Saturday, October 5, 2013

قصة من أوراقي القديمة: عود ثقاب بارد ليلاً

عود ثقاب بارد ليلاً
 
 
(نشرت في جريدة الحياة 25/11/1994)
 
 
كانت الليلة الأخيرة قبل ترحيله، مشينا من ميدان التحرير حتى ميدان رمسيس. أخفى كل منا ابتسامته عن الآخر ونحن ننظر إلى العساكر الذين يجرون في الميدان وراء الميكروباص. بعد خطوات علق شارحاً: "العساكر كتير لأن النهاردة الجمعة، وفيه اجازات كتير".
استمر المشي. كنا نتحدث عن آخر أخبار كرة القدم، وعن استعداده للترحيل، وطلب مني أن أذكره بشراء ورنيش لتميع حذائه العسكري، فطلبت منه أن يذكرني بشراء لمبة لأن لمبة الصالة اتحرقت.
لم أنظر إليه طوال سيرنا.
تخطينا ميدان رمسيس ولم يدخل الفجالة حيث يسكن، قال في رجاء أخير: "أمشي معاك شوية وابقى أرجع". قلت له: "امبارح قرأوا الفاتحة، اتصلت بي قبلها وأغلقت الخط بعد دقيقة". لم يرد.
لمحته بسرعة، قصّر شعره لدرجة غيرت شكله تماماً، وأصبح قصيراً عما قبل. توقفنا وأشعلنا سيجارتين بصعوبة متوارين من الهواء في بعضنا، التقت عينانا بسرعة عندما رفع رأسه عن عود الثقاب ليجذب نَفَسَه الأول، بينما عبرت سيارتان مسرعتان.
طالما مشينا بعد منتصف الليل في شارع رمسيس، كنا نجري أحياناً وندخل في سباقات للمشي، عندما يخلو الشارع المزدحم نشعر بأننا نمتلك كل شيء.
وضع يده على كتفي قائلاً: "أنا راجع". عانقته لفتره ورأيت خلفه إعلانا مضيئاً بالنيون لمياه غازية يومض وينطفئ، كان الإعلان بعيداً، أبعد من الكوبري الذي يأتي بالسيارات من التحرير. ابتسم وأشار بأصابعه إشارة النصر فضحكت وسعلت وقلت: "تفتكر؟" ونظرت ثانية لإعلان النيون.
أسرعت خطوي متجاوزاً محطة البنزين التي وقف فيها ميكروباص ممتلئ بالجنود، منتظراً سيارة جيب سيزوكي من الطراز الحديث حتى يأخذ دوره. لم أذكره بشراء الورنيش ولم يذكرني باللمبة. التفت ثانية وأدركت أن الشارع خال من الناس. لمحت الرجل الذي يرتدي جلباباً مكوياً وحذاء لامعاً يخرج من شارع جانبي ويقترب مني. سألني كعادته كيف يمشي إلى باب اللوق؟ فقلت مضطرباً: "امشي على طول عشرين محطة" وابتعدت عنه، مشيت بسرعة ولم التفت، مرة واحدة رآه معي وسألنا معاً نفس السؤال بنفس الثبات وأجبناه بنفس الاستغراب.
لم أخبره بتكرار ظهور الرجل، كنت أريده أن يفهم وحده.
زادت برودة الليل وراودني إحساس بأن الرجل سيعود هذه المرة من خلفي، أسرعت وكنت خائفاً. تركت السيجارة تنزلق من بين أصابعي وهرولت، مرت السيارة الجيب بجانبي، سبقتني ثم مالت إلى جانب الطريق، وتوقفتْ ونزلتْ منها فتاة ترتدي تنورة قصيرة، كنت لا أزال أهرول مقترباً من السيارة، ودّعت الفتاة الشبان الثلاثة الجالسين في استرخاء، توقفتُ على بعد خطوات من السيارة بينما دخلت الفتاة شارعاً جانبياً فانطلقتْ السيارة ووجدتُ نفسي أجري بسرعة والهواء البارد يلسع وجهي، لم أر الفتاة إلا من ظهرها، هل قالت لي أحبك قبل أن تغلق السماعة؟ عاودت المشي حتى أعيد لتنفسي انتظامه، شعرت بجفاف في حلقي بينما مرت سيارة مسرعة، مرت سيارات أخرى مسرعة... هل هي...؟!
عندما اشتعل الثقاب اقتربتُ برأسي وهو كذلك، ولم يكن ممكناً تجنب التقاء عينينا.
ملتُ نحو شارعنا متجنباً الكلاب التي تقف عند الكراج، تخطيته بسرعة فنبح أحد الكلاب ثم رد عليه عدد منهم، لكني كنت وصلت إلى البيت، على السلم سمعتُ صوت القطط تقلب صفائح الزبالة فزعة من صوت أقدامي، ومرّت واحدة من تحت رجلي، فتحتُ الباب مضطرباً، ضغطتُ على مفتاح النور.. يوووه، نسيت اللمبة، اصطدمت ركبتي بكرسي فسرت رعشة في رجلي كلها.
توجهت إلى حجرتي بهدوء حتى لا أزعج أمي، رن جرس التليفون فرفعتُ السماعة،: "ألو" لم يجب أحد، كررتها "ألو.. ألو"، أغلق الخط، نظرتُ في الساعة فوجدتها الثانية بعد منتصف الليل. 

No comments:

Post a Comment