيباً دولياً من جزء من العالم لا تأتي سوريا على رأس اهتماماته في المنطقة، ورفضاً صريحاً من جزء آخر وجد مصلحة في ضرب هذا الربيع، وعدم السكوت عليه وتمريره؛ كما فعلت روسيا مع ليبيا مقابل تعهدات بضمان الديون.

 لذا سيمتد الصراع تحت سقف الثورة، لن يكون هناك فاصل مثل هروب بن علي، أو تنحية مبارك، أو إصابة علي عبدالله صالح، أو مقتل القذافي، يفصل بين موجتين من الثورة: الإطاحة ببعض أجزاء النظام وأهمها رأسه، ثم موجة الصراع السياسي على إنتاج نظام جديد مثلما حدث في تونس ومصر وليبيا، واليمن، بمشاركة ما تبقى من النظام مع القوى الجديدة. هذه الصيغة – للأسف- ليست المسار في سوريا.

كاريكاتير : الشفيع محمد صادق- من السودان

يعزز من ذلك أن مخطط الوحشية الذي اتبعه نظام الأسد راهن على عبوره مأزق الاحتجاجات، ووجود مقعد له في ظل نظام جديد دون أن يضحي بأي شيء أو أي مكون من مكونات النظام، من خلال استدعاء عناصر الصراعات التي اعتاد النظام على إبقاء نفسه على الحياة من خلالها، وأهمها ما يسميه السياسي اللبناني المخضرم نبيه بري: معادلة (س س) اختصاراً للصراع الإقليمي السوري السعودي.
راهن النظام على أن تمنع الدرجة الفائقة من الوحشية والارتكابات الإنسان السوري الجديد، الذي خرج عن الصمت، وقرر بذل التضحيات؛ إنسان الربيع العربي، أن تمنعه من تحقيق أي إنجاز يفوق مجرد خروجه عن صمته، بل وأن يقوده استمرار الوحشية دون توقف إلى اللجوء لدعم من منافسين إقليميين كالسعودية، مما يجعل خسارة النظام أمام هؤلاء المنافسين محصورة في مساحة اللعب، فبدلا من لعب معادلة (س س) على أرض لبنان، يكون النظام السوري قد خسر تأمين ملعبه الخاص، ليجري النزال على أرض سوريا، ويذلك تنعدم فرصة حسم الصراع، فمثل هذه الصراعات الإقليمية، ذات الإطار الطائفي أو العرقي، لا يستطيع حسمها طرف على حساب الآخر. كما أنه بذلك منع مؤيديه من التردد أو الضغط الداخلي كرد فعل على الإفراط في الوحشية، فقد جلب لهم شبح الطائفية، ولم يعد أمامهم بديل سوى مواصلة تأييدهم للنظام.
السعودية من جانبها ستجد- وقد وجدت فعلاً- دوافع متعددة  للرد الإقليمي في أرض الخصم على الإضطرابات التي تشهدها المنطقة الشرقية من السعودية نتيجة توتر الأقلية الشيعية التي تستوطن هذه المنطقة، كما أنها تجد أيضاً فرصة منطقية للرد على تراجع نفوذ أنصارها في لبنان أمام تمدد نفوذ حلفاء سوريا. وأخيراً – وللأسف لذلك تأثير أهم- ستجد الفاعليات الشعبية السعودية فرصة أو إطاراً لدعم القطاع الذي بدأ الربيع في سوريا، وهو القطاع الشعبي من الطائفة السنية الذي يتعرض لتهميش النظام. هذ التوافق بين الدعم المدفوع أيديولوجيا من الفعاليات الوهابية، والدعم الرسمي قد يؤثر من جانبه بإسباغ اللون الطائفي أكثر من السياسي.

هل يمكن لمقتل بشار الأسد – مثلاً- إقامة هذا الفاصل بين موجتين من الثورة؟
ستلقي إجابة السؤال الضوء على ذلك القرار الجمعي الذي اتخذه قطاع من الشعب السوري اختار أن يظل مؤيداً لنظام الأسد، بل وداعماً لبشار نفسه، فقد كان أمام النظام أن يقوم بعملية تغيير جلد كالتي تمت في مصر واليمن بصيغتين مختلفتين، أن ينحي الرئيس، أو يتخلص منه بأسلوب عنيف، حتى لو عنفاً مزيفاً يبعد عن بشار المطاردات بادعاء أنه توفى، لكن النظام لم يفعل ذلك، وقد وضع هذا الاختيار المتطرف للنخبة الحاكمة القطاع الشعبي المؤيد لها أمام قرار مصيري، قرار كلفته ميراث من الدم والانتقام.
 كاريكاتير: حبيب حداد- لبنان
 تعلم الجماعة الشعبية التي اختارت تأييد النظام  في وحشيته وارتكاباته، والإبقاء على رأسه (يضم هذا القطاع الطائفة العلوية وتحالفاتها مع عائلات وتشكيلات من طوائف أخرى معظمها طوائف أقلية، إلى جانب تأييد محدود من عائلات سنية لبعضها مصالح تجارية) أن اختيارها المتطرف سيجعل أية محاولات للتعايش المستقبلي متعذرة دون تصفيات، وهي تراهن على تصفية خصومها والإبقاء على وضعية تفوُّق لا تكون موضع شك لدى الخصم، بحيث تحسم مواجهات الآن التفوق لفترة طويلة في المستقبل، وهو أمر يصعب الرهان عليه بمفرده دون وجود خطة بديلة لتقسيم البلد على نمط الكوريتين. أي أن مقتل بشار الأسد لن ينهي ميراث الدم والوحشية التي ارتكبت، فثمة قرار جمعي، اتخذه قطاع شعبي عندما أيد بشار ووافق على وحشيته، وليس من السهل العودة فيه لمجرد اختفاء رأس النظام، كما أن طلب الغفران من ضحايا هذا النوع من الارتكابات لا يمكن أن يكون سياسة أو سيناريو يراهن عليه أحد.

الإنسان السوري الذي كسر قيد الصمت، وقد عرف القاصي والداني كم كان هذا القيد غليظاً مقارنة بغيره في الدول العربية الأخرى، إنه قيد ينافس في غلظته وحشيته ما يعانيه شعب كوريا الشمالية، إنه القيد الأكثر وحشية في العالم وليس الإقليم، هذا الإنسان السوري الذي ضحى بدمه بسخاء، ولايزال، هو بوصلة الحرية ووقودها وأيقونتها، إنه كل الربيع في سوريا.

سيكون على هذا الإنسان أن يواصل الحركة وسط موجات الغبار الكثيف الذي يواصل نظام بشار الأسد شنه بإضطراد، لقد حاول ناشطوه على الفيسبوك مثلاً أن يجربوا مفردات أقرانهم في مصر: "كلنا الطفل حمزة الخطيب" على غرار "كلنا خالد سعيد". حتى الفتيات؛ ظهرت نسخة سورية لأحاديث فتاة على اليوتيوب تحمس الشعب وتستنهضه، مماثلة للشابة المصرية المهاجرة التي وجدت فيديوهاتها مشاهدين بمئات الآلاف وقت العصيان الكبير والاعتصام لإسقاط مبارك.

 لكن زخم هذه المفردات أصبح بحاجة لإعادة شحن واستخدام مفردات ومقاربات جديدة، لقد غطى غبار العنف وغزارة الدم، على بريق ولمعان الثورة، خاصة تلك الحالة التي كنا نشاهدها على وجوه الناس في سوريا لحظة انضمامهم لمسيرة أو مظاهرة، كانت صورهم رائعة، لمعة العيون بفرحة اكتشاف الحرية في داخل كل الشخص، وإعادة اكتشاف الثقة في آخر من نفس الوطن، كانت القيود قد منعت التواصل مع والاستئناس بالثقة فيه.


ضرب الثقة بالطائفية، حيث يقوم النظام السوري بتوزيع بعض السلاح على تشكيلات طائفية لمسخ الصراع، يجري بقوة للتغطية على بريق الحرية الذي كسا إنسان الربيع في سوريا. سيكون علينا أن نلتف حول إنسان الربيع في سوريا لأن تطئيف الصراع سيقضي على ما هو أبعد من الصراع في سوريا، سيقضي على تلك الثقة التي بناها أبناء الربيع في تونس ومصر وليبيا واليمن، الثقة في أن غد طيب سيولد من جهودهم حتى ولو بعد حين.
قد يتحدث الربيع في كل بلد عربي بلكنة ومفردات تختلف عن غيرها من بلاد اٌلإقليم، لكن المعنى واحد، حرية الشعب وامتلاكه مصيره معنى واحد، لو تم تشتيته وتضليله بأي أسلوب في بلد؛ بالطائفية أو بالتشدد أو غيرهما،  سيتمدد المعنى المتخثر في البلدان الأخرى.

أحمد غريب
 كاريكاتير: محمد صبرة

No comments:

Post a Comment